ما الذي يميز روايات الكاتب والروائي «جنكيز ايتماتوف»، وخصوصاً عمله المترجم الاخير الى العربية «ويطول اليوم اكثر من قرن»؟ وهل استطاع هذا الكاتب القرغيزي «السوفياتي»، ان يصعد بعمله الروائي، الى ذرى الاستبصار والاكتشاف للتحولات العميقة في وطنه المترامي الاطراف، المعقد السيرورة؟ هناك تنبؤات عديدة في اعماله الروائية الابداعية السابقة، تلمح الى ان سوسة البيروقراطية، الجمود الطفيلية، تظهر صغيرة هنا وهناك.
ثمة ارهاصات هامة في «وداعاً يا غولساري». وفي «النطع» ثمة قفزة هامة نحو تحليل واكتشاف هذه القوة المعرقلة للتطور. ولكن هذا كله يبدو بشكل مبسط فنياً، مع استخدام عناصر اجتماعية فاسدة صغيرة هنا او هناك. ان التطور الاجتماعي الروحي، المتناقض، المعقد، باشكالياته الاساسية، بدا خافتاً وبرعمياً في روايات ايتماتوف.
وفي روايته الاخيرة «ويطول اليوم اكثر من قرن»، الصادرة والمترجمة عن دار «رادوغا»، اوسع تطورا لتلك العناصر النقدية البرعمية، لمجمل استنتاجات وتعميمات ايتماتوف الفنية، بشأن التطور في بلده.
ثمة مضمار روائي سابق تم استخدامه هنا في هذا العمل وتم التوسع فيه، فبدلاً من ان يكون «غولساري» الحصان المحتضر، وسلسلة الذكريات المصاحبة للعلاقة الطويلة معه، فان البطل هنا، يديغي البوراني هو ايضاً يودع صديقاً قديماً شغيلاً الى مثواه الاخير، وتنشأ الذكريات وتنهال اثناء لحظات الوداع.
ان هذه الطريقة الفنية تتيح تعدد صور الذكريات، التي تبدأ من لحظة الوفاة،الى صورة المحطة وتاريخها، وانعزالها وعمالها القليلون وعلاقة البطل المحوري «يديغي» بشخصيات المحطة المختلفة، وتاريخه وعلاقته بزوجته..
ان هذا النمو الفني يوسع شبكة العلاقات، وتصوير الطبيعة والتغلغل في التاريخ القريب للشخصيات الاساسية في الرواية، ولكنه من جهة اخرى، يجعله تراكمياً، وكثير التفاصيل. ولا تغدو مسيرة دفن الجثة في مقبرة آنا رباييت، الا احدى مفاصل الرواية. بينما كان الحصان غولساري في وداعاً يا غولساري مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بحياة البطل وعمله.
وكان هو النسيج الاساسي في الرواية ورمزها المشع وبؤرة احداثها.
هنا تتعدد الثيمات وتتراكم الذكريات في جهات مختلفة.
فهناك الميت كازانفاب وعملية دفنه التي تواجه بعض الصعوبات، ثم هناك محور آخر هام لا يتصل عضوياً بحادث الموت، لكنه ينهل من ذكريات وحياة يديغي نفسه.
فأبو طالب قطبايف كان هو الآخر عاملاً لجأ الى هذه المحطة النائية وعاش فيها مع عائلته وزوجته ظريفة.
لكن نظراً لكونه اسيراً سابقاً عند الالمان في الحرب العالمية الثانية، وهارباً من اسرهم ومقاتلاً في صفوف الانصار اليوغسلاف، فانه يتعرض للاضطهاد من قبل المخابرات ويوضع في السجن.
ان ايتماتوف يقوم بتشتيت عناصر الرواية، فتترهل اجزاؤها وتغدو البؤرة المركزية، بؤراً متعددة، فتتحول الرواية الى قصص متعددة. وذلك يعود لان الصراع الاساسي الذي تفجر في البدء، بين يديغي وأبي طالب خصوصاً وغيرهما، ضد جوانب الشر الاجتماعي في المجتمع، قد تحول الى قضية فردية، وهامشية. وصار نقداً جزئياً للواقع، بدلاً من التغلغل الواسع في المجتمع وكشف مشكلاته المحورية، التي تفجرت فيما بعد بشكل، يجعل ذلك النقد الجزئي، ضيقاً ومحدوداً.
ان اختيارات الكاتب، لهذه البقعة الهامشية، محطة القطارات النائية، وشخصياته الشعبية المغمورة، وعدم وجود محور صراعي واسع وعميق، ادى الى تشتت العنصر الروائي الملحمي، وظهور عنصر قصصي قصير متعدد ومتراكم. من هنا اتسع وصف الطبيعة عبر لوحات جميلة مختلفة، وظهرت صور الحيوانات وحكاياتها، اذ ان عدم اللجوء الى الابطال، وانغراسهم في تربة يومية ضيقة، ضيّق دلالات الرواية، وحولها الى نقد جزئي محدود.
اما ادخاله للحكاية الفضائية فهذا باب جديد يطرقه ايتماتوف ولكن يعبر عن مشكلة روائية في عالمه الفني. فقد رتب في سياق رواية يديغي، حكاية خيالية عن اكتشاف كوكب جديد هو «الصدر الغابي» الذي توجد فيه حضارة «انسانية» عليا.
ولكن المسؤولين عن الامن الكوكبي في عالمنا «الاتحاد السوفيتي» و«اميركا» يطلقان صواريخ متعددة لمنع الالتقاء بهذه الحضارة، ويرفضان عودة رائدي الفضاء اللذين اتصال بتلك الحضارة العليا. ان ادخال هذا العنصر الجديد، يشير كذلك الى تراكمية العناصر الفنية في رواية ايتماتوف. ولقد حاول المؤلف، عبر هذا العنصر، ان يعطي لعمله دلالات فلسفية.
ليقول ان الارض الآن في حاجة الى تعاون مغاير وانساني. مما يمثل اصداء لمقولات «التنكير الجديد».
ان التغيرات الضخمة التي وقعت في «الاتحاد السوفياتي» تجعل مثل هذا الادب النقدي قاصراً بشكل كبير عن رؤية التيارات الصاخبة في القاع والمشكلات الحادة المتراكمة في العمق.
وهذا لا يعود فقط الى تفكير الروائي ايتماتوف، الذي يواكب تطورات الوعي النقدي داخل جهاز الدولة، ويقيد وعيه بمقولاته السياسية المباشرة، بل ايضاً الى طابع الرواية الذي اختطه، بالتوجه الى بؤر هامشية، والقاء ظلال نقدية محدودة حول النظام الاجتماعي.
فهو لا يتوجه الى البؤر المركزية، الى عمق جهاز الدولة نفسه، او الصراعات الاساسية في المجتمع ويقوم بتشريحها.. متسائلاً: لماذا انعزلت عنه الجماهير، ولماذا صعدت التيارات المثالية والدينية والقومية اليس ذلك نتاجاً لازمة بنيوية في النظام، عبر استئثار الارستقراطية الحزبية والدولية بالمنافع والحقيقة والقرار؟
لماذا لم تتجه روايات ايتماتوف، عبر العقود الماضية، الى مثل هذا التشريع وبقي، في احايين عديدة، في بقع بعيدة، شاعرية، اليس هذا الوعي نفسه جزءاً من الوعي المسؤول عن الازمة؟!
من هنا نجد ان تشتت العناصر الروائية، وكثرة اللوحات الجانبية، وهامشية المحور القصصي، كلها جزء من نظرة فنية تتجنب الدخول حتى الآن الى تشريح الازمة، داخل جهاز الدولة جهاز الحزب، ورؤية التناقضات بين مستويات المعيشة والتفكير والاحلام بين النخبة والشعب.