![](https://isaalbuflasablog.com/wp-content/uploads/2024/01/d985d8a7d986d8afd98ad984d8a7.png?w=840)
تعتمد الزعامةُ الديمقراطية المتطورة على تطور الشعب وميزاته، فهي نتاجُ الخصائص الذاتية للفرد ومستوى تطور شعبه معاً.
وليست هذه الصلابة والأفق السياسي المفتوح والتضحية سوى خصائص تشكلت في مجتمع متطور مختلف عن الكثير من البلدان الإفريقية.
وضع المهاجرون الهولنديون الذين يُطلق عليهم محلياً اسم (البوير) الأساسَ الصناعي الحضاري لتقدم هذا الجزء الجنوبي من إفريقيا، الذي اختاروه لطبيعته المعتدلة ولبعده عن العمق الإفريقي ولكنوزه وإطلاله على المحيطين الهندي والأطلسي.
احتاج المهاجرون الأوربيون إلى عقود طويلة لكي يتلاءموا ويغيروا هذه الطبيعة الخام لإفريقيا حيث الثروة الزراعية والحيوانية تحتاج إلى جهود طويلة من أجل تطورها، وقد تداخل المستعمرون الهولنديون والإنكليز في عملية السيطرة على هذا الجزء ودارت بينهم حربان، وأَخضعتْ إنجلترا هذه المستعمرة الأوروبية الإفريقية المتداخلة المشاكسة، وحين سيطر عليها البوير تماماً كرسوا نظاماً عنصرياً في منتصف القرن العشرين، مما دلَّ على جذورهم العنصرية الفكرية السياسية، التي أرادت إقامة حواجز غير ممكنة بينهم وبين الشعوب السوداء.
لقد تقدمت القبائلُ الإفريقية تدريجياً في جسم البوير السياسي الجغرافي، مقدمةً قوةَ العمل الرئيسية في المهن الصعبة الرثة في البدايات النهضوية، وحين تحول البوير إلى الطبقة الصناعية المالية الحاكمة في غالبية فروعها فإن قوى السكان الإفريقية تحولت إلى الطبقة العاملة الصناعية التي تشتغل في المصانع ومناجم الذهب والماس.
لقد تحولت جنوب إفريقيا إلى أكثر البلدان تقدماً في إفريقيا وغدت أكبر منتج للذهب والماس وغدت أكبر قوة مصنِّعة للسيارات والسلع المعمرة الأخرى وتحولت دول إفريقيا إلى الزبائن الرئيسيين لها.
هذه الأعمال الإفريقية الشاقة وهذه الأسواق المفتوحة كانت تتناقض مع البناء السياسي الذي أقامه الإفريقيون الجنوبيون البيض العنصري، حيث لم يُسمح للسود إلا بأعمال محددة ومُنعوا حق المشاركة السياسية وحق المُلكية، إضافة إلى عدم مساواتهم مع البيض في تقاضي الأجور وعزلهم في مناطق ومساكن خاصة، فحكمَ أربعةُ ملايين أبيض بقية السكان البالغة تسعة وعشرين مليوناً.
ولكن القوى التقدمية وخاصة جماعة الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا الذي أسسه المثقفون الأوروبيون في بداية القرن العشرين لعبت دوراً طويلاً في التصدي للسياسة العنصرية، والتحضير للتحول الديمقراطي ولالتحام شعب جنوب إفريقيا في شعب واحد.
وحين فرض البوير العنصريون سياسة الفصل العنصري تحرك الإفريقيون خاصة للكفاح المسلح ضد النظام، فتحولوا إلى فصيل مختلف عن بقية القوى التقدمية وخاصة البيضاء التي تؤيد النضال السلمي الطويل.
وكان الزعيم مانديلا من هذه القوى الشعبية ذات الجذور الإفريقية ولكن الكفاح المسلح الذي خيض لم يكن هو المحول للتغيير، فعلى أثر سجن مانديلا الطويل تحول هذا إلى رمز وطني وعالمي فتجمعت قوى السود والبيض ضد النظام الذي غدا متجاوَزاً من قبل التطور في القارة الإفريقية خاصة والعالم.
إن ضخامة الطبقة العاملة الجنوب إفريقية ونضالاتها الإضرابية والسياسية صدّعت النظام، وأزّمته، ولم يجد سوى التحول الديمقراطي وإعادة لحمة الشعب، فكان التغيير ذا فائدة كبيرة للطبقة المالكة الرأسمالية البيضاء، كما عكس رغبة الدول الغربية في التغيير السلمي الذي يحافظ على أكبر رأسمالية متطورة في القارة بدلاً من تسليمها لليسار الإفريقي وهروب الأقلية البيضاء.
التغيير أضفى تحولاً سياسياً على البلد ولكن التغييرات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الأغلبية الشعبية مشت ببطء، فغدا التحول العميق يتطلب انصهاراً أكبر للسود والبيض في بنية اجتماعية واحدة.
أسَّس مانديلا التحولَ الديمقراطي الوطني العام، وتحتاج التحولات العميقة في أوضاع الشعب العامل في غالبيته السوداء إلى نضال أكثر تطوراً وزعماء اشتراكيين ديمقراطيين ذوي صلات بمختلف طبقات الشعب.
مانديلا والصراعُ الاجتماعي في جنوبِ إفريقيا
انتمى نيلسون مانديلا إلى عضوية الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا وإلى عضوية لجنته المركزية، ولهذا فقد ثمّن الحزبُ دورَه المذكور ودوره في تأسيس وقيادة حزب المؤتمر الإفريقي قائد الثورة السياسية ثم المسلحة ضد نظام الفصل العنصري.
لكن سياسة النضال العسكري التي انتهت بالفشل وحجَّمت دور الجماهير الشعبية في النضال عكست اختلافات وصراعات عميقة في تطور دولة جنوب إفريقيا وقد رثى الحزب مانديلا بالقول:
«لكن المصالحة الوطنية بالنسبة إليه لم تكن أبداً تعني تجنب التعامل مع التفاوتات الطبقية وغيرها من التفاوتات الاجتماعية في مجتمعنا، كما يريد البعض إيهامنا في الوقت الحاضر. فقد كانت المصالحة الوطنية بالنسبة إلى مانديلا منبراً للعمل من اجل تحقيق هدف بناء مجتمع المساواة في جنوب إفريقيا، مجتمع متحرر من وباء العنصرية والنظام الأبوي والتفاوتات الفاضحة. كما أن المصالحة الوطنية الحقّة لن تتحقق أبداً في مجتمع لا يزال يتميز بالفجوة المتسعة من اللامساواة والاستغلال الرأسمالي».
لقد عكس البيان تناقضات عميقة في وعي اليسار وفي مجمل التطور الاجتماعي الجنوب إفريقي.
فقد ظهر مجتمعان في هذا التطور، الأول هو مجتمع البيض، الذي سيطر على الزراعة واستخدم السكان السود في تكوين الريع، كما استولى على مُلكية التعدين في الماس ثم الذهب ثم صناعات التعدين المختلفة، وأسس بهذا رأسمالية بيضاء قوية متطورة، يرفض بعض قادة اليسار الإفريقي اعتبارها حتى في مستوى رأسمالية البرازيل.
استيلاء الإفريقيين البيض على المدن ومنع الاندماج بين البيض والسود، وتشكيل تلك الرأسمالية المتطورة أدى إلى تدليل الفئات الغنية البيضاء ومعهم شرائح الهنود، حيث سادت الامتيازات بينهم، وبحسب إحصائيات البنك الدولي يحصل أفقر الفقراء السود وهم 40% على أقل من 4% من الدخل الوطني، بينما يحوز 10% من أغنى أغنياء البيض على 51% من الدخل الوطني.
هذا الوضع وجه قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي إلى شنّ الكفاح المسلح بدءًا من أوائل الستينيات، وغدا مانديلا رئيساً للجناح العسكري في قيادة المؤتمر، وفي 1962 تم اعتقاله، وفي عام 1964 تم الحكم عليه لتخطيطه لعمل مسلح بالسجن لمدى الحياة.
العملُ المسلح حوصر من قبل الدول الإفريقية العميلة للبيض ولم تستطع المجموعاتُ المسلحة أن تتغلغل في جنوب إفريقيا، وتعرض بعضها للتصفيات، كما أن انقطاع هذه المنظمات العسكرية عن السكان قاد التنظيم ككل إلى المغامرة والانفصال عن الزخم الشعبي، ولهذا فإن سجن مانديلا الطويل كان وجهاً لضعف هذا النضال وهزيمته في النهاية. وكان قادة الحزب يذهبون إلى فيتنام ويرون التجربة هناك ولكن بدون توظيف لها.
ولكن الصفقة المحلية والغربية لإنقاذ النظام في ظل أزمته التالية، خلقت نظامين متناقضين في الدولة التي أزالت التفرقةَ العنصرية وتحولت إلى دولة ديمقراطية. فقد بقيت الأقليةُ البيضاء الطبقةَ الحاكمة في مجال الاقتصاد، فيما غدت قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي قيادة سياسية تتأثر بالاقتصاد الرأسمالي الأبيض ونفوذه، وكانت إمكانيات الطبقة العاملة السوداء ومؤيدوها من العمال البيض لا تسمح بالتأثير الواسع على النظام الاقتصادي القوي.
وهكذا عبّر انفصال مانديلا عن القيادة إلى غياب الدرس العميق لكيفية استثمار زمنية الحرب المسلحة في التطور السياسي الاجتماعي للأغلبية العاملة والفئات الوسطى المؤيدة، والتي لم تستطع أن تكون حتى طبقة وسطى من الملونين.
ومثلّت صراعاتُ القادة وتبدلاتهم في قيادة المؤتمر الإفريقي بتهم الفساد طبيعة الازدواجية في المجتمع، مثلما جاءت مشكلاتُ عائلة مانديلا وصراعاتها، معبرة كلها عن غياب التراكم الديمقراطي والعلمي في قيادات السود، وعدم قدرتهم على تكوين قيادة جامعة بيضاء وسوداء لجنوب إفريقيا الموحّدة الديمقراطية.
وبقيت جنوبُ إفريقيا ذات أغلبية فقيرة وأقاليم غنية مرفهة وأقاليم معوزة، وهي تتوجه نحو صراع ثنائي عميق انشطاري يؤسسه اقتصادٌ رأسمالي متطور في أقاليم المدن الكبرى واقتصاد ريفي متخلف في البقية من جغرافيا الدولة.
ويعتمد قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على مقولة بناء رأسمالية دولة يقودها السود سياسياً واقتصادياً تربط قواهم في العاصمة بالأرياف، ولهذا يقوم أحدُ قادتهم البارزين بمدح الاقتصاد الصيني ونموذجه، وخاصة مع تحول الصين إلى أكبر مستورد لجنوب إفريقيا.