على خُطى الشعر العامي الساخر ودعابة بيرم التونسي الجارحة الفكهة، توغل الشاعر عبدالرحمن رفيع في عالم فريد، خاص، بسيط وعميق، شفاف ولاذع. استطاع به أن يكون شاعراً متميزاً.
واتجاه عبدالرحمن رفيع لشعر السخرية المرُة، والنقد الضاحك المؤلم، هو طريق شقه منذ سنوات بعيدة، وتمرس فيه وأبدع، ولكن هذا الدرب لم يرض عنه النقد والأدب الجامد، في حين استقبله الجمهور بترحاب كبير .
لم هذه المفارقة الغريبة ان يكون رفيع مطروداً من دائرة النقد والضوء الادبي، ومحبوباً لدى السامع والقارئ ؟
ليست اشعار رفيع ساذجة ومسطحة، ولا مقعرة ومفتعلة، بل هي لغة البساطة الشعبية التي لا يستطيع أي فنان أن يصل إليها إلا بشق النفس.
لماذا استطاعت هذه اللغة أن تكون معروفة وشائعة لدى رجل الشارع؟ ما هو السر وراء هذا التغلغل والبقاء في الذاكرة العامة ؟
في قصيدة عبدالرحمن رفيع، هناك عادة حكاية، قصة ما، تنبثق منذ أول كلمة لتتنامى في معمار خاص، ويتيح هذا البناء القصصي، للشاعر، تكوين مشهد مرئي حي أمام عين المتلقي. وبفضل هذا المعمار والبناء، تنتقل حرارة ووهج الحكاية إلى ذات المتابع.
وضربات عبدالرحمن رفيع بفرشاته الشعرية – القصصية دقيقة وسريعة وموحية. وهي تبني بلا توقف هذا المعمار الحدثي القصصي بلا إبطاء او تعثر.
في قصيدة (الايسي العظيم) – راجع ديوان (بحر وعيون) دار ذات السلاسل ص 69 – نرى هذا التكنيك السريع المعبر:
[إخواني وأهلي يشتكون/ حرّ شديد ما يهون/ حبه ورا حبه العرق، ينزل او يدخل في العيون/ قلت: اشتريلهم مروحة/ تنفعهم في ليل وضحه] .
انه منذ الكلمة الأولى يدخلنا أجواء الحكاية، ويصور أحوال الشخصيات، بلمحة سريعة، وبصور دقيقة مكثفة. فالحر حبات من العرق تنهمر وتتوغل بملوحتها في العيون، وعبر هذا الرسم المصور دخلنا اجواء العائلة الفقيرة المعدمة، حيث المكيف الجديد حلم من الاحلام. والراوي/ الشاعر، يصور رحلته نحو هذا الشراء للمكيف المستعمل، وكل لقطة من لقطات نمو الحكاية هي لفتة ساخرة، وضحكة نازفة، ونقد عميق وفكه للمجتمع.
[صبريت على الجوع والقهر/ والعيشة ويل/ لين ما جمعت جم نوط خضر/ وقالوا لي سيل/ واتوكليت].
هكذا تتنامى الحكاية وسط دغل الحياة الصعبة، وتظهر لعبة المفارقات بين البطل الفقير والسوق المليء بالمال والبضائع. وحين يشتري الراوي المكيف، يتحول هذا إلى بطل له سماته وشخصيته الضخمة المنتفخة ولكن الفارغة والمعطلة!.
فقد أحضر المكيف الضخم إلى الحي الفقير، وتجمهر الناس حوله، وكان ثقيلا، حمله خمسة رجال، وكادوا يسقطون على السلم، ثم اتضح ان المكيف ليس سوى حديد خردة لا ينفع بشيء!.
فن خلق الحكاية بأجوائها المصورة الملموسة، وبومضات من اللغة هو ما يشد القارئ إلى شعر رفيع .
لكن هذه الحكاية لا تتجسد عبر طريقة جافة، بل من خلال النكتة والمفارقات. فحتى أثناء وصف السوق الذي يندفع فيه الراوي، نلمح هذه النكتة السريعة
[سوق المنامة سوق عجيب / اتلاقى فيه ما تشتهى/ بس خرخش المخبه وييب/ كل المحلات تعشقك/ ان كان في مخباك الحبيب!].
إن من ملامح تجربة رفيع هذا التصوير الدائم لعالم المال والأغنياء فالسوق والنواخذة وتجار الأسهم دائما حاضرون متجسدون، ضيقو الأفق، بخلاء، نهمون، مندفعون إلى الثروة.
ولكن في هذه القصيدة (الايسي العظيم)، ليس ظهور السوق، سوى أمر عابر. ولكن يشكل تضاداً مع عالم الراوي الفقير الباحث عن مكيف مستعمل.
وتنامى الحكاية يتم عبر صراع فكاهي وساخر، فالراوي يتصارع مع هذا المكيف الضخم، ويحلم ببرودته الساحرة، ثم يصاب بالخيبة لفواتيره وتصليحاته وموته!.
إن النكتة هي في الموضوع ذاته ولكن هذا الموضوع العادي يحمل قضية عميقة، حيث يتبدى الصراع بين الإنسان البسيط والظروف الصعبة حوله. فليس المكيف سوى تجل لهذه الظروف. وتركيز الأمر عليه، هو اللغة الساخرة، القادرة على التغلغل في الشعب، وكشف حياته الصعبة.
واللغة التي يعتمدها الشاعر هي لغة الحديث اليومي، ومن هنا جاءت جملتها المنسابة، بلا افتعال، وصورها المأخوذة من مجريات الحياة، ومن هنا تغييرها للقصيدة الكلاسيكية المقفاة، مع الحفاظ على وحدة التفعيلة، والتزاوج بموسيقى خارجية، وقافية مرنة ومطواعة لتشكيل الحدث القصصي – الشعري.
وتتداخل نزعتان في شعر رفيع، أولاهما رومانسية عذبة، رقيقة شفافة، تعبر عن حس الشاعر العميق، وشعوره بغربة كبيرة في هذا العالم الحديدي الغريب.
ان الماضي، يلح إلحاحاً شديداً على الشاعر. ومن هنا هذه الصيغة اللغوية المتكررة، أو هذا الاستفهام الفاجع بتغير الزمن: (تذكرين؟)، وهذه المفردات والصور الدائمة عن السفن واللؤلؤ والبحر وبيوت السعف والنوافذ الخشبية والحارات القديمة.
[أحن للجبهة السمره/ أحن للوزه والبسره/ أحن للصوت واليا مال والشيلات/ والسمره].
إن الوطن، كثيراً ما ظهر لديه، كرمز يعيش في الماضي، متوحداً مع ركائز البحرين القديمة، والتي تتعرض لرياح العصر العاصفة. ومن هنا يوجه بصره إلى ذلك الماضي الجميل المندثر، بحرقة.
وهو يدرك أن هذه التغيرات الحادة الفاجعة، وعلاقات الغربة المتفاقمة، وروح المال القاطعة للحم الإنساني. وهذه هي النزعة الثانية، إنها النزعة النقدية الإنسانية، التي تطور الوعي الرومانسي، إلى تغلغل سافر في العلاقات البضاعية المتفاقمة. ولا يوجد في شعرنا من استطاع أن يتغلغل في الحياة الرأسمالية الحديثة ويعبر عن نتائجها الروحية كما في شعر رفيع. عبر بساطة ساحرة و لغة شعبية فكاهية.
[وشب الفريج طابوق / والناس عنه اتفرقت / ودش السكيك السوق/ والآدمي مثل التنك / يحلى ويصير سكراب / بيعوني في سوق الحراج!].
إن رومانسية رفيع لا تقف عند الحلم بالماضي، بل تقرأ تضاريس الحاضر وأضلاعه الحديدية الحادة.
عبدالرحمن رفيع : كتب ــ عبدالله خليفة
أضف تعليق