![](https://isaalbuflasablog.com/wp-content/uploads/2024/01/d8b9d8a8d8afd8a7d984d984d987-d8aed984d98ad981d8a9.png?w=1013)
للشاعر أحمد الشملان تجربة طويلة مع الشعر، وقد تقطعت وتلونت عبر السنين، وفي ديوانيه الاثنين (زنابق العشق)، و(الاخضر الباقي) بعض شواهد وثمار هذه التجربة الطويلة المضنية، ولعل الديوان الأول (زنابق العشق) أكبر الشواهد على معاناته وصبره في خلق الشعر، وقد كتب الديوان في ظروف خاصة، تجعل من كتابة الشعر عملية صعبة مضنية، ولكن متأنية ومعمقة، بخلاف الديوان الثاني (الأخضر الباقي)، حيث تتسم القصائد بالقصر والومضة السريعة ويعكس لحظات حياتية متبدلة.
في الديوان الأول نجد مطولات، يمكن أن تمثل قصائد مهمة في تجربة الشعر البحريني الحديث مثل (المخاض) و(زنابق العشق) و(افياء الشنفري)، وخصوصاً القصيدة الأخيرة، ذات النفس الملحمي، التي تتجه لتكوين صوت تاريخي – معاصر، وتلبس قناعاً تراثياً تشاهد فيه الوقت الراهن، عبر تحولات معقدة، وتلونات خصبة.
الديوان الأول يمثل خبرة طويلة وتجارب متعددة متلونة، وككل التجارب يحوي الإيجابي والسلبي، عناصر الشعر والنثر، التلقائية الشعرية والنحت الأيديولوجي. ونحن سنحاول هنا ان نلقى بعض الملاحظات السريعة على جوانب رئيسية في الديوان الأول، مستعرضين قصيدة واحدة، بشكل ملموس.
في قصيدة (المخاض) ص 64، نقرأ قصيدة بضميرين، ضمير (النحن)، ضمير المرأة، الحبيبة، الأرض، التغيير والتحول أيضا.
ضمير النحن، ضمير الشاعر، هو المخاطب للمرأة الحبيبة، المتغرب عنها، المشكل لها، وهي المرأة الرحم، الأرض، القابلة للتشكل والولادة، بنتاج الفعل الذكوري، التغييري، القادم.
هذان الصوتان ينفصلان، يتغربان، يتوحدان، في توليفة شخصية – جماعية، يتوحد فيها العام والخاص، الطبيعي والاجتماعي، السياسي والعاطفي.
في البدء يقول (كاشفينا/ قادمون نفضح السر/ وجرحنا منفطر/ غابات حزن/ ومروج/ ومدينة/ رفعت استارها تنادينا/ عناقيد النساء في النوافذ / ترتشينا).
فإنه يجسد اللحظة الأولى للعلاقة بين صوت الشاعر، الجماعة، وصوت المرأة – الوطن – الأرض. إن الشاعر قادم لقول مثير، لفضح الأسرار، التي هي جراح المدينة الحزينة ومروجها.. فهو لا يأتي لرشف قبلة فحسب، بل لفعل تغييري عام، أو قل إن فعل الحب الشخصي، وفعل التغيير العام، يتوحدان في فعل واحد هو الخصب، المقابل المضاد لحياة الموت والحزن والجفاف. فكل اشياء المدينة واحزانها وبطون النسوة، تنادي فعل الخصب الذكوري، التغييري القادم.
وهذه اللغة الشعرية تستفيد من أجواء القصيدة التموزية، ذات النسق المعروف، بامتداداته الاسطورية والية وعيه الخاصة.
وتبدو اللغة الشعرية، في المقطع المذكور، مترددة، بين التعبير الأول، والتعبير الأخير. حيث هو في الأول (كاشفينا)، مما يعطي المرأة، الارض، كل الفعل والبرح والحقيقة، في حين يبدو التعبير الأخير (ترتشينا) قلقاً، ولا أعرف كيف تمت الصياغة هنا، لأن الفعل أصله (أرشت) فينا، بمعنى امتدت العناقيد فينا، فصرنا منها وامتداداً لها.
إن الشاعر – على ما يبدو – يعد صياغة الفعل صياغة خاصة به، لكنها صياغة قلقلت المعنى، في حين أنها كانت حرية أن تفجره.
لكن حسب تدفق المعنى، تناسقت الكلمة الأولى والأخيرة، فغدت مكاشفة المرأة الوطن، أساسية في خلق فعل الكلام – العمل القادم، فامتدت الذكورة في الانوثة خصباً، وعناقيد، وافراحاً، وصار الفعل التغييري تبديلاً للحزن والموت.
وإننا نجد هنا المسافة الديمقراطية بين الرجل والمرأة، بين التغيير والوطن، حيث لا يمتلك قطب السيادة، بل يتداخل القطبان، ويلتحمان عبر عملية تأثير متعددة الجهات.
لكن هذا التوحد الجماعي سرعان ما ينفصل، فتغدو المرأة ـ الرمز إنسانة ما، ويغدو الصوت الجماعي، صوت الشاعر نفسه، يبدأ (الخاص)، رحلته المتفردة، فبعد أن كانت المرأة طيفاً، أو كاهنة. وهذا هو نسق القصيدة التموزية، قصيدة البعث الأسطوري في نموها. وبعدها يتوحد الشاعر بالشقائق والحرائق، ويتدثر بالماء، و يُبعث نبياً، وتتوحد أشلاؤه بالمرأة، تربة تنبت اشجاراً وينابيع، وهي تمر بما يشبه دورته التموزية الاسطورية، فتصير بين الحواريين – تلاميذ المسيح – وتدخل الموت، حين سكن يونس، وتغمر الأفلاك، تعود في نهاية المقطع، لتتحدث بصوتها الخاص، بلغتها الأنثوية، لا كرمز أسطوري يطرف بعوالم غريبة كامرأة: (زغرد النهدان قبل التاسعة / وعلى حفيف العاشرة/ ترملت).
هذا النزول الحاد للأرض، للأشياء اليومية، للمرأة بعمرها، وتكوين جسدها، فيه مغايرة للعنصر الاسطوري التموزي، أنه حكي لليومي، أنها التفاتات لشعر الحياة، لا لشعر الأسطورة.
لكن الشاعر لا يتوغل أيضاً في الصوت النسائي، ليمنحه سماته الخاصة، نوافذه، ثيابه الذابلة، حاراته الحزينة، فسرعان ما تعود المرأة الى التحول رمزاً، الى شكل الأرض والتاريخ، ويعود هو بدوره الى رمز الخصب، المفارق، البعيد، الناضح غربة وحزناً، المتحول اشكالاً وظاهرات طبيعية وكونية واجتماعية.
إن هذا التردد الخاص والعام، رغم اشكاليته، يمنح الرمز المجرد أنسنه وظاهرات ملموسة ويغنيه عبر التلون وإضفاء المشاعر، لكن تراكم التردد ونموه الكمي، لا يخصب القصيدة بتحولات جديدة، بل يؤدي إلى إطالتها وتشتتها.
فالصوت النسائي، على سبيل المثال، يتنهد، ثم يوقظ الشمس، ويهاجر ليمنعها من الغروب، ويمنحها التوهج، لتمنحه الشمس بدورها الحمرة، من أجل نمر وبقاء الشاعر، الطفل، الصوت المتواجد داخل رحم الأرض، لكي يدفأ، ويقرأ التشريق والتغريب، وكذلك انعطافات الفصول، وليضع النقطة حيث تعدو الفاصلة.. هذه العملية الفلسفية الفكرية التراكمية تصير عقلانية، تحكمها أدوات النثر من ربط ووصل وتحليل. في حين كانت العلاقة واعدة وثرة، عبر ادوات الشعر التي ظهرت في البداية، مكثفة، مشعة.
ويستمر الشاعر في (نثر) هذه العلاقة الفكرية، عبر صور متعددة، تحكمها أدوات الربط النثري والعقلنة، لكنه يتخلى في أحيان عديدة، عن هذا الطابع العقلي النثري، ليصور العلاقة بشفافية عاطفية غنية، كالمقطع التالي:
(وحيدة رأيتها/ واقفة على جدار الغمام/ توزع الضوء البنفسجي طحينا).
ان الشاعر حين يستجيب لتدفقه الانفعالي، وينسحب من مناخات القصيدة التموزية، وتتدفق الصور المعبرة، المنتزعة من ظاهرات الحياة اليومية والمعاناة الحقيقية، ينمي العملية الشعرية الابداعية، وهو يفعل ذلك مراراً، حين يدع الصوت النسائي يعبر عن هواجسه الشخصية، ومرارة الانتظار، أو حين يكمل الصوت الرجولي، اللوحة من الجانب الآخر، عبر عذاب الغربة والنفي والبرد والجوع والحب، حينئذ تنمو اللوحة الشعرية.
ولكن حين يحول هذه العلاقة الشخصية الحميمة الغنية بدلالاتها وذاتها، ويريد (ربطها) بعوالم أخرى، فيسيطر عليه هاجس رسم اللوحة السياسية، يبدأ (النثر) في الاستيلاء على عالم الشعر.
حين يقول (قفي نتكئ/ صخرتين بلا قرار/ لنبذر العصافير جفونا/ تبدد البكاء)، يشكل الشعر، رغم انه بعد لم يطلق ذات الداخلية، بهواجسها وضعفها وقوتها، ولا تزال صورة القوة الحديدية والعطاء اللامحدود تظلل اللوحة، ولكن عندما يقول (هاجرت أمنعها الغروب/ أمنحها التوهج/ فتمنحني حمرة للذي بالرحم لكي يدفأ)، فالصورة ذاتها منتفاة، وغير شعرية، وتأنى كثرة أفعال الربط وروح التحليل والتفسير، لتبعدها عن روح الشعر.
وجرد الحالة الشعرية القوية، ووجود الحالة النثرية العقلية، جزء من تراكم بنيتين شعريين متناقضين. الأولى نتاج بنية الشعر الحياتي، التي تنبع من ظاهرات الواقع الحقيقية، من هواجس الشاعر واحلامه والامه، وتضاريس الحياة التي يصارعها ويحولها.
والثانية هي بنية الشعر الاسطوري ومناخاته الفكرية العقلانية، ثم امتداداته السياسية في عملية التبشير الأيديولوجي.
في بنية الشعر الأولى ينمو الشعر ببساطته وتألقه، ويندفع من مسام الصوت الشعري، وهذه البنية لم تتطور بشكل واسع في القصيدة نظراً لخنق الأيديولوجي للشعري.
وفي البنية الثانية يصعد الشعر نحو عالم الاسطورة والربط السياسي.. مما يقلل من تنامي البنية الاولى.
لنأخذ المقطع الأخير في القصيدة لنرى هذا الصراع بين البيتين:
(زنابق هنا / وهنا زنابق / لقحيها بالرياح.. بالبحر/ بأطلال النخيل/ وغداً عند الصقيع/ يأتيها المخاض/ فتأخذ شكل أحلام البكارة / شكل اقمار السهر/ قبل السفر/ لتنداح الإشارة) ص 85.
فألم الأرض، وعذاب الحبيبة، يتشكل عبر بذور هنا وهناك، لتغدو في خاتمة المطاف ربيعاً وانفجاراً. ويبدو التسلسل العقلي المنطقي واضحاً، والمقدمات تأتي بعدها النتائج الحتمية.. هذه العملية تمثل ادلجة فكرية وتضعف تنامي الشعر المليء بالعواطف الحارة والتحولات والنماذج لا القوالب.
وحتى في هذا المقطع التقريري تبدو امكانية الشاعر قوية في الصياغة وابتكار الصورة وخلق الإيقاع الموسيقي، ولكنها لم تأت (عفوية)، وهو يمتلك العديد من النماذج والمقاطع والقصائد – القوية المعبرة، ولا نستطيع في هذه اللمحة القصيرة أن نتجول فيه كلها.