أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ ! 

تعريف العلمانية

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة 


 لفظُ العلمانيةِ لم يكن معروفاً في اللغة العربية، فتراثُ العرب يجهله، مثل مصطلحات حداثية غربية عديدة، فالبنية العربية الاجتماعية العامة لم تعرف الحداثة كبنية، بل كأجزاءٍ مفتتة، وكمحاولاتٍ مُجهَّضة.
(فالعلماني هو الشخص الذي يهتم بهذه الحياة الدنيوية ويتحركُ بمقتضى معيشته الدنيوية ولا يفكرُ في شيءٍ آخر ولا يعمل من أجل هدف آخر ولا يملك حساباً في حياته خارج هذه الدائرة. هذا  هو معنى العلمانية بشكلٍ دقيق)، عبدالكريم سروش، التراث والعلمانية، ص 98، دار الانتشار العربي.
(تارة تـُقرأ بفتح العين «عَلمانية» فمادتها علم)، فهي مأخوذة من عَالم، أي التمظهر بمعالم الدنيا. (أما القراءة الأخرى لهذه المفردة بكسر العين «عِلمانية» تقرأ بالكسر)، تعطي معنى العلمي.)، السابق، ص 94.
دخلت لفظةُ (سكولاريسم) العربيةَ منقسمةً، وبالأحرى فإن مثقفي العرب في مرحلة التنوير انقسموا حولها، دخلتْ الحركاتُ العربية الإعرابيةُ فيها، فتباينتْ القراءاتُ لها.
إن تباين القراءات هو جزءٌ من تباين المواقف وتحولاتها، ودائماً تأتي المصطلحاتُ الغربيةُ من بُنيةٍ غربيةِ ذاتِ تطورٍ تاريخي مختلف، تحملُ مضامينَ زمنيتها في تلك البنية، لتدخل بنيةً عربيةً ذات سيرورة مختلفة، ويتم النقلُ بدون إدراك للفروق ولبصمات التاريخ عليها.
لم يكن للإسلام تلك الهوة التي وجُدت في أوربا العصور الوسطى بين الدين والدنيا، كانا مختلطين متداخلين، ولم يكن ثمة طبقة كهنوتية حسب الإسلام الأول المؤسس، كان هذا المؤسسُ يتعمدُ التباينَ عن المسيحية الرهبانية، والافتراق عنها بالبشرية الدينية الأرضية الطينية الفرحة بالعالم، كان مشروعه أمة مختلفة، شعبية، لا ملأ فيها، ولا تناقض بين صورتي العالم، صورة العيش الراهن وصورة الخلود. ولا فصل للدين عن الحياةِ، والحكمِ، والحكمُ غيرُ مفصولٍ عن صنع الناس. عبر رؤى القرون القديمة المسيرة حسب خطط الغيب المصنوعة المتداخلة في مادتها بفعل البشر. وقد جرتْ هذه الصورةُ الدينيةُ خوفاً من عودة الملأ، لكن الملأ عادَ مع هذا وصاغ الدينَ الرسمي.
والكثير من الشعوب قامت على خلاف تاريخ المسلمين اللاحق الرسمي، فصلتْ مؤسسات الدين عن الحياة الاجتماعية، لم تجعل مؤسسات الدين تتدخل بشكل يومي ودائم في حياة الناس.
لكن هذا العام لم يكن كلياً فرجال الدين يتدخلون في حيوات الشعوب بأشكالٍ مختلفة، بعضها خارجي تثقيفي، وعبر منعزلات: غابات البوذيين، والرهبان في الديانات الهندية، وأديرة الرهبان المسيحيين في آسيا وأوربا وأفريقيا. وقد صعدت الكنائس في العصر الوسيط الأوربي وقامت بحكم شامل عبر كنيسة روما، بعد أن أختلف الأمراء وتفتت الدول، أي بعد إنهيار أهل السياسة. وهكذا فقد عرفت أغلبُ الشعوب العلمانيةَ كجذورٍ سياسية، وحين تحكمتْ الكنيسةُ الأوربيةُ في كلِ شيء، وظهر مثقفون وبشرٌ خارجَ سيطرتِها أطلقتْ الكنيسةُ عليهم لفظةَ علمانيين، أي أهل دنيا وليسوا أهل آخرة. بعد أن إحتكرتْ الكنيسةُ الدنيا والآخرة. وتفاقم هذا التناقضُ بين أهلِ الدنيا وأهل الدين، بين الطبقات الوسطى الجديدة التي تريد حياةً، وأصحاب الضياع الكنسيين والملوكيين المسيطرين على الحياة وخيراتها، ووصل لدى الطلائع إلى عداء هائل، وإفتراق. كان هذا هو المصدرُ الأوربي للفظةِ العلمانية.
ولم يفهمْ بعضُ المثقفين العرب هذا المصطلح على هذا النحو وهو يأتي مدموغاً بالقفازاتِ الحديدية لكنيسة روما، لأنهم كانوا يزاوجون بين الدين والدنيا، لم يشعروا بوجود كنيسة متسلطة عليهم، وكانوا يرون الدولة العثمانية المحتلة والدول الغربية كعدو. وكان العديد من رجال الدين يشاركونهم الصراع الوطني. لهذا فإن القراءة الأوربية تعدلت عندهم. لكن القراءة الأخرى راحت تنمو.
كانت الديانةُ الإسلاميةُ المؤسسة لم تخلق مؤسسات دينية رسمية مسيطرة، واعتمدت على التمايز بين من يفقه الدين وعامة الناس وازدادت الهوةُ بين الفقهاء والعامة مع الفتوحات ودخول الملايين للإسلام، كما كثرت الموارد من ذلك.
لكن الفقهاء الكبار نظروا للتثقيف الديني ونشر الأحكام كعمل تطوعي، رغم أن بعض المؤمنين راح يغدق عليهم بعض الهدايا والأعطيات، ورفض هؤلاء الفقهاء عموماً مثل هذه الهدايا، واعتمدوا على دخولهم الخاصة، وقد كانت معيشتهم بسيطة، وحاول بعض الخلفاء إلحاقهم بالحكم والتحق العديد من رجال الدين بالأنظمة، وتوجه الفقهاء المعارضون للاعتماد على تبرعات المؤمنين، ومع ازدياد صعوبات المعيشة وضربات الدول للفقهاء المستقلين المعبرين عن روح الشريعة، اختفى الاستقلال الديني وتم إلحاق رجال الدين بالأجهزة الحكومية.
 في البدء كان ثمة طوائف تدعو وتفقه، دون أن تمتلكَ سلطةً، ومنع تحولها لسلطة عملية توزيع الخيرات بشكل عام، ووجود عرب قبليين أحرار، وغياب الأسوار من بين من يَحكم ومن يُحكم، ومشاركة النساء الواسعة في الحياة السياسية، وفي الحياة الاجتماعية القبلية، وصعدتْ عقلانيةٌ جنينية تفصل الأسطرة والتخريف عن الثقافة العامة. هذا كان من حيث الحكم مقاربة لتاريخ العرب القبليين الذين يجعلون الحكم الديني ثانوياً وهامشياً.
وبعد تغير هذا الأساس الاجتماعي فإن الحكمَ السياسي ظل هو الشكل الرئيسي من جهاز الدولة، ولكنه كان محتاجاً باستمرار إلى الدين كأدة سيطرة أيديولوجية على الجمهور، الذي راح يعارضُ الأساسَ الاجتماعي لحكم الأقليات. وعلى مدى القرون التالية تحول الدينُ إلى شكلٍ آخر للسيطرة السياسية، فحدثتْ قراءاتٌ رسميةٌ مُـقطَّعة وإنتقائية للقرآن حسب مصالح النخب الحاكمة والذكور، وإلى تدخلات واسعة وعميقة في حياة الجماعات والأفراد، فلم يعدْ ثمة شكلٌ من أشكال التجمع والتعبير والتفكير لم يتم إدخالَ الدين الرسمي فيه، وكذلك فإن الفردَ يغدو مسيطـَّراً عليه من بدءِ ولادتهِ حتى دفنه. وكل هذه السيطرة تجري من أجل طاعة الجماعات والأفراد للمؤسستين المشاركتين في إستغلالهم. وتتوزعُ هذه السيطرةُ وتتنوعُ وتتداخل، خاصة في حالةِ الانسجام بين المؤسستين السياسية والدينية.
ويرتكز التقييدُ المشترك على الحياة العقلية والحياة السياسية، فهما أداتا التحويل للمجتمع، فكانت عملياتُ إنتاج الوعي الديمقراطي محدودة جداً، وإذا جرت فهي من داخل القوالب السائدة.
لقد واجه المسلمون سيطرتين مزودجتين طويلتين وعميقتين ورهيبتين، ومن دولة كبرى إلى فسيفساء سياسية، وإلى دمج الخرافة في الحياة اليومية، وإلى تشويه البشر، بحيث جاءت الدول الغربية الاستعمارية كمنقذٍ في بداية الأمر وبوابات لعالم جديد!
ومن هنا راح المسلمون يتفتحون وينقلون أدوات التقدم، وأحياناً يعتبرون أن تقدم الغرب هو من نتاجهم، لكن الغرب أفتتح عالماً مختلفاً ومثّل قفزة اقتصادية نوعية، وصنع ثورةً جديدة في تاريخ البشرية. وقد تم ذلك بشكلٍ إستغلالي، بطبيعةِ العلاقات التي كونته ورفعته إلى حكم العالم، ولهذا أنعكس ذلك على ترجمته للعلمانية، ففهم بعض المثقفين العلمانية كشعار علمي، وهذا كان متفقاً مع رغبتهم في نشر العلوم وكسح الجهل السائد، وإعتماد الإسلام كدين مستمر، دون أن يقرأوا بطبيعة الحال جذوره، ومشوا مع السائد من العلاقات التي فرضت خلال قرون، وإن كانوا قد وسعوا النقد للكثير من المشكلات والسلبيات.
لم توجد حينئذٍ سببيات لفصل الدين عن الدولة، بل كانوا متعطشين لدولة خلافة أخرى، ولمساندة رجال الدين في النضال الوطني، حيث كانوا ينظرون بعاطفية تنويرية، تعتمد على نفس الأدلجة القديمة، ولم يعرفوا النظام السائد، وهم أنفسهم كمثقفين من الفئة الصغيرة الوسطى، يتبعون مصالحهم التي كانت بيد القوى الأجنبية – المحلية المسيطرة، وهم كأصحاب وعي ديني مثالي يشاركون رجال الدين في الرؤى المفارقة والمسيطرة والشمولية، وكرجال يشاركونهم في السيطرة على النساء والعاملين.
ليست العلمانية سوى صراع سياسي لتوجيه الموارد الاقتصادية، أما القضاء على الأديان فهو هدف غير حقيقي وغير متحقق. أو خرافة تم الترويج لها لأسبابٍ سياسيةٍ كذلك.
وإذا لاحظنا نشؤ العلمانية في الغرب فإن الهجومَ الواسعَ ضد المسيحية الذي تفجر في عصر الأنوار، كان صراعاً اقتصادياً بدرجةٍ أساسية ضد ملاك الأرض الكبار، الذين كان منهم رجالُ دينٍ متنفذين وحكام، وقاوم هؤلاء صعود الملكيات الحديثة والمصانع واحتكروا الأرض وأغلبية المنتجين من الفلاحين. فلجأت الطبقة الوسطى الصاعدة الفرنسية خاصة المحتاجة لهذه الموارد والقوى العاملة الرخيصة، إلى الهجوم السابق الذكر على المسيحية، وتمت العودة لثقافة اليونان الديمقراطية والوثنية، وتصاعدت موجةُ الألحاد، وحين سيطرت الطبقات الوسطى على الحكم فإن سياساتها تجاه الدين خضعت لأهدافها الاقتصادية والاجتماعية المتبدلة في كل مرحلة، وفي كل بلد، فضخامة موارد الكنيسة الريفية الفرنسية استدعت هجوماً تنويرياً وإبعاداً للدين عن التعليم في المدارس، ثم وجدت حكومات محافظة تالية أهمية عودة تدريس الدين.
لا تستطيع أية طبقة تحديثية أن تلغي الدين، وما المناوشات التي تجري سوى عملية تشذيب معينة في الوضع الاقتصادي، تقود لسيولة الموارد وتوجيهها، فالعلاقات الاجتماعية التي يُضفى عليها طابعٌ ديني جامد بحاجة للتحول، وتعديل رؤية المرأة والفلاح والفوائد المصرفية التي تـُجمد حركتها في النصوص الدينية التقليدية، فتستدعي فهماً دينياً جديداً أو إبعاداً للدين التقليدي عن السيطرة السياسية.
ولهذا فإن العلاقات بين الطبقات الوسطى الغربية والأديان تُستعاد مرة أخرى عبر تحولات سياسية وفكرية جديدة، كما أن مثقفي هذه الطبقات الطليعيين يحفرون لمستويات أبعد، فالمصانعُ بحاجةٍ لتطوير تقني مستمر، ولا بد للعلوم الطبيعية خاصة أن تنطلق بلا قيود، ولهذا فإن العوالمَ الفكرية المصاغة في الكتب المقدسة تتبدل، فلا تعود الأرض مركز الكون، ويُفهم الإنسان بصور أخرى وكذلك الفضاء والتاريخ الخ.
لكن الأديان  ليست مرتبطة بالعلوم فقط بل بعلاقات الإنسان الاجتماعية للأغلبيات الشعبية كذلك، وهذه لا تتبدل بمعدلات التطور الاقتصادية، كما أن قهر الطبقة الوسطى والعلاقات الاقتصادية الرأسمالية تجعل من الأديان ضرورة وإنتماءاً مشتركاً وعزاءً في جحيم الرأسمالية.
وهكذا فإن العالم الإسلامي لم يواجه مثل هذه الثورات الاقتصادية الغربية، وإلى إعادة توزيع السكان والطبقات وأشكال الوعي بصورة جذرية، وظلت الفئاتُ الوسطى مهمشَّةً، وذات تصنيع ضعيف، لا يستدعي ثورةً جذرية في الريف والتعليم، كما أنها تستخدم الدين التقليدي عموماً لتجذير مصالحها، ولهذا غدت ضعيفة علمانياً، ولم يكن رجال الدين ذوي سيطرات اقتصادية كبيرة على الموارد والعاملين، بل كانت الصراعات تتوجه للمؤسسات السياسية والحكومات. فغلب الصراع السياسي على الصراع ضد الفهم التقليدي للدين. ولهذا فإن معركة العلمانية ظلت ذات طابع ثقافي، وظل التعريف الأول لها، باعتبارها حركة علمية عربية أكثر منها حركة دنيوية معادية للدين والأخروية، خاصة أن مسائل العيش الدنيوي المبهج وكراهية الرهبنة سائدة بين المسلمين، إلا من بعض القطاعات المتشددة.
كما أن تصاعد دور الحكومات في الاقتصاد وسيطرتها على أغلبية الدخول جعل المعارك معها بصفة خاصة، وغدا التبشير السياسي هو الأكثر قوة في الحياة الفكرية.


العلمانية هي فصلُ الدينِ عن السياسة، وهذا هو تعريفها العالمي الفيصل.
العلمانية لا تعني العلمية، فالعلميةُ والعلومُ هي مستوىً آخر، مرتبطٌ بتطورِ العلوم وبأهدافِها وبوسائلِها داخل المجتمعات المختلفة، في حين أن العلمانية هي مفردةٌ سياسيةٌ تتعلقُ بعالمِ السياسةِ والقوانين الإجتماعية، وتعني الفصل تحديداً بين الدين والسياسة سواءً كانت أحزاباً أم دولاً. أي أن لا يُستثمر الدينُ لمصلحةِ فريقٍ دون آخر، لا في شعاراتهِ ولا في أسمائه ولا في أهدافه. وأن تظهرَ الدولةُ أو الحزبُ بمظهرِ الكيان الوطني الذي يخدمُ المواطنين لا جماعةً من المؤمنين.
فصلُ الدينِ عن السياسةِ لا يعني الإلحادَ ولا يعني العلمية، فالعلمانيةُ هي وضعٌ سياسيٌّ يقومُ على منع الدينيين أو غيرهم من العسكريين والسياسيين والحكام، من إستخدامِ الدين في عملياتهم السياسية، ولكي لا يمكنهم إستخدام هذه الأدوات المتوارثة المقدسة، من أجل أهدافهم السياسية، ولكي يمنعهم هذا الوضعُ من إستخدامِ المفرداتِ الدينية والكتب المقدسة في دعاياتهم الإنتخابية وفي أحكامهم لأجلِ مصالح حزبية وسياسية، ولكي لا يتم تجنيد الناس من خلالِ نصوصِ الكتبِ المقدسة للمؤمنين جميعاً لغاياتهم الشخصية والحزبية والحكومية.
ففي حين تتوجه الإنتخاباتُ لعرضِ برامج الطبقات المختلفة، وأيها جديرٌ بمقاعد البرلمان، يستثمرُ الدينيون النصوصَ المقدسة من أجل غاياتِهم الحزبية للوصول إلى أهدافهم عن طريق الدين والمذاهب، والدين والمذاهب لا علاقة لها بإهدافهم الحزبية، وإنما هي أدواتٌ محترمة لدى الناس، يريد الحزبيون الدينيون من خلال إستغلالها الصعود لمغانم الحكم ومكاسب الثروات وللأهداف السياسية الحزبية التي تخضع في كل فترة لتحول وظروف وغايات يحددها هؤلاء  السياسيون!
يمكن أن يكون العلماني صوفياً ودرزياً وشيعياً وسنياً وبوذياً وملحداً ومسيحياً ووجودياً وحداثياً وعلمياً كارهاً للأديان وغيرها من الآراء والأفكار الدينية والعصرية، فهي حالةٌ سياسيةٌ لا علاقة لها بالمعتقد، وهي وضعٌ إنتخابي ديمقراطي، لا علاقةَ له بالإيمان وعدم الإيمان.
يمكن أن يكون العلماني مجوسياً وبوذياً وهندوسياً وشيوعياً، فقد قررَ هذا الإنسانُ السياسي أن يضع عبادته وأفكاره الاعتقادية خارج العملية الإنتخابية، فيمكن للبوذي أن يصوتَ للشيوعي، ويمكن للشيوعي أن يصوتَ للهندوسي.
حين أرى أن الدرزي في آرائهِ السياسية وليس في معتقداته الدينية أفضل لي ويقدم برنامجاً سياسياً مفيداً لي سوف أنتخبه، وأعرضُ عن السني الذي يرفعُ لواءَ مذهبي، لكنه لا يرفع برنامجي الاجتماعي الذي يهتمُ برفعِ أجوري وبالدفاعِ عن مصالح طبقتي.
العلمانيةُ إذن هي حالةٌ سياسيةٌ تنأى بالأديان والمذاهب عن إقتحامِ الصراع الاجتماعي السياسي، وهي لا تعني القضاء على الأديان، وإبعادها عن معتقدات الناس، ولا تعني هدم دور عباداتهم، ولا منع الإهتمام بتراثهم!
هي منعُ المتاجرة بالأديان في العمليات السياسية فقط، وتتشكل عبر حالة قانونية دستورية معينة.
ومن هنا كان بعضُ العلماء مؤمنين، وبعضهم ملحدين، وغير هذا من الإنتماءات الفكرية، وهذا يتوقفُ على إعتقاداتِهم، ولا علاقةَ له بمواقفِهم السياسية، فالموقفُ السياسي مستوى مختلف، فالعديدُ من العلماء أتخذَ موقفاً غير علماني، أي وقفَ مع الأحزاب الدينية والدول الدينية، كما حدث العكس.
كما أن الكثيرَ من غيرِ العلماء ومن المتدينيين كما قلنا أتخذَ موقفاً علمانياً، أي رفض إستخدام الدين في السياسة.
أي إنهُ رفضَ أن يتمَ الزجَ بالدين لمصلحة فريق دون فريق!
وهذا في عصرنِا يتسمُ بالتوسع، فالأديانُ هي إيمانٌ الملايين، وتقومُ بعضُ الجهاتِ بإستخدامِها لمصالحِها الفئوية الضيقة لكسبِ الأصواتِ والمقاعد والثروات، في حين أن الأغلبيةَ ترى إن إستخدامَ هذه الأقليات لدينها في مثل هذا الوضع السياسي الشمولي ولخدمةِ مصالح تلك الأقليات، يتسمُ بعدمِ تحقيقِ تطوراتٍ لمعيشتِها ولحرياتها، وهو مضادٌ لمعاني الدين والتطور الديمقراطي معاً كما تفهمها.
تتفككُ علاقاتُ السياسةِ بالدين، فالدنيوي المتعلقُ بالحكوماتِ وبالصراع السياسي وبالبرامج السياسية والإنتخابية، ينفصلُ عن الديني المقدس، وينفصلُ عن آيات القرآن ولضرورةِ عدم زجها وإستخدامها في مثل هذه الحلبات، وينفصلُ عن الزجِ بالرموز المقدسة عند أصحابها في صراعات دنيوية محدودة، تتعرضُ للتغيير بشكلٍ فظ في كثير من الأحيان، وتتسم بالديماغوجية وبالانتهازية وبالمبدأية في(قليل) من الأحيان!
وقد إنفصل بعضُ كبارِ علماءِ المسلمين عن مثل هذه الحالاتِ السياسيةِ التنافسية وعن الإنخراطِ في الجبهات السياسية المتصارعة التي أتخذتْ للأسف توجهات طائفية، مشكلين حالة أولية من العلمانية الوطنية التوحيدية، ولا يعني هذا إنفصالهم عن دينهم و لا عن بحثهم العلمي!
كما أن هذا يعني حفاظهم على الخرائط الوطنية لبلدانهم، وبتقنيةِ المذاهبِ الإسلامية من الشوائب المريضة للفساد السياسي، مدركين طبيعةَ التطوراتِ السياسية المتقلبة وبضرورةِ عدم جرها للمذاهب الإسلامية في المزايدات والصراعات السياسية والاجتماعية التي لا تتوقف!
فالحالةُ الدينيةُ لها تطورُها الخاص كذلك، مغايرةٌ عن الحالةِ العلمانية، وعن الحالة العلمية. فهذه مستوياتٌ ثلاثة مختلفة كلٌ له مساره.
≣ العلمانية والدين
العديد من القراء يتصل بي للسؤال عن العلمانية فيقول أحد الإخوة بأن العلمانية تمثل (إبعاداً للإسلام عن الحياة وركنه في المساجد وبالتالي عدم استخدامه في جوانب المجتمع المختلفة، والدين يمثل قيمة روحية كبيرة فإذا خلا المجتمع من أي سلطة عادلة لجأ المرء إلى الدين يستظل به).
 والواقع إن العلمانية لا علاقة لها بهذا الإلغاء والمحو للدين، فهي ليست سوى تنظيم اجتماعي يُبعد الدين عن استغلاله في السياسة والمتاجرة به، في حين أن الجوانب الأخرى من الحياة مشروع فيها استخدام الدين بكل أشكاله ومستوياته، فهي لا تلغي جذور وظاهرات المجتمع الإسلامي المختلفة من فقه وفلسفة إسلامية وعبادات وتصوف الح. .فهذه الجوانب لا يستطيع أن يمسها أي تنظيم علماني للمجتمع تصل إليه القوى السياسية بعد تطورها الثقافي الكبير المأمول.
 تنظراً إلى هذه التعددية المذهبية والدينية واللادينية في الحياة العربية فإنها تتطلب أجساماً سياسية تجمع بين أصحاب المذاهب والأديان والأفكار إذا اتفقوا على عمل سياسى ما، كما حدث ويحدث للتنظيمات القومية والتقدمية والوطنية، وهذا الاتفاق هو للعمل بشعارات سياسية معينة كتحرير الوطن وتقدمه أو العمل من أجل نظام ديمقراطي، وهي أمور تفرضها كذلك الحياة الاقتصادية النقابية التي تجعل أصحاب المصالح المتحدة يعملون معاً للدفاع عن مصالحهم التجارية أو النقابية بغض النظر عن جذورهم وعقائدهم.
 ولم تستطع المرحلة الأولية السابقة من العلمانية العربية أن تكونَ ذات جذورٍ دينية إسلامية ومسيحية عربية، بسبب محدودية تلك العلمانية الشعارية، فكانت تنحي الدين بهذه الدرجة أو تلك، وقد تكون التنحية في المجال السياسي، وقد تصل إلى جوانب أخرى، لكن كانت العلمانية العربية عموماً وربما مازال بعضها حتى الآن، ذا طابع استيرادي، يأخذ ما هو سائد في الغرب وينقله دون إعادة إنتاج عربية إسلامية، فظهر دعاة إلغاء الأديان وتلك ليست دعوة علمانية موضوعية.
 فلم يكن العقل العلماني العربي قد وصل إلى مرحلة الديمقراطية، وقراءة جذوره القديمة، والفهم العميق لتاريخه؛ فإذا كانت الحركات النضالية سوف تتقوى عبر فصل المذاهب عن السياسة، لكن لا يعني هذا ألا ترتكز على تاريخها ونضالها السابقين.
 والدرزي والشيعي والسني والقبطي المنتمون إلى حزب علماني عليهم ألا يتخلوا عن جذورهم، فيأتوا للحزب ككائنات مجردة، وكأناس من الهواء، بل أن يدرسوا هذه الجذور ويروا ما فيها من دلالات وأهمية تاريخية، ففيها جوانب مركبة من الإيجاب والسلب، أي هناك جوانب لابد من تطويرها في هذه المذاهب والأديان وجوانب لابد من تنحيتها كالتعصب والأحكام المتخلفة تجاه الجمهور وتغيير أوضاعه.
 لكن هؤلاء العلمانيون المتحدون ذوي الجذور الدينية المختلفة سيعملون في الجانب السياسي بشكل خاص، أي للنضال من أجل قضايا مشتركة للمواطنين كوضع حد لدكتاتورية أو لتعسف اقتصادي، وهي قضايا أكثر إلحاحاً من قضاياً فقهية ومن عادات دينية مختلفة.
 لكن النضال من أجل التغيير السياسي صار يتلازم مع النضال من أجل التغيير الاجتماعى، بشكل أكثر وأكبر من زمن العلمانية الأول، فالآن الأمر يتطلب تغيرات عميقة في الحياة السياسية وفي العلاقة بين الرجل والمرأة وفي الأفكار التراثية  وفي رؤية الماضي الخ..
 وهذا أمر يلحظه أي متتبع للصراعات الاجتماعية والفقهية التي تجري حيث تتطلب الحياة العصرية تغيير جوانب عديدة من رؤية الماضي وعاداته، لكن هذه التغييرات لن تزيل الأديان والمذاهب، بل ستحدث تطورات في رؤيتها للأمور.
 فنظرتنا إلى تعدد الزوجات راحت تغتني برؤيتنا المختلفة للإسلام، وللضرورات التاريخية التي صاحبته، وخطورة كثرة الأبناء في عالم اليوم ذي الظروف الاقتصادية المختلفة وذي التحديات السياسية والعلمية الكبيرة.
 لكن تغيرات الأديان والمذاهب هي تغيرات تتعلق بحقب، لأن لها جذورا تاريخية بالغة القدم، وهي مرتبطة بعادات الحياة الاجتماعية الكبرى، فتحولاتها متروكة للزمن ولتطور عادات وأفكار الأغلبية من الناس فلا تفرض عليهم الأمور بقوة إدارية بل عبر الاقتناع، في حين أن الحياة السياسية تتطلب تحولات يومية، والناس بحاجة إلى تغيير ظروف عملهم في المصانع والشركات وعلاقتهم بالدولة وتوزيع المال العام وتوظيفه..
 وفي حين تعمل الدول والقوى الاستبدادية على تغذية النزاعات المذهبية والدينية بين الجمهور تعمل الدول والقوى الديمقراطية على توسيع التحالفات الشعبية التي لا تتحقق إلا بعزل الجوانب المذهبية والدينية المختلفة من دائرة الصراع السياسي!
 ولهذا فإن اللوحة معقدة، فهناك نضالية علمانية جبهوية تضم مختلف القوى الشعبية ذات الأديان والمذاهب المختلفة التي تسعى للتغييرين السياسي والاقتصادي، في حين تصر القوى المحافظة على تكريس الصراعات المذهبية والدينية لإفشال ذلك التغيير.


تعريف العلمانية هي أنها (فصل السياسة عن الدين، أي منع إستخدام الدين في السياسة). لا أكثر ولا أقل، فهي ليست حرباً ضد الدين، كما يحاول تجارُ الأديانِ تصويرَ الأمر.
لا يمكنك أن تبدأ خطاباً سياسياً باسم الله الرحمن الرحيم  وأنت تهاجمُ نظاماً أو جماعةً أو طائفة معطياً نفسك الحق بالتعبير عن دين والنطق باسمه والسير تحت رموزه وأنت تدعو لسياسة لا أحد يعرف مدى تطابقها مع الدين وقيمه، وما هي نتائج هذه السياسة على الناس.
لا يمكنك التكلم باسم المؤمنين وباسم الدين وأنت تتكلم باسم حزب وجماعة من طائفة، فأنت تحرضُ على الحرب الدينية والاقتتال بين الطوائف وتسعرُّ نيرانَ الحروب بين المؤمنين!
 لا يمكنك وأنت مسئول وتدعو لسياسة رفع الأسعار وخدمة الشركات أو تؤيد رفع أجور العمال أن تقدم نفسك معبراً عن ديانة أو مذهب بدلاً من تقدم نفسك معبراً عن توجه سياسي أو دولة أو وزارة!
كيف خدعوا الناسَ بأنهم معبرين عن الجماعة الكلية المؤمنة ولكنهم كانوا معبرين عن (جماعة) أصحابِ الامتيازات ورؤوساء القبيلة وقادة الحزب، وكيف أباحوا لأنفسم جرّ الناس كلها للصراعات ضد بقية الأديان والمذاهب، وجعلوا من كياناتهم الصغيرة المغامرة صوت الأمة كلها؟
تعالوا الآن وأنظروا لكوارث هذه الدعوة!
طالعوا بلداً مزدهراً عامراً بالخير به طبقةٌ مهيمنةٌ إستغلالية ولكنها لم تُجابه برؤيةٍ توحيدية شعبية ديمقراطية، بل جُوبهت بدعوةٍ سياسية طائفية، مضادة، بمذهب مقابل مذهب، وليس مواجهة لحكمٍ جائر طائفي مقابل شعب موّحد لا يعرف الانقسام المذهبي السياسي!
أنظروا إليه الآن وهو يتفتت تراباً ورملاً وعظاماً، والثائرون البسطاء في نضالهم ضد الاستغلال لم يعرفوا أنهم يُقادون من قبل جماعة طائفية تهيمنُّ عليهم بشعارات دينية، فجعلت من الطوائف الأخرى تفزعُ وتتعصب وتقاتل بشراسة دفاعاً عن حقها في الحياة!
في بدءِ المجزرة كانت الكلمة المُمزقِّة، كان إستخدامُ الشعارات الدينية، كان إستخدامُ رموز دينية طيبة لكن بأيدي طائفية سياسية تريدُ الكراسي والثروة!
لو كانوا لا يريدون الكراسي ما كونوا هذه العصبةَ المتعصبة وسيجوها بالكلام الديني المقدس ليمنعوا إنفلاتها من سيطرتهم وعدم خضوعها لمغامراتهم وإلقائهم لها في أتون الجحيم الأرضي.
ربطُ المقدسِ بالسياسةِ الجيدة أو الرديئة، تحطيمٌ له، وإضعافٌ لمعانيه السامية، ولتاريخه النضالي القديم، والذي لُوثَّ فيما بعد بهيمناتِ هؤلاء الساسة الاستغلاليين، ومتاجراتهم التي أوصلت الأممَ الإسلامية الآن لما وصلت إليه من تخلفٍ بل من هوةِ حربٍ كبرى بين مذهبيها الكبيرين!
إنهم يجرجون الشعوبَ ويسحبونها للمجازر، فبعد أن أنهارَ بلدٌ كامل يوسعون دائرةَ الخراب لشعبٍ مجاور، تسيطرٌ فيه أحزابٌ سياسية طائفية دكتاتورية إستغلالية عميلة في جانب فتنتفض أحزابٌ طائفية شمولية دموية في جانب آخر، والهدف حرق خريطة البلد!
إن هذه الأحزاب الطائفية السياسية بمثابة المجرمين المطلقي السراح، الذين يعبئون العامة لذبح الشعوب بعضها بعضاً، فهي لم تعرف الوطنية والثورية والإسلام والإنسانية، وعاشتْ على الأحقاد الطائفية والتخلف الفكري وتتصور أنها بشعارات منتزعة من الدين وجمل مستهلكة من التراث قادرة على الوصول للسلطات والثروات.
لقد رأى اللصوصُ في الجانب الشرقي أقرانهم اللصوصَ في الجانب الغربي قد سرقوا الدولة والطوائف وأثروا فسال لعابُهم السياسي الطائفي وإندفعوا لــ(النضال)!
كيف لا وهم يرون الشعوب غافيةً على وسائد النوم الفكري الاجتماعي، لا تعرفُ دينَها وحضارتَها وثقافتها وتراثَ الإنسانية التقدمي، ويمكن لهؤلاء من قطاع طرق المذاهب والسياسة كأقرانهم الأوليين من الفِرق المسلحة أن يخطفوها ويخدعوها ويجعلوها تحارب أخوتهم وأخواتهم من المسلمين؟
العلمانية سياسة فكرية تاريخية ظهرت في البلدان التي أكتوت بالتجارة بالأديان، وحين طبقت فصل السياسة عن الأديان لم تمت الأديانُ كما يزعم تجارُ الدين لدينا، فهناك مساحاتٌ شاسعة لحراك الأديان في الفقه والتاريخ والثقافة والحياة الاجتماعية، لكن في السياسة ميدان الصراع لا يمكن إستخدام أداوت التفريق والتمزيق هذه.
ومن لديه سياسة وبرامج فليتقدم بها ويعمل بها ويطبقها كيفما كانت جذوره وأهدافه الاجتماعية بدون أن يحتال تحت مظلة دينية ما، يتقدمُ في بخورها وغبشها ومراكزها الدينية ليسيطر على الناس، فيجعل آخرين يفعلون فعله ويقسمون المجتمع شيعاً وطوائفَ دينية متحاربة.
إنقاذُ الإسلام من هؤلاء عمليةٌ تاريخية كبرى ستقوم بها أجيالٌ وأجيال، فالمهمةُ ليست سهلة، بل خطيرة صعبة، وهي تتطلبُ درايةً بالتراث الإسلامي والتراث الإنساني، ومعرفة بالسياسات المعاصرة، وهي قمة جهود التوحيد للأمم الإسلامية، وتقدمها، فالنضالُ من أجل التغيير لا ينفصل عن حماية التراث الإسلامي والإنساني، وصيانةُ الرموز جزءٌ من محاربة التلوث السياسي الاجتماعي وجماعات التسلق والتجارة بالمقدس، وتسطيح التراث، وتغريبه.
هدفان لا ينفصلان هما عنوانا تجددِ هذه الأمم وإستقلالها وتطورها.


  قامتْ إيديولوجياتُ القوى التحديثية العربية وهي البديل المفترض على إستغلال الدين للوصول لمناصب وواجهات سياسية وثروات،  فمحو الدين أو أدلجته لمصالح الإستغلال، كلاهما تعبيرٌ عن عدم إستكمال نضال الأوائل من منتجي الدين، ووضعه في خدمة القوى المهيمنة.
إن إدراكَ العناصر الديمقراطية في الدين هو ذاته إدراكها في الزمن الراهن، حين تطورُ من فاعليةِ القوى الشعبية، لكن القوى المحافظةَ والقوى الإنتهازيةَ الملتحقة بها، تنيحان العناصرَ الشعبية النضالية في الدين وتجعلانها ديكورات وخلفيةً وقوى سلبيةً وقوى مرتشيةً ومُعَّطلةً عن الفعل الإيجابي.
بخلاف أن العملية الديمقراطية هي تطوير للعقليات السياسية والثقافية ولإكتشاف المصالح العامة المطلوب تطويرها، وتوزيع الخيرات الاقتصادية عليها حسب أوضاع الطبقات المختلفة وليس أن تتكرس في فئاتٍ معينة دائمة.
إن الديمقراطيةَ هي تبادل المنافع وليس فقط إستخدام الأصوات لتكريس منافع خاصة. هي حلٌ للمشكلات القديمة المتكلسة في تاريخ الأمة، هي رؤية مواقع قصورها وإستلابها وتجميد تطورها  ومنع تحررها من تجاوزها.
لأن (الديمقراطية) على أسس دينية محافظة هي رفض لتغيير حياة الناس والمغبونين منهم بدرجة خاصة، أو على الأقل عدم فهم من قبل المحافظين أن تخلف العامة السياسي الثقافي هو لغير صالح غنى الدين.
تغدو العمليةُ السياسيةُ إتفاقات أو صراعات بين الكبار داخل مسرح توزيع الكراسي، والجمهور (كومبارس)، يصفقُ أو يبصم أو يعتزل يائساً.
إن تنحية المحافظةِ الدينية تطويرٌ للعمليةِ الديمقراطية فهي تفرجُ عن أسرى مخدوعين يُصعَّدون إنتهازيين سياسيين، غير قادرين على فهم العملية الديمقراطية وخدمة المؤمنين العاملين الصابرين على الشقاء.
كيف يمكن أن نترك العلماء والمثقفين الكبار في المدن والريف ونختار شخصيات شابة بعدها لم تنضج للعملية السياسية المركبة المعقدة في هذا الزمن؟
وهل يستطيع هؤلاء جعل هياكل الدول أكثر شفافية وسماعاً للأصوات الشعبية ولتغيير قوى الإنتاج الحقيقية الوطنية وإدراك خفايا عمل الحكومات؟
الديمقراطية المكلوبة من الحكومة والتي تطورها أداءها مطلوبة للمعارضة لتطور من عقليتها ومن برامجها وقياداتها!
هذه العمليةُ ليست في بلدٍ واحدٍ بل داخل المنظومات الدينية المختلفة، التي تمثلُ لحظاتٍ تاريخيةً ضرورية للشعوب والأمم، بأشكال مذاهب كبرى تتحول إلى ما يشبه الأديان المستقلة، أو على صور مذاهب متقاربة.
وهنا في لحظات الإنتكاسات والخيبات من الديمقراطيات  السريعة تظهر علمانياتٌ متعددة، فبسبب اليأس والتخلف وهيمنة المحافظين المتكلسين تحدثُ ردات فعل حادة.
فُينظر بأن الدين هو سبب التخلف ولولاه لأختلف الوضع، لكن المسألة تتعلق بسيطرات فئات إجتماعية غير قادرة على فهم العصر والتأقلم المجدد مع، وتأتي قوى البديل التحديثي وتجاملها وتريد أن تركب الموجة وتحصل على الكراسي بدون حفر في الحياة الشعبية.
والنتائج إن ذلك لا يحدث فتنتشر ردرود فعل أو ينمو فهمٌ جديد.
تظهر علمانية إلحادية حادة، وعلمانية قومية شرسة تجاه الدين، وربما أشكالٌ أخرى من ردات الفعل التي تصطدمُ الشعبَ وتجعله أكثر حذراً وخوفاً، وتلك الردود من الفعل ليست ذات وعي فكري عميق ببلدانها.
لكن العلمانية المتساوقة مع تواريخ الأديان في المنطقة تتطلب مثقفين وسياسيين من طراز رفيع، أو من الذين يقرأون النتاجات الحافرة في تواريخ هذه المنطقة العريقة التي أسست الأديان، ولا يمكن بشطحات عقلية وإنفعالية القفز على تواريخ آلاف السنين ببساطة!
كما أن العلمانية تقيم الإحترام لتواريخ هذه الأديان نفسها وتحجم من صراعاتها وتقرأها في مساراتها التاريخية المناضلة وفي دورها المضيء وتكشف جوانب القصور والتخلف.


   ليست العلمانية نظاماً سياسياً في الهواء، بل هي تعتمد في نشؤها على الأرباح ومدى تجذر رأس المال في التربة الوطنية لأي بلد.
في الشرق الذي له قوانين تطور اجتماعية مغايرة للغرب، فإن ذلك يعتمد على كيفية نشؤ الفئات الوسطى وعلى أية مداخيل تعتمد.
فإذا كانت فئات وسطى تعتمد على مداخيلها الخاصة، وغير المرتكزة على القطاعات الحكومية المسيطرة، بشكل مباشر وغير مباشر، فإنها سوف تنحو نحو الأفكار الحرة.
ولهذا فإن بروز الفئات الوسطى الحرة شيء محدود، لأن العديد من شخصيات هذه الفئات تعتمد على دخول تأتيها من دولها أو من دول أخرى.
ولهذا فإن معارضتها للاقتصاد الحكومي المسيطر تكون محدودة في بلدها، وتتلفعُ بمفاهيمَ مذهبيةٍ لعدمِ الدخول في صراعٍ ضد هذه الملكية العامة التي تحدُ من تطورِ الاقتصاد ومن نشؤِ هذه الفئاتِ الوسطى الحرة.
ولكونها مذهبية فإن نشؤها ومصدرَ تكوينِها السياسي يأتي من دولٍ ذات حكومات شمولية، فلا تستطيع أن تنتجَ مفاهيمَ الحرية بالصورة النضالية العميقة.
لا تأتي الحرية والحداثة والعلمانية والديمقراطية إلا من فئاتٍ اقتصاديةٍ حرة، يتشكلُ رأسمالـُها من عرقِ عمالها، وأين يمكن أن يجري ذلك؟!!
والمذهبياتُ الشمولية عموماً تشكلت في ركاب الدول المركزية الشمولية كذلك.
حين يتفكك القطاع العام ولا يغدو مركز الإنتاج والدخول وتظهر فئاتٌ وسطى من خارجه تعيش على مصادر دخل مستقلة، فإن أفكارها الحداثية تكون ذات جذور موضوعية، لأن الأفكار الحداثية لا تنتج لوحدها، بل تريد مفكرين وقادة وسياسيين، يضعونها في مجال التداول الاجتماعي.
لكن هذا لا يمكن أن يجري بصورة مطلقة، فلا بد تتوجه أغلبية الفوائض الصادرة من عملية التحول هذه إلى الصناعة، والتعليم المهني، وتوسعات السوق، لا أن تتوجه للخارج، أو التبذير، أو الرفاهيات الخاصة، أو عمليات التسلح الواسعة.
حين يحدث ذلك تزداد الفئاتُ الحرة، سواءً على مستوى الفئات الوسطى أم على مستوى العمال، وحينئذٍ تـُطرح تصورات مختلفة عن الدين والوطن والحياة السياسية.
حينئذٍ يُعاد إنتاج المذاهب الدينية، ويغير اليسار إستراتيجياته، ويتم التركيز على الحريات وتبادل السلطة وإيجاد دولة علمانية ديمقراطية.
هذا يفترضُ وجود سلطة خارج الصراع الديني – الديني، تتوجه لدعم الفئات الاقتصادية الوطنية في كافة المجالات، لأن تصدير السلع وترقية الإنتاج وتقدم القوى العاملة هو ما يضمنُ للبلدِ استقرارها السياسي، وما يعود بالتطور على جميع طبقاتها وفئاتها بأشكالٍ غير متساوية بطبيعة حال اقتصاد الملكية والعمل بالأجرة.
 الدول المركزية الحكومية الشمولية تفترضُ رؤىً دينية تقليدية جامدة، من حيث تصور الألوهية والسببيات والقوانين الفاعلة في الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، تعيد كل شيء إلى فعل خارجي، وغيبي، وليس من داخل هذه الظاهرات.
مثلها مثل النظريات الحديثة التي تقول بأن العلم وقف عندها.
ومع نشؤ وتطور الفئات الوسطى والعمالية الحرة، تتكرسُ الأحكامُ العقلانية، ويزدهرُ الفقهُ الحر، فتتحرر الأحكامُ الدينية من الجمود، وتخضعها لحاجات المسلمين والمواطنين للتحديث وإستقلال الاقتصاد وتقدمه ولتحرر الأمم الإسلامية من التبعية، ولرقي الشخصية المواطنية المستقلة.
حين نرى تطور الأمم الإسلامية في هذا الوقت سوف نجد أن الأمم والشعوب التي توجهت بقوة أكبر للاقتصاد الحر وغير العسكري الشمولي، والتي لم تخندق الشعب في فئات متقشفة محرومة واسعة، ووسعت سبل الرزق له، وقلصت بقوة البيروقراطية الحاكمة الاستغلالية، تتوجه بقوة للحرية والتقدم ورقي الصناعة والتصدير، في حين أن الدول التي هي بخلاف ذلك تعيش أسطوانات الحروب والصراعات الخارجية والداخلية.
 إن الدول حين تتضخم عبر المؤسسات بحاجة إلى أيديولوجية شمولية سواء كان ذلك بشكل قومي أو ماركسي أو ديني، فهي تجعل الفكرة السياسية دينياً.
ومن هنا نرى الجماعات الدينية تحمل مثل هذه الأفكار لأنها تريد مواصلة نموذج الدولة الشاملة، ولم تهضم أفكار الحرية على مختلف المستويات.
فليست العلمانية سوى التخفيف من هذا الغطاء الشمولي الذي يتحكم في الاقتصاد، والحياة الاجتماعية، وجعل القطاعات الاقتصادية حرة دون قوة عليا تهيمن عليها.
إن تركيا تنمو بشكل أفضل من إيران، رأس المال في تركيا يتراكم ويتوجه للصناعات، وفي إيران يهدر جانب منه على التسلح، وفي ذات يوم سوف يصطدم هذا الرأسمال الصناعي – العسكري بالوضع الدولي، ويذهب هباءً، وقد كان نتاج تراكم طويل لعمل العمال.
هيمنة الدولة أو الدين أو القومية على رأس المال تؤدي إلى ضموره وتدهوره أو هروبه.
مثل الطاقات العلمية البشرية من عملاء ومنهدسين وغيرهم تهرب من الدول والمجتمعات الشمولية، ورأس المال العلمي والمادي واجهان لعملة واحدة.
لا تستطيع التنظيمات من قومية ودينية وغيرها إلا أن تعمل على الحرية إذا أرادت توسيع الحرية السياسية، فالحريات لا تتجزأ، وليست وطنية ومقصورة على قسم بشري دون آخر، بل الحرية عامة لكل الشعوب.


   تضعُ العلمانيةُ الشروطَ الكبرى الأولى للديمقراطية، فتفصلها عن العصر الوسيط، الذي تشكلت فيه الصراعاتُ السياسية بشكلٍ ديني، فتمهد وتؤسسُ للدول القومية والوطنية وللأسواق الكبرى لهذه الشعوب، وتفككُ الحواجزَ التي أقامتها الأشكالُ الكثيرة للطوائف والملل والقبائل التي عزلتْ الجغرافيا البشرية وقوى الإنتاج عن توحدها وتعاونها المفترض، ومن هنا يقود نفي ذلك لثورة التقينة والعلوم.
العقلانية مرحلة أخرى لهذا الحراك التحويلي للبُنى المحافظة الذهنية والاجتماعية التي تكرستْ في حياة الشعوب عبر ألوف السنين الماضية.
العقلانية تطلق العلوم لتحريك قوى الإنتاج، من أجل تطوير الآلات والمصانع، والطوائف هنا تلتحم في أمكنة الإنتاج وفي البلدان.
حين نرى الآن الحراك الثنائي المتناقض في العالم الإسلامي بين الشيعة والسنة، ونجد أن النظام الشمولي الديني حجز كثير من الشيعة عن الانخراط في الأوطان التي ينتمون لها، فغياب العلمانية عن إيران أدى إلى حراك سياسي إنقسامي واسع النطاق، وبهذا بدلاً من أن تؤدي التطورات السياسية التحديثية إلى توسع العلاقات بين الإيرانيين والمسلمين والبشر عامة، أدت إلى سلسلة من الحواجز والانقطاعات في البلدان.
نتائج الصناعة والتطورات العلمية التي تدخل في باب العقلانية تتوقف ثمارُها مع الانحباس السياسي، وتؤدي العسكرة إلى تعريض ثمار الثروة للخسائر.
في حين راحت الثورات العربية الراهنة ذات القواعد السكانية السنية المسيحية الشيعية المتحدة نحو تصعيد العلمانية إلى درجة مدنية غير محددة، بسبب ظروف الثورات التي أدت إلى ضرورة الوحدة تجاه أنظمة إستنزافية للثروات، وإلى التوجه للتركيز على السياسي، وإحتذاء التجربة التركية، لكن المسار يبقى غير محدد في المستقبل.
الخطورة تكمن هنا في عدم  رفع ثقافة العلمانية، ويكون للدول والجماهير ذات الأصول المذهبية السنية مخاطر في عدم التحديد هذا، وعدم التركيز على التطور السياسي الاقتصادي.
ففيما أدت التجربة الإيرانية إلى مخاطر جسيمة وتمزيق عدة دول عربية في مختلف جوانب الوجود السياسي، من الخطورة أن ينتقل التمزيق إلى بؤر البلدان العربية الكبيرة المركزية.
فحدوث الصراعات داخل هذه البلدان وهيمنة القوى الدينية المحافظة وصراعاتها مع بعضها البعض، ينقل ما جرى ويجري في الأطراف كباكستان وإفغانستان وغيرهما إلى القلب من وجود الأمة العربية.
التجربة الإيرانية فككتْ العراقَ وبعض مناطق الخليج ولبنان فحتى السوق على الطبيعة الرأسمالية العادية تعرقله وتفتته وظهرت العقوبات وتفشى الأرهاب.
إن السياسة المذهبية هي عودة لتفكك الإسواق، ولإضعاف قوى الإنتاج البشرية بعزل النساء، وبإضعاف تقنية الإنتاج بعدم تطور العلوم التي لا يجب أن تقف أمامها محاذير دينية وإجتماعية.
وجود التكوينات المذهبية المنفصلة يؤدي لضرب السوق الوطنية وقوى الإنتاج التي تعرضتْ للكثير من المشكلات في الحقبة السابقة، حقبة رأسمالية الدولة الشمولية، والتي تتطلب الآن مع ضرورة إزدهار الرأسمالية الحرة سوقاً واسعة ليست وطنية فحسب بل عربية وعالمية، إضافة لنمو الوعي العلمي لدراسة مشكلات الإنتاج.
أدت هذ الأشكال المتخلفة من الوعي إلى فصل الجناح الشرقي من العالم الإسلامي عن قلبه وغربه، لعدم إمكانية خلق سوق عربية إسلامية كبرى، والمأساة حين تنتقل هذه الأشكال التمزيقية من الوعي لقلب الوطن العربي.
إن ثورة سوريا تحاول ردم هذه الهوة في إحدى الجوانب الجغرافية المهمة. فيما  حراك إفغانستان وطالبان تحمل رياح التفتت والقبلية والمذهبية إلى الدول المتوحدة.
لو أن الحراكَ السياسي الإيراني أخذ بالعلمانية والديمقراطية لكان الموقف مختلفاً، لأمكن ظهور تطورات إجتماعية تحديثية واسعة جداً.
والشكل المتخلف المذهبي يقود إلى فقدان الثروة مرة من خلال البذخ العسكري ومرة من خلال ترحيل الرساميل للغرب، وبخلاف ذلك ومع وجود تلك السوق الكبرى من إيران حتى مصر لن تكون الأشكال العسكرية المتطرفة ممكنة كما أن الرساميل سوف تصبُ في هذه السوق الكبرى.
لم توجد السوق الأوربية المشتركة دون الديمقراطية والعلمانية وبالتالي هذه ليست مفردات سياسية وعقلية بل مفردات إقتصادية في جوهرها، أي هي وضع الأساس الواسع للطبقات الوسطى، وللتجارة الحرة، والسلام وتطوير الأرياف الجامدة.
في حديث وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو قبل أيام حول التجربة التركية أشار إلى ما يشبه هذه المعاني بلغة عامة سياسية دقيقة.
إذا لم تتبن الدول والتنظيمات هذه الأساسيات في عملها السياسي الفكري المؤسس فالحديث عن الديمقراطية كعدمه.

أضف تعليق