![](https://isaalbuflasablog.com/wp-content/uploads/2024/06/000.png?w=1024)
الأدب الأوروبي والأميركي الحديث هو الذي قاد تحول الوعي في العصور الأخيرة إلى اكتشاف عظمة الإنسان وصراعه مع القوى والمخلفات العتيقة التي تعيقه عن السيطرة الكاملة الحرة على وجوده وتألق روحه.
أسماء كثيرة بارزة في القرن السابق والحالي (العشرين) صنعت هذا الوعي عبر ممارساتها ومجاهداتها الخاصة العميقة، واكتشافها طرق سيطرة الإنسان على العلاقات الظالمة والشر والفساد. ومنها هذا الاسم البارز في أدب القرن العشرين: توماس مان، الذي نشرت له دار الهلال ترجمة رواية باسم (الموت في فينيسيا)، وهو الاسم الأوروبي للبندقية مدينة الجندول، والحقيقة أنها ليست رواية، بل أقصوصة تتكوّن من خمسة فصول. وتعبر الترجمة الجميلة التي قام بها بدر توفيق، عن هذه المعانقة بين الأدب العربي الحديث والأوروبي، حيث الأمانة الدقيقة والعمق والشاعرية في ترجمة الأصل.
كما تعبر من ناحية أخرى عن ضعف وجود توماس مان في أدبنا العربي، وغياب ترجمات أعماله الروائية الكبيرة، واكتفائنا بترجمة الأقاصيص التي سبق أن تُرجمت. فهناك ترجمة أخرى للموت في البندقية، ولكن لا توجد ترجمة «الجبل السحري»، «يوسف وإخوته»، و«المهرج» و«ماريود الساحر» و«الدكتور فوستوس» و«هنري الرابع» و«ال بودنبروك» وغيرها من الأعمال الروائية والقصصية والأبحاث التي كتبها توماس مان بين مولده سنة 1875. ووفاته سنة 1955، بعد حصوله على جائزة نوبل سنة 1929.
وتأتي أقصوصة «الموت في فينيسيا» في بواكير أعمال المؤلف، فقد ظهرت قبل الحرب العالمية الأولى، وفيها يبدأ بنقده الصغير لعالم الطبقة الأرستقراطية البروسية المتحكّم في مصير ألمانيا، هذا البلد العسكري، الذي وحّده بسمارك البروسي بجيشه الحديدي، والذي انطلق في حمى الصناعة والتجارة وغدا من أهم البلدان الأوروبية الرأسمالية من دون أن يمتلك مستعمرات كما هي الحال لدى منافسيه فرنسا وبريطانيا، ففجر حربين كونيتين راح ضحيتهما ملايين الناس.
الحياة في ألمانيا والوعي فيها من أخطر الموضوعات الثقافية الحديثة في العالم، وخاصة في مطالع القرن العشرين، حين ظهرت هذه الأقصوصة للمبدع الألماني الكبير.
ويبدو موضوع الأقصوصة مستهجناً ولا أخلاقياً الى حد كبير، فالبطل السابق ذكره، المؤلف المعروف، والرجل التقليدي، ابن الموظف الكبير، والذي كان أسلافه ضباطا وقضاة «رجالاً أنفقوا حياتهم في خدمة الملك والدولة»، والعقلية الوحيدة المختلفة بينهم جاءت من خلال أم البطل الكاتب وهي ابنة «قائد فرقة موسيقية بوهيمي النزعة»، هذا المؤلف يقع في افتتان مروع بفتى صغير جميل.
وفي هذا التأصيل فإن توماس مان يعطي الجوانب الطبقية و«العرقية» أهمية متساوية، فتبدو المكانة الطبقية الأرستقراطية أساساً للجم النزعات الإنسانية، كما يبدو «الدم» أساسا آخر لإطلاق النزعات الغريزية.
فهل كان العشق المرضي لغوستاف آشنباخ بسبب عدم سيطرة المثل الأخلاقية لطبقته ووجود ثغرة «بوهيمية» في العائلة، أم لسبب نفاقية وابتذال هذه المثل الأخلاقية في صميمها، حيث تُضفى على ذاتها أشكالاً أخلاقية سامية بينما هي في جوهرها وضيعة ومبتذلة؟!
توماس مان لا يقوم بتحليل خلفي موسع لهذه الذهنية وجذورها الفكرية والأخلاقية، بل هو يركز على البطل آشنباخ في قوقعته الفردية، فنجد السرد ينطلق لتتبع حركيته المادية والذهنية في الإعداد للرحلة، ومشاهدة بعض اللقطات العابرة والمهمة. والكاتب لا يراكم هذه المشاهدات اعتباطاً، بل هو يسوقها في تراتبية مقصودة. فإضافة الى اللقطات الهادئة العادية، والتي تعكس جمود العالم الاجتماعي من حوله، فإنه يرى مهرجاً يقوم بحركات خليعة مبتذلة ويكاد يمسه بلسانه الشبق. هذه اللقطة التي دخلت عرضا في سياق الأقصوصة، تعبر عن الازدواجيات المتعددة في حياة طبقة وسطى متجمدة مرائية.
فنزعاتها الجنسية المشبوبة مخفية تحت ستار من الرصانة والنفاق، وحين تتفجر مثل هذه النزعات على شكل مهرج فاضح مبتذل، تدرك القاع الذي تخفيه. كما ان هذه اللقطة العرضية سوف تكون تجسيدا لمسيرة البطل في رحلته القصصية القصيرة. فما كان في البداية على شكل ومضة ساخرة، سيظهر في النهاية على شكل مأساة مؤلمة.
وتغدو الرحلة التي يعتزمها الكاتب وينفذها طريقاً للحرية من زنزانة الحياة البروسية الثقيلة، من أجل إظهار النزعات البوهيمية الوحشية، في قلب هذه الحياة المدعية. اختيار مدينة البندقية للرحلة، ورؤية الصبي الجميل، والانبهار بشكله الملائكي، وقسماته الرائعة، هو تجلٍّ للتناقض الداخلي في الكاتب، حيث الرغبات المحرمة، وكسر الأطر المنافقة للمثالية الأخلاقية المصطنعة، والعودة للغرائز البشعة بدون تزويق جمالي وفكري.
وتتحول هذه العاطفة لدى الكاتب إلى هوس دائم بالفتى، فنجد مشاريعه الكتابية والتأملية وسياحته تتجمد لصالح هذا العشق غير المعقول، ليس فقط لفارق السن الكبير، وإنما لطبيعة العاطفة المريضة.
فكأن كل ذلك البناء الأخلاقي والسياسي البروسي الصارم، مجرد تزويق خارجي، وسرعان ما تظهر النزعات الوحشية المكبوتة.
أليس ذلك هو ما سيجري في ألمانيا لاحقا، بدخولها الحرب العالمية الأولى ثم ظهور هتلر، كممثل الذروة لهذه الوحشية البوهيمية المعششة في عظام الغرائز البروسية الأرستقراطية؟
إن توماس مان يضع يده على البذور الأولى للتجليات الصراعية في الوعي الألماني، ولكنه يمسكها بصورة خافتة ومحدودة. وليس ذلك إلا للفردانية الشديدة التي أغرق فيها البطل المحوري، ومحدودية الشبكة الحدثية والشخصانية التي يتحرك فيها.
فالسرد عبارة عن تأمل مستمر للمدينة وللفتى، ومناورات حدثية للاقتراب من الصبي وعدم الانفضاح، ما يغرق البنية المشهدية المتتالية في رتابة، تعوضها بعض الشيء اللغة السردية الشعرية العالية، وتجسيد أشكال الوعي «الرفيعة» للكاتب وتصوراته، ثم تفجير سلسلة الأحداث في النهاية، بدخول مرض الكوليرا القادم من الهند إلى البندقية. ويتحول مرض الكوليرا الى نذير شؤم ليس للبطل فحسب، بل للحضارة الغربية الرأسمالية.
فطيور الموت تحلق، والأوبئة المخيفة تستوطن المدن الجميلة، وتقفز الشواطئ والحانات والشوارع وتظهر الجثث في الساحات وعند المعالم الأثرية الجميلة. ولكن نذير الشؤم يصير فعلاً حقيقياً. فالكاتب الكبير لا يأخذ الإشارات المختلفة التي تنثر أمام شاشة بصره، مأخذ الجد، بل إن الهوى المرضي يستولي عليه، ويجد إشارات مغايرة تنبئ أن الفتى ذاته قد اهتم بهذا العجوز المعذب. إن صور الموت المتفجرة في ختام الأقصوصة هي نذير للحضارة الألمانية وما ستحمله من دمار للبشرية.