مفهوم الحرية في رواية الينابيع للكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة

=

 د. انتصار البناء

 مقدمة

يعّد عبـــــــدالله خلــــــــيفة أحد أهم كتاب الرواية في البحرين. شغلته الإيديولوجيا وطموح الحرية والتقدم في كتاباته النقدية والأدبية والفكرية. وليست رواية «الينابيع» إلا قطعة فنية تعبر عن رؤاه الفكرية في قالب أدبي مكتنز بالمضامين والدلالات.

في رواية «الينابيع» يقف القارئ أمام أسئلة تسكنه بعد أن يغادر الصفحات الأخيرة من الرواية. إنها مقاصد الكاتب المهجوس بهموم الإنسان والمجتمع، التي يورط بها القارئ معه، ويستحثه على خلق أجوبه لأسئلة لا يبين لها حل في واقع ملتبس، أبدا، بالتناقضات والانقلابات والمفاجآت. العمل الأدبي، والرواية تحديدا، ليست فسحة ومتعة فحسب. إنها انشغال واشتغال بالأفكار الإنسانية، والأسئلة المصيرية.

يطرح الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة إشكالات الفكر التقدمي الجوهرية، وهي أسئلة تمتد في فكرنا العربي منذ زمن النهضة. أسئلة الانتصار والهزيمة… النجاح والفشل.. أسئلة الإرادة والتغيير:

من هو الإنسان الذي يملك حريته؟

  وكيف نترجم عن حريتنا بما يخلق إمكانات التغيير في المجتمع ؟

  لماذا تتعثر المشاريع الوطنية في أوجها ؟

لماذا يتحقق التغيير من خلال الشخصيات غير التقدمية؟

تلك الأسئلة نهضت بها بنية روائية تناسبت مع انفتاح الأسئلة على مضامين اجتماعية غارت في ردهات المجتمع غير المطروقة، وفي تجاويف النفس غير المالوفة. وكانت اللغة هي الجناح الذي طاف بعناصر السرد المختلفة في ثم التحم بها صيغة فنية تستحق دراستها من زوايا متعددة.

أولا: الينابيع والتاريخ:

ليست ثلاثية «الينابيع» رواية تاريخية، ولكنها تسير على حافة التاريخ. فهي تطوي في فضائها الزمني مرحلة تاريخية في البحرين تمتد من العشرينيات حتى السنوات الأولى من الألفية الثانية. وهذه المدة الزمنية قسمها الكاتب في روايته مراحل ثلاثا نهضت بها أجزاء الرواية. فالجزء الأول «الصوت» تدور أحداثه زمن الغوص، والجزء الثاني «الماء الأسود» تدور أحداثه زمن التنقيب عن النفط وسنوات اكتشافه الأولى، والجزء الثالث «الفيضان» تدور أحداثه عصر ما يسميه عبـــــــدالله خلــــــــيفة في بعض كتاباته زمن اقتصاد النفط .

ولم. تتغّى رواية الينابيع من استدعاء التاريخ توثيق سيرة بحرينية شأنها في ذلك شأن كل عمل فني، بل تغيت طرح رؤية إبداعية للتاريخ، تعيد سرد الأحداث من منظور أدبي وفق رؤية الكاتب. ذلك أن الرواية الأدبية للتاريخ هي سرد لحقيقة أخرى تضمنها التاريخ غير الحقيقة التوثيقية التي تسردها كتب التاريخ «فلا مناص للرواية إذا اختارت الفضاء التاريخي المرجعي مجالا لها من أن تقول التاريخ. ولكنها تقوله على طريقتها، أي أنها لا تكرره وإنما تحينه»(1) ، وتعيد تفسيره بناء على خلق مقاربة بين التاريخ والواقع.

وفي رواية الينابيع نكون بصدد رواية تصدر عن منظور واقعي اشتراكي يعبر عن المدرسة التي انتمى إليها الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة وبقي وفيا لها حتى نهاية حياته. فالرواية تقرأ التاريخ البحريني بحثا عن حقيقة خارج الصيغة الجامدة والثابتة، الرواية تقرأ التاريخ باعتباره صيغة متحركة ومتغيرة وليس باعتباره قانونا جامدا يكرر معطياته في كل مرحلة، وفي ظل هذا المفهوم يقول لوكاتش (إن مواضيع التاريخ تبدو مواضيع قوانين طبيعية ثابتة وأبدية. إن التاريخ يتجمد في شكلية لا تتمكن من تفسير الصيغ التاريخية الاجتماعية في جوهرها الحقيقي كصيغ متبادلة بين الناس، إن هذه الصيغ تطرح بعيدا عن هذا المنهل الأكثر صحة لاستيعاب التاريخ) (2) ، وفي مجال الفن فإن السرد هو من أفضل الأعمال التي تفسر التاريخ وتكشف عن الحقيقة الأدبية التي تعبر عن الطابع الحيوي والديموي الذي يجعله حيا فينا.

والصيغة التي تمثلتها الرواية في طرح رؤيتها للتاريخ البحريني في تلك المرحلة الزمنية، هي صيغة أوردت الأحداث التاريخية على تواليها الزمني مستعينة بشخصيات مقاربة لشخصيات تاريخية عاشت تلك المرحلة التاريخية. وهي صيغة تخلق تجربة قراءة فريدة عند القارئ (فإذا اعتقدنا عن وعي أو عن غير وعي أن القصة قد تكون حدثت فعلا، فإننا نستغرق فيها بطريقة خاصة) (3) بسبب التأثير الذي يخلقه حضور الواقع في المتخيل السردي. والرواية بدأت بثورة الغواصين على الطواويش ضد عملية الديون التي لا تنتهي، ثم انتقلت في تسلسلها التاريخي إلى التحول الاقتصادي الحاد الذي مرت به البحرين بانتهاء عصر الغوص وتحول الغواصين إلى عمال ينقبون عن النفط في الجبل، ثم دخول البحرين مرحلة التيارات الإيديولوجية المختلفة. وتخلل كل هذه المراحل سرد لمقاومة الاحتلال الإنجليزي وتشكل الحركات الوطنية وتطورها وتداعيها أمام كل حدث مفصلي في تاريخ البحرين المعاصر.

وأمام هذا الحضور الطاغي للواقع الذي تخلقه (المماثلة) التاريخية؛ فإن الرواية استخدمت أدواتها الخاصة في المباعدة بين الحدث التاريخي بشخوصه وبين المتخيل السردي بدلالاته، فـــ( يضطلع السرد في هذا المقام بدور التمثيل الذي لا يحاكي، لأنه ينشئ المفارقة من رحم المماثلة، ويضطلع بالتبعيد في اللحظة التي يقنع فيها بالتقريب والمماثلة والمماهاة) (4). وتلك هي إحدى السمات الجمالية في الرواية التي جعلت منها قطعة فنية تتوارب بين التاريخية والخيالية.

إن الصيغة السابقة هي التي جعلت مضمون الرواية نقطة ارتكاز تحليلها. فالكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان معنيا بمغامرة المعنى أكثر من خوض مغامرة المبنى. وكان معنيا بتجلية مضمون الرواية ومقاصدها ورؤاها أكثر من اعتنائه بسبك شكلها وتفجير لغتها وتركيباتها. لذلك عُنيت في هذه الدراسة بالغور في أحد المضامين الذي كان التاريخ أحد البوابات المفضية إلى سرادقه في الرواية. وهو مفهوم الحرية الذي كان هاجس الرواية وهاجس شخصياتها في المراحل التاريخية المختلفة التي سردتها الرواية.

ثانيا: الرؤية والبناء في رواية الينابيع:

الحديث عن الرؤية والتشكل هو حديث الرواية اللامنتهي، من حيث إنه حديث عن إبداع الرواية التي تأبى أن تقف عند تشكلات محددة أو رؤى محدودة. وهذه الدراسة تنحو إلى اعتبار قراءة الرواية وتحليلها يقومان على تكامل النظر في المكونات الروائية بما فيها البنية والرؤية.

إذ يصعب فصلهما أو التمييز بينهما تمييزا كليا. وما دراسة المكونات الروائية إلا عملية تحليل وتعمق في بعض المكونات؛ يتعين إتمامها بتتبع الآليات التي تندغم بها المكونات بعضها ببعض مشكلة الحكائية حسب تعبير الناقد إبراهيم عبدالله الذي يعرف المادة الحكائية بأنها. (متن مصوغ صوغا سرديا، وهذا المتن إنما هو خلاصة تماهي العناصر الفنية الأساسية وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية ــ المكانية. بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها)(5).

ففي سياق الحديث عن بنية رواية «الينابيع»، نتبيّن أن النظام الذي شُيدت عليه بنية الرواية هو نظام يقوم على مكون (شخصيات). وهو نظام يشد إليه باقي مكونات السرد المكانية والزمانية والوصفية ليشكل النسيج الكلي للرواية. فإذا رصدنا الجملة الأولى من كل جزء في الرواية سوف نجدها جملاً ترتكز على «شخصية» يحدد السرد تموضعها في الحدث وفي الفضاء المكاني والزماني عبر التحديد الزمني الماضي.

ففي الجزء الأول «الصوت» تطالعنا الرواية بجملة (كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن). وفي الجزء الثاني «الماء الأسود» يبدأ السرد بجملة (كان الشاطئ مسرحاً لمعركة عليّ). وفي الجزء الثالث «الفيضان» يبدأ السرد بجملة (كان علي يسأل الليل والمطر وأنصال البرق). فالشخصيات في الرواية هي التي تضيء باقي مكونات السرد وتشدها إلى بعضها عن طريق توغل السرد في الشخصيات وتعمقه فيها وفي حركتها في الرواية وتطورها أو تجمدها. وفي الرواية نماذج كثيرة يمكن الاستدلال بها على ذلك. فعبر شخصية «محمد العواد» تكشف الرواية الموقف الاجتماعي من الفن والمرأة والقبيلة. وتكشف أثر المكان في احتواء تلك الأفكار وتناميها، حين انتقل من المحرق إلى المنامة حيث الفارق في التأثير الإيديولوجي الديني بين المدينتين، ثم

حين سافر إلى الهند لإصدار اسطوانته وعاش جزءا من الحياة الحرة التي تمناها.. وعبر شخصية «إبراهيم زويد» تكشف الرواية عن حدة التحول الزمني من عصر اعتمد اقتصاده على الغوص وتجارة اللؤلؤ إلى آخر يحفر طريقه نحو تجارة النفط. وكيف صاحب ذلك تحول آخر في القيم أثر في العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة قبلا.

كما أن سرد الرواية الذي قام على عرض عدد كبير من الشخصيات والتعمق في تركيباتها الشخصية وخلق تواصل اجتماعي مكثف فيما بينها جعل وظيفة بعض الشخصيات التي يمكن وصفها بأنها نمطية وتسير وفق إيقاع ثابت في الرواية؛ تسليط الضوء على قضية القيم في الرواية وكشف نسبية القيم عند بعض الشخصيات دون أن تنجرف الرواية نحو الخطابية والإنشائية. ويمكن اعتبار شخصية «فيّ» التي ظهرت شخصية نمطية في الرواية لم تتطور تركيبتها النفسية أو الاجتماعية ولم يتنالمَ دورها أو وظيفتها في السرد، يمكن اعتبارها، أداة فنية كشفت بها الرواية الفارق القيمي بين شخصية «محمد العواد» الذي استغل حبها له ثم تخلى عنها في أقسى ظرف اجتماعي يمكن أن تواجهه. وشخصية سعيد المناعي الذي أخرجها من محنتها الاجتماعية وتقبلها زوجة تنجب على فراشه ابنا ليس له. ومن خلال شخصيتي «محمد العواد» و«سعيد المناعي» تطرح الرواية الفارق بين الحرية غير الملتزمة التي يطمح إليها العواد، والحرية الملتزمة التي تمثلها شخصية المناعي.

إن الاعتناء ببناء الشخصيات وتوصيف واقعها الاجتماعي هو في حقيقة الأمر أحد مقومات الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب الذي تنتمي إليه الرواية، إذ يتعذر دراسة مضمون الرواية دون التطرق إلى السمات الواقعية التي اختصت بها. ومن أهم تلك السمات دراسة الشخصيات، إذ «لا غنى لكل عمل أدبي كبير عن عرض أشخاصه في تضافر شامل لعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع وجودهم الاجتماعي ومع معضلات هذا الوجود. وكلما كان إدراك هذه العلاقات أعمق، وكان الجهد في إخراج خيوط هذه الوشائج أخصب، كان العمل الأدبي أكبر قيمة»(6) من المنظور الجمالي الاشتراكي في الأدب.

واستنادا إلى ما سبق يمكن النظر إلى بنية الرواية على أنها بنية (عنقودية) تقوم على تفريع شخصيات النص، ومحيطها الاجتماعي الذي تنتمي إليه تأثيرات كل من الزمان والمكان، من مسارين تاريخيين واجتماعيين، تمثلهما شخصيتين رئيسيتين.

المسار الأول: مسار شخصية «محمد العواد» وهو مسار مجتمع ما قبل النفط، بعلاقاته المتشابكة وبمحيطه الاجتماعي الخاص بالغواصين والفقراء والعبيد والمشايخ. وكان الاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص هو الاتجاه الديني الذي يُثبت العبودية، ويحرم الفن، ويُضيق على المرأة. ويعطي صلاحيات واسعة لرجال الدين، الذين هم جزء من السلطة.

المسار الثاني: هو مسار شخصية بدر الوزان، وهو مسار عصر النفط في البحرين، وله شخصياته المرتبطة بسياقه التاريخي والاجتماعي. والاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص في تلك المرحلة هو الاتجاه اليساري، الذي تذبذب بين القومية والاشتراكية.

ويلتقي المساران في شخصية عليّ، الذي هو ابن غير شرعي «لمحمد العواد» وتلميذ «بدر الوزان» الذي تمرد عليه. وتعد شخصية عليّ نتاج المسارين فعلا، فهو نتاج رحلة العبيد الذين تدرجوا، تاريخيا، بسبل شتى كي يتحرروا من قيود اللون والنسب والأعرف، وهو نتاج التحولات الفكرية التي شهدتها مسيرة المفكرين والمناضلين في البحرين في تلك المرحلة التاريخية.

ولا تخرج رؤية الرواية عن التركيبة المتشابكة مع بنيتها القائمة على «نظام الشخصيات»، التي تتكامل معها في إنتاج الصيغة الإبداعية للرواية. وحيث إن الرؤية هي «الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها».(7) وحيث إن الرواية اتخذت لنفسها نمط الراوي من الخارج الذي يعلم بكافة مقتضيات الأحداث، فإنها تكون بذلك قد منحت شخصياتها فرصة وافية للتعبير عن نفسها وعن رؤيتها الاجتماعية بصيغ لغوية متعددة كان للضمائر دور بارز فيها.

إن التعبير عن الرؤية الذاتية للعالم هو، كذلك، أحد مقومات المدرسة الواقعية الذي تضطلع الشخصيات فيها بالنهوض بهذه المهمة. فــ«مقدرة الشخصيات الأدبية على التعبير عن نظرتها إلى العالم فكرياً تؤلف جزءاً مكوناً ضرورياً هاماً من الترجمة الفنية للواقع ».(8) لذلك استدعت هذه الدراسة استقصاء رؤى بعض الشخصيات للآخر والمجتمع والكون. فكان أهم ما يشغل معظم شخصيات الرواية تطلعها إلى الحرية وفق رؤيتها ومنظورها الخاص للحرية. وانطلقت كافة الرؤى (التحررية) من موقف كل شخصية من جذورها ومن أزمة هوية تعاني منها العديد من شخصيات الرواية. وهو ما يفسر عنوان الرواية «الينابيع». فليست الينابيع إلا تمثلا آخر لمفهوم الجذور. ولذلك نجد أن قضية معظم الشخصيات في الرواية هي التمرد على ينابيعها/ جذورها.

والرواية في صياغتها لرؤيتها تطرح الأسئلة التاريخية الكبيرة في حياة الشعوب النضالية: فمعظم الشخصيات لم تتمكن من تحقيق أهدافها التي تكللها الأهداف النبيلة والقيم السامية. فها هو السبب؟؛ وباقي الشخصيات التى طرحتها الرواية في إطار انتهازي كانت هي الأقدر على الوصول إلى مبتغاها. فما هو السبب أيضا؟ الذين صنعوا التاريخ والمجد والذين أداروا حركة التغيير لم يكونوا أصحاب القيم التحررية. الذين تزعموا حركة التغيير ونادوا بالقيم التحررية أصبحوا تابعين، في نهاية الأمر، لمن كانوا يختلفون معهم ويناقضونهم في القيم !!. هل ثمة مشكلة في الأهداف أم في الأدوات، أم في كليهما؟

إنّ السرد الذي أخضع الكم الكبير من الشخصيات في متواليات تاريخية (طويلة نسبيا في حياة الفرد / قصيرة نسبيا في حياة الشعوب) يحاول البحث في الأسئلة السابقة من منظور فني دون تقديم إجابات حاسمة عليها، بل بطرح رؤى متعددة واتجاهات مختلفة تفسر بواعث سلوك الشخصيات وتبريرها لمساراتها واختياراتها.

ثالثا: التمرد على الينابيع:

بدت أغلب شخصيات الرواية مأزومة بينابيعها… مهجوسة بجذورها، وبدت الينابيع/ الجذور هي العائق المانع أمام الشخصيات من العيش بحرية، وهذا ما جعل الرواية تصوغ للنضال من أجل الحرية طابع الصراع الطبقي بمستويات مختلفة. وعند تحليل رؤية كل شخصية لمفهوم الحرية ولكيفية الوصول إليها، وبقراءة وظيفة المكونات السردية في تعميق تلك الرؤى؛ يمكننا الوصول إلى الرؤية الكلية للرواية والمقصد الفني للكاتب الذي يصعب إغفال النظر فيه عند دراسة العمل الروائي الواقعي إذ «يحمل كل نص حقيقة ينبغي إبرازها، ولكن يجب التنبه إلى أن هذه الحقيقة إنما انتزعت من مؤلفها انتزاعا. إنه هو الذي يمسك بها ويضمنها في النص»(9) تضمينا أدبيا يترجم رؤاه في نسق فني.

وستقوم هذه الدراسة في هذا الحيز على تقصّي ينابيع/ جذور بعض الشخصيات التي كانت باعثا للكثير من سلوكياتها، وقراءة تلك الينابيع ضمن البنية السردية، ومن ثم النفاذ إلى دلالتها الفنية.

  ـــ محمد العواد: طيف الأم:

محمد العواد هو ابن شرعي خارج مؤسسة الزواج، والدته إحدى الإماء اللاتي كن يعملن في بيوت السادة. لم يجد محمد العواد من والده أو من المجتمع عدالة ومساواة في المعاملة والتقدير بينه وبين إخوته البيض (الشرعيين)، فهو في كل مرة يقف في الصف الأخير، ويصلي غاضباً، ويأكل مع الخدم ويصفعه أبوه لأي هفوة، وهو يرى إخوته البيض ممتلئين بالشحم والدم، وهو عود يابس يرعى الغنم وينادم الآبار الملأى بالأصداء والأغنيات»(10).

وقد شكلت الأم في وجدانه الطعم الأول للألم والمسوغ العرقي للفن، فكانت الصورة الأولى للإنسان المهمش والصدى الدائم الذي يتردد في ذاكرته عند كل معاناة يتجرعها بسبب اللون والنسب الذي ورثهما من علاقة والده بأمه. فحين علقه والده مرة في البئر ترهيبا له كي يترك العزف والغناء تذكر والدته وفضاء العذاب الذي أحاط بحياتها في منزل والده «الجوع والحشرات والمرايا المشرخة، وقناديل الأخوات والأموت، والعظام الملقاة التي لا مسكها أصابعه، تذكره، بالأم. ذلك الجسد الجميل والوجه الأبنوسي الناعم كان ملجأه الأول والأخير، تمتد أياديها إليه الآن لتقطع الحبال الغائرة  في لحمه فلا تستطيع»(11). وحين عشق الفن ربطه بالجينات الأفريقية التي تسللت إلى دمه عبر أمه وخلقت فيه تلك الارتعاشات الراقصة، «رآها أبوه ذات ليلة مملة، بين العبدات فاشتهاها، وصنعه بذلك اللون الأبنوسي والروح الأفريقية. يريد أن لا تدمدم الغابات في عروقه..». (12).

وعلى الرغم من سرد الرواية لمعاناة محمد العواد من حالة التمييز، الاجتماعي عامة والأسري خاصة. التي يعيشها فإنها لم تعبر عن تبرمه الشخصي من لونه أو نسبه لوالدته بصيغ صريحة أو سلوك جلي، ولكن تغلغل التصور الجمعي للفتى الأبيض الشجاع لم تستثن مخيلة محمد العواد هو الآخر لتكشف عن شوق وتوق عميقين لصورة البطل الأبيض، فحين رأى «فارس» ذات مرة استحضر البطولة في بياضه وأناقته، «إنه فتى الشيوخ السارح بين خيامهم وخيولهم وبساتينهم، قريب إلى فؤاد الشيخ حامد، فكيف يبدو الآن صلدا مثل رمح. لِم لمْ يزل البياض والأناقة شرارات القوة والفحولة».(13) وهذه بعض أمارات الشعور بالتأزم الطبقي في نفس محمد العواد.

والمفارقة الطبقية التى يعيشها محمد العواد في تركيبته كانت المؤثر الأهم في تشكل مفهوم الحرية عنده. فهو ليس عبداً مكتملاً، كما أنه ليس حراً بالأصالة؛ ولذلك يمكن النظر إلى الأداة التي استعان بها محمد العواد للتعبير عن رغبته بالتحرر من أزمة الينابيع التي يعيشها على أنها تكمن في الفن وهو أداة (فردية) في طبيعة استخدام العواد لها، غير أنها تمتلك خاصية التأثير والتحريض الجماعي، فالفن له «قدرته على التأثير في فترات أبعد من اللحظة التاريخية التي نشأ فيها، وبذلك كان له سحره الدائم»(14) ، وهو ما حاول محمد العواد ممارسته في بعض أجزاء الرواية غير أنه لم يتمكن من إنجازه حدثاً مكتملاً في بنية الرواية.

وكان الغناء عند محمد العواد هو أقوى أدوات التمرد وعلامة الحرية الكبرى. وكان الفن، في ذلك الوقت، المتمثل في العزف والغناء يواجه الازدراء والاستهجان. فتكاملت أسباب الازدراء في شخصية محمد العواد من نبع واحد نبع الأم التي ورثته السواد والنسب وجريان الطرب في نبض الدم.

وبالفن تمرد محمد العواد على كل مختلف المؤسسات التي كانت تحاربه :

مؤسسة الأسرة: منح العود لمحمد نسباً ولقباً وهوية لم يمنحها له والده. فصار في الرواية محمد العواد، والقارئ لا يجد في الرواية إسماً لعائلة محمد. ولأجل العود والغناء هجر محمد أسرته التي لم تمنحه العدل والمساواة والاعتراف الكامل ولم تقدم له عوضاً عما سبق الحرية في اتباع ما يهوى.

كما تمرد محمد العواد على مؤسسة الزواج نفسها لأنها ستكون عائقاً أمامه في استمرار حريته في ممارسة الفن، يقول لمّا طرح موضوع زواجه من «فيّ» بعد أن حملت منه «أنا الرجل الحر، أحبس نفسي في هذه الخرابة لأصنع أطفالا وأناغي زوجة وأشتري الأدام كل صباح! إنني لم أتغرب وأتعذب وأستشهد في هذه المدينة الحجرية إلا لكي أغني! سأغني! سأغني. أنا فنان أحلم أن أصعد إلى النجوم لا أعيش بين بول الصغار» (15).

المؤسسة الدينية : واجه محمد العواد رجال سالم الرفاعي طوال حياته الفنية، كانوا يلاحقونه ويكسرون عوده وآلاته ويفسدون لياليه وسهراته، واصفين ما يفعله بالدعوة إلى الفجور وإفساد المجتمع. وكانت المؤسسة الدينية هي أول من حارب حبه للغناء والفن، غير أنها لم تتمكن، على طول مرحلة الصراع معها، من كسر عزيمته واثنائه عن إكمال مسيرته الفنية.

الواقع السياسي والاجتماعي: وسم الكاتب الرواية في جزئها الأول بعنوان «الصوت» وبتقصي المفهوم الذي صاغته الرواية للصوت يتعمق مدلول التمرد ثم الثورة في الرواية إلى ان يختتم الجزء الأول حدثه الأخير بحركة احتجاجات كبيرة تنتهي بإطلاق النار على الميجر الإنجليزي. ففي الثقافة الشعبية يعبر مصطلح «الصوت» عن أحد الفنون الشعبية «التي تعتمد على الآلة المحببة في الأوساط الخليجية والعربية (العود)، والتي ترجمت بروح وإحساس ينتميان إلى عروبته وإقليميته الخليجية. فاختيرت له القصائد العربية الجاهلية، وأيضاً التي جاءت بعد الإسلام»(16). وبتقصي دلالة «الصوت» سوف نجدها تتطور من المفهوم الفني الذي تأسست عليه في الثقافة الشعبية وفي المدلول الأول في الرواية إلي الدلالة التعبوية والنضالية التي أخذت تتشكل بتطور البنية التركيبية في الرواية، و«نعني بالدلالة جميع لحظات التلفظ المتكررة والمتماثلة مع نفسها في كل تكرراراتها»(17)، التي ستشكل معنى دالا ضمن سياق السرد.

والنماذج التي سنوردها بمنهجية متسلسلة تطورية لدلالة الصوت. وليست ذات طابع انتقائي موجه. فقد بدأ الجزء الأول، بل بدأت الرواية كلها بجملة افتتاحية هي «كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن»، وهي جملة تؤسس لمعنى الصوت بدلالته الفنية. غير أن هذه الدلالة أخذت في التطور مع اندماج محمد العواد في الحياة الاجتماعية ومع فئات متعددة.

فحين كان محمد العواد بين جموع المحتجين الفقراء الذين تلاحموا وتبادلوا الطعام والصبر والقوة تورد الرواية الجمل التالية : «كانت هذه الأغنية التي انتظرها طويلا، صيحة حرب وإيقاع مارش لصف طويل من المتعبين. وراح صوته يلعلع فوق حشود الشوارع، والكلمات تتسرب، وتتعذب في الأفواه الأمية، ثم تندغم وتنمو وتطير، وتصير سرباً من النوارس»(18). إن تلاحم الفقراء تحول في نفس محمد العواد إلى أغنية لها وقعها الخاص وتأثيرها المختلف.

ويشتد ارتباط مفهوم الصوت الفني بمفهوم الثورة حين يتواجد محمد العواد بين جموع الفقراء إبان ما عرف بثورة الغواصين حين خرجوا على الطواويش محتجين على ديونهم التي تتضاعف ولا تنقضي، يتساءل محمد العواد: «من أية أغوار صعد ذلك الصوت؟ تلك الأنشودة (النهمة) الغائرة في موج الصدر واضطرابات الصواري والروح واللجج والصخور ومتاريس الرمل المحطمة وقيعان الأكواخ الخالية والقدور الناضبة…؟ من أين صعدت تلك (الآه) وأوقفت الأصابع المقطوعة، وجمدت الأرجل الفالتة في الأزقة، وأنضجت الأولاد في دقائق؟ ثمة صوت اندلع،…؛ تحول الهاربون بغتة إلى مغنين… راحوا يجدفون بين التراب، وينهمون في عريهم المجلود،…، الصوت الصغير، الوحيد، المرتجف؛ يتنامى بين كتل الصخور وهو ينظم إلى قطيع البشر المشتت العائد من المسلخ،… ، الصوت الأبح، الخافت، يتوحد بصوته القوي الحزين فيندلع اللهب، وكأن مئات السفن تتوحد في هدير كوني ويصير حجرا متدفقا يرنح الفرسان من صهوات الخيول التي تفح نائية مكسورة. ولتبدو الشوارع مفتوحة حرة»(19). ففي هذا المقطع تكشف الرواية عن براعتها في استخدام اللغة استخداماً يدفع المعاني العميقة إلى التجلي، حيث تتكاتف الألفاظ التي تحشدها الرواية، المرادفة للصوت، في تصاعد يتناغم مع تصاعد الحركة الاحتجاجية للفقراء.

وفي حركة احتجاجات أخرى متجهة نحو القلعة حيث يقبع سجن كبير، يرد في النص التعبير الآتي: «من كان يظن أن هؤلاء المدفونين في التراب لهم صوت؟ وأولئك الفلاحون المعزولون في الدوالي والقرى البعيدة سيندفعون بسيول حميرهم إلى القلعة فيختلط النهيق بـالصراخ»(20).

وعندما تراجع «فارس» ، ذلك الشاب مرموق القبيلة، عن ثورته ضد المستعمر الإنجليزي، التي حشد لها جموع الرافضين لتسلط الميجر الإنجليزي وجموع الفقراء المتضامنين، أكدت الرواية على دلالة كلمة الصوت بمعنى صخب الثورة والاحتجاج: «لماذا لم يدع التيار يصخب، ويدمدم بين الحصى المتقلقل والذائب، ويقلع العشب الأخضر الموحل اللزج، لماذا في قمة النشوة يكسر الإيقاع والصوت؟»(21).

وفي نهاية الجزء الأول يشتد صوت الاحتجاجات وتصل إلى بيت المستشار وتمتزج أصوات المحتجين، التي كانت تصدح بالنشيد أحياناً، بأصوات الرصاص المنطلقة من كاد الجانبين، إلى أن ينتهي الجزء الأول بدوي رصاصة تستقر في رأس الميجر الإنجليزي «إنهم لم يتسللوا بصمت، بل كان نشيدهم يوافق سواعدهم وحبالهم الملقاة فوق الجدران وفي اندفاعات أقدامهم الكثيرة الهائلة بين الأبنية والجدرات وغرف الحبس واندمج صراخهم وغناؤهم برصاصهم وصيحاتهم،  وتجمد الحراس الهنود مذهولين، وألقوا بنادقهم ومفاتيحهم، وطلع رفاق البحارة من تحت الحفر ونزلوا من البرج مهللين فرحين…، اندفع الميجر مطلقاً الرصاص نحو البوابة،…، وفجأة دوت رصاصه أمام وجهه…» (22).

إن «تنظيم» الرواية لدلالة الصوت في هذا النسق، هو تنظيم لإحدى وجهات رؤية محمد العواد لمفهوم الحرية. وهو مفهوم ارتبط بالفن من حيث هو قوة محرضة ودافعة.. من حيث هو أداة للتعبئة وحشد الجماهير.

 2  ـــ جمعة الحادي:

جمعة الحادي رجل لا ينتمي إلى محيطه. في البدايات هو سليل العبيد الذين اقتيدوا إلى هذه الأرض مختطفين ومكبلين. وفي النهايات هو رجل انتشل نفسه من أهل المزابل والأكواخ فلم يعد منهم.

صورة أجداده المعذبين لم تفارقه، لم تكن لحياتهم قيمة عند سادتهم فلم يوفروا لهم أسباب النجاة حين كان الموت يتخطف الجميع ويخصهم وحدهم دون السادة بالهلاك، «ثم رأى جده في سفينة العبيد وهي تغرق، والسود يصرخون بلغاتهم الغريبة، يشيرون إلى قيودهم، لكنهم راحوا يغرقون والبحارة والتجار يسبحون ويهربون من السفينة الغارقة.  أحس كأنه هو الذي يغرق ويختنق، فنهض مذعورا مغتسلا بالعرق»(23). ولم يكن حاضر جمعة وأسرته أفضل حالا من ماضي الأجداد. الحياة التي لم يحرموا منها، لم ينلهم منها إلا الخدمة والمهانة والإذلال واستلاب الحرية والإرادة، يقول في أحد مقاطع الرواية: «أنتم كنتم تعرفون كيف كانت أسرتي؛ وكيف كنت! كنا ملحقين بهامش بيت، هو أشبه بالزريبة؛ وكان أبي وإخوتي يعملون طوال النهار والليل، في تنظيف القدور وطبخ وحمل للرضع وصفعة لأية هفوة والسادة لهم أن يختلوا حتى بالبنات. أتعرف كم تحملت وقاسيت من كل هذه الإهانات؛ وتطاردك كلمة عبد في كل مكان!» (24).

وكان جمعة الحادي واعياً لأزمة لونه وأزمة الطبقة التي يُصنف ضمنها، وقد عبر في غير موقع في الرواية عن ترسب ذلك في نفسه، وعن إدراكه أن بواعث سلوكه وردود فعله تجاه واقعه تجلت في صورة «طموح» جارف نحو الارتقاء الطبقي. و«مقدرة الشخصيات الأدبية على وعي ذاتها تلعب دورا بارزا في الأدب»(25)، من حيث تعبيرها عن التعبير عن نفسها، وعن وضوح إدراكها للحياة والآخر وكيف تحقق أهدافها.

بحث جمعة الحادي عن السبل التي تنتشله من أزمة ينابيعه واهتدى بادئ الأمر إلى طريق العلم؛ وعلى الرغم من كون العلم أداة فردية فإنها تمتلك خاصية التنوير الجماعي؛ وهو ما لم يسعَ جمعة الحادي لتحقيقه، وإن كان عمل في بعض أحداث الرواية المتقدمة على الاستفادة من بعض الشخصيات المتعلمة لبناء الوطن مثل شخصية بدر الوزان. ولكن تلك الاستفادة كانت في إطار (المفهوم الشخصي) لجمعة الحادي في بناء الوطن، المتمثل في الاستعانة، وبناء كتلة منسجمة معه. وليست استفادة قائمة على ترسيخ مفهوم المشاركة.

عكف جمعة الحادي على القراءة في الكنيسة وقرأ كثيراً من الكتب، وأهم ما وجده في الكتب طرح قضية التحرر من العبودية «كان جمعة الحادي يرتعش وهو يتابع السطور الغريبة في مجلة (المقتطف)، كانت كلمات العلم والمدنية تومض مصابيح في الطريق وورشاً ومدارس بنات جميلات وأغنيات وبالونات، …، لينم إذن، أو يجهز على هذه المجلة الرائعة، التي كلما قرأها أحس بروعة الحياة ونشوة العمر، فعما قليل سيخط بقلمه أشياء مماثلة. سيقول رأيه في تجارة العبيد، وفي ذلك النزف من سواحل أفريقيا المسمومة، وفي تلك السفن المشحونة بالصديد والعظام المكسورة. أما آن وقت نبش هذه المزبلة وأصحابها !» (26)، ويظل مأزق العبودية حاضرا عند جمعة الحادي في أغلب مواقفه، فحين تلومه إحدى أخواته على عمله مع الميجر الإنجليزي المعين من قبل المستعمر، يرد عليها لائماً ومعللاً ما يفعله بأنه وسيلة تحرر من العبودية التي يرفض المجتمع عتقهم منها. «لماذا تنقلين إلىّ هذا الهراء؟ ألا تعرفين أنهم يريدوننا أن نظل عبيداً لديهم إلى الأبد، حتى يتلذذون بتحسس عرقنا المتصبب ودمنا؟ إنهم يغارون حين إننا نتعلم ونستطيع بينما هم لا يزالون في بركهم الموحلة وفي أعمال الحمالة والدناءة»(27).

ثم تطورت وسائل جمعة الحادي للتمرد على ينابيعه/ جذوره، فبعد القراءة سوف ينضم للطرف الأقوى في المجتمع، سوف ينضم إلى المستشار الذي يرى فيه ثقافة الحرية والعدل والمساواة «الميجر من أمة عظيمة وراء البحار، وهم أصحاب علوم وتمدن ورحمة، لا عبيد عندهم وكلهم أحرار! إنه يريد كتبه وسأعرض خدماتي عليه. ليس مكاني الغوص وعمارات المسامير والحبال!» (28).

ثم لجأ جمعة الحادي إلى جمع الأموال وامتلاك الأراضي «الشيخ السكير مفلس، وهو بحاجة إلى النقود من أي مكان، وأرضه كبيرة وهامة. تصوروا ماذا سيحدث عندما يمتلك شخص ما نصف المدينة الصاعدة من أنقاض الأكواخ والمزابل؟ أنا أسرعت بشراء قطعة ولعلي أبتلع المزيد. انظروا إلى هؤلاء الناس البهائم، لا يدرون ماذا سيحدث غداً، والأرض كنوز» (29). وامتلاك جمعة الحادي للأرض لم يكن امتلاكاً لشكل من أشكال الثروة فحسب، بل امتلاكاً للهوية والانتماء الذي يفتقد جذوره على هذه الأرض. فالأرض تشكل أزمة من أزمات الهوية عند جمعة الحادي وقد عبر عن شي، من هذا القبيل حين كان يتألم لمصاب أخته التي احترقت والتي كان يتمنى أن تنجب أطفالا يحفرون اسم والده على هذه الأرض. «… كنت أود أن أراها منتفخة البطن، ذات جحفل من الصغار، تغرز اسم ذلك الأب العملاق في رمال هذه الأرض الجامدة. ثم أدفنها كتلة رماد في التراب!» (30).

إن تتبع علاقة جمعة الحادي مع الأرض يكشف عن أزمة مع المكان، فقد عبر جمعة عن جري أطفال المحرق خلفه ونعته بـــ«العبد» وهو يعمل في شقاء، ثم انتقل إلى المنامة وعبر عن تقززه من المزابل التي تحيط به ومن الفقراء الذين يسكنونها. ولذلك كان امتلاك الأرض وسيلة لفرض علاقة جديدة مع المكان يكون جمعة الحادي هو الطرف الأقوى فيها. 

ومع كل مرحلة ينجح فيها جمعة الحادي في الترقي الطبقي يطمع في وسيلة جديدة تمنحه هوية جديدة. فيطمح فيما بعد إلى امتلاك النساء البيض في سعي لتغيير التركيبة العرقية لأبنائه وأحفاده «الآن لابد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه، يريد أن يملك ويملك حتى يبتلع كل شيء»(31)، وهو ما يفسر زواجه من أخت بدر الوزان.

3  ـــ بــدر الــوزان:

بدر الوزان من الشخصيات التي ظهرت في منتصف الرواية وقدمتها الرواية شخصية مناضلة للحرية والعدالة ومقاومة المستعمر. ولم يعبر بدر الوزان عن أي شعور بالاغتراب أو عدم انتماء للمكان. ولكن تبرز إشارة في نهايات الرواية تشكك في انتماء بدر الوزان لهذه الأرض عبرت عنها زوجته ظبية في رسالتها له في منفاه في سانت هيلانه «تقول لي عائشة أن نذهب إلى بلدي ولكن هذا قد أصبح بلدي وبلد زوجي يزعمون أنك لست من هذه ا لأرض !» (32). تلك الرسالة فتحت تربة السرد على قضية الينابيع/ الجذور عند بدر الوزان كغيره من شخصيات الرواية.

كانت رسالة ظبية في نهايات رحلته، ولكن في البدايات حين قرر بدر أن يستجمع أسباب القوة والنفوذ لجأ إلى «القبيلة». فرحل إلى فرع عائلته من أهل (والدته) أصحاب القبيلة والنفوذ والنسب العربي الذين لم يتأخروا عن شد رباطه بهم بتزويجه إحدى بناتهم ومنحه كل ما يريد من أسباب القوة: «أخواله وأبناؤهم استقبلوه بحفاوة. دخل ببنطلونه وقميصه في كتلة الثياب والعباءات والعقل وشوارب الصقور والوجوه الصلدة. شعر براحة وهو يتبدل، ذاب في حشد القبيلة الصارم، رفس بقاياه المترددة وهواجسه. ماذا يريد أكثر من هذه الربيات تتراكم في يده، ودكانه الصغير يمتد إلى السفن والبحر والبرية، ومئات الوجوه البدوية تسلفه سجاجيدها وقماشها الملون وكرات لبنها الصلبة وماشيتها وخلاخيلها وفضتها، وهو يبيعها لتجار هنود وفرس يلتهمونها فوق سفنهم ويروح يعصر النجارين والحدادين ويستل الخناجر والخواتيم والأصابع منهم. إنه يتحول إلى صقر، الطيور المسالمة ترتعش تحت مخالبه. يتذوق عصارة الصليب المعقوف وينتزع بيض الأعشاش ويلتهم الفراخ» (33). وهكذا بالالتحام بالقبيلة صار بدر الوزان قوياً في نظره.

إن المقاطع السابقة من الرواية تعبر عن أزمة هوية وأزمة جذور يعيشها المناضل بدر الوزان. فهو يرى أن جذوره غير القبلية هي أحد أسباب ضعفه والعائق أمام إعلانه أي موقف وأمام وقوفه مناضلا في أي قضية. ولذلك كان لجوئه إلى القبيلة وسيلة قوة فردية تحل له أزمة الينابيع/ الجذور التي يشعر بها في أعماقه.

رابعا: ثائرون متصالحون:

استناداً إلى الفكر الواقعي الاشتراكي الذي تصدر عنه رواية الينابيع، فقد قدمت الرواية أغلب الشخصيات باعتبارها ثائرةٍ على الواقع الطبقي رافضة له. ولكنها في الحقيقية كانت متصالحة مع تركيبة هذا الواقع وقابلة بقوانينه؛ وما طموحها في تغيير هذا الواقع إلا طموح فردي مرتبط بتغيير (وضعها الطبقي الذاتي) ضمن المنظومة الاجتماعية ذاتها دون تغيير التركيبة المجتمعية الطبقية. وهو ما يؤدي عادة؛ حسب المدرسة الواقعية الاشتراكية إلى خلق أزمة التغيير في المجتمعات. فإنجلز يرى إن «الإرادات العديدة الفردية العاملة في التاريخ تعطي في أكثر الأوقات نتائج مختلفة عن النتائج المرجوة، وغالباً ما تكون متناقضة لهذه النتائج المرجوة»(34). وهذا ما يفسر على نحو ظاهري للرواية، فشل تلك الشخصيات في تحقيق طموحاتها واحلامها، أو انحرافها عن مسارها.

فعلى الرغم من أن بعض الشخصيات في الرواية كانت متصادمة مع الواقع فإن حركتها المتنامية في السرد كانت تتصالح مع الواقع كلما اقتربت من قوانينه. وأمارة تصالحها مع الواقع انشغالها بذاتها، ولجوؤها إلى أدوات فردية للتغيير، أو تفريد أدوات التغيير القادرة على التعبئة الجماعية، ومن ثم دخولها في عملية ارتقاء طبقي ضمن قوانين الواقع الطبقي ذاته.

وفي السياقات التاريخية التي تمر بها الرواية في أحداثها وشخصياتها، كان لمفهوم الحرية والتعبير عن جوهره. فكل تحرر يجب أن يحدث تغييرا، لكن التغيير يبقى محدودا إذا ارتبط بالاتجاه الفردي. وقد كانت أغلب اتجاهات التحرر فردية، من أجل ذلك لم تحقق التغيير الطموح الذي كانت تنادي به. سنورد فيما يأتي نماذج لتعامل بعض الشخصيات مع الحرية مفهوماً والتغيير هدفاً.

 1  ـــ محمد العواد:

على الرغم من مشاعر الألم التي كابدها محمد العواد نتيجة التهميش الأسري والمجتمعي له بسبب لأمه، أو بسبب احترافه الفن، غير أن إرضاء الطبقات العليا من القوم كان أحد أهداف احترافه الإبداع الفني وأحد الوسائل التي أراد انتهاجها للارتقاء الطبقي، ففي حديثه لميّ التي كانت على أعتاب الزواج من رجل مرموق النسب قال «سأغني للكبار فانتظريني. لن يأخذك أحد غيري»(35). «كلهم لا يساوون أغنية مني. صدى هذه الحنجرة سيبقى إلى الأبد، وكل هؤلاء غبار ريح وثغاء خراف!» (36). وهذا التعبير المبدئي عن تقدير الطبقة التي ازدرته جعلته لا يصمد طويلا أمام إغراءاتها إذ يتراجع في آخر الأمر عن مقاطعتها ومقاومتها. فالوصف السردي يقدم محمدا باعتباره مطرب الفئات الشعبية والمهمشة، ومقاطعاً للطبقات الاجتماعية البرجوازية.!» لم يقبل أن يغني لأحد، وعندما يغني في بيته يمتلئ بالحضور والهدايا، وعجز الأغنياء عن ضيافته، ويمكن أن يفاجئ حضوره زواج بحار فقير من الأحياء القريبة، حيث سيعم الذهول وتكتب الليلة في اللوح المحفوظ في صدور الناس!» (37). ولكن بعد أن وقع محمد في غواية الغناء لتلك العائلات البرجوازية يواجهه صديقة إبراهيم زويد  بالحقيقة التي آلمته ويكشف له عن حقيقة واقعه طوال سنوات صموده.. «- ماذا فعلتْ طوال هذه السنين الأخيرة؟ سكرٌ واحتضان لنسوةٍ تتبدلُ وجوههن في كلِ ليلةٍ ، ثم لا أغنيةً جميلةً ولا كلمةً تهزُ الناسَ ، عربدةٌ ، والآن دعوةُ الشيخ ، ولا أدري من سيليهِ . . هل ستذهبُ إلى أولئك البشر الذين عذبوك ، لقد سقطتَ ، سقطتَ يا محمد»(38)، وفي حوار آخر يقول إبراهيم زويد لمحمد حين رأى عنده متاعا وأشياء يعجز عن شرائها وتوفيرها بقدرته المالية المحدودة «من أين لك هذه الأشياء؟ وأحس أنه أخطأ فازداد ارتباكاً وألماً، وتكشفت له الأشياء برعب، إنه يصغر صديقه ويحتقره، وهو صار صغيراً فعلاً ، فلا شك أنها هدايا من الشيوخ ، وما هو الثمن؟ وهو الذي قال إنه لا يمد يده أبدا !» (39).

 2  ـــ فارس:

تكمن مشكلة فارس أنه ثائر برجوازي، فلديه تحفظاته على أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها في تعاملها مع باقي الطبقات، ولكنه في حراكه المتمرد كان معنيا بالحفاظ على طبقته وامتيازاتها لأنه أحد المتمتعين بامتيازاتها. لذلك لم يكن تمرده على الميجر الإنجليزي إلا لحصاره الشيخ وتسلطه عليه. فهو لم يكن من المشاركين في ثورة الغواصين الفقراء ضد جشع الطواويش، وحين تحول الأمر إلى ثورة فقراء انسحب من الحراك وقدم اعتذاره للميجر وشكل ذلك حالة انكسار عميق في حركة الاحتجاجات التي أجهضها استسلام فارس.

وقد خلق الخطاب السردي حالة من التناقض بين خطاب فارس إبان الحركات الاحتجاجية، وبين الحدث الذي يكون هو جزء منه. ففي الحوار الآتي يكون خطاب فارس مظلة لمفهوم الحرية التي تنازل المستعمر البريطاني العداء «لابد أن يلتف الناس حول الشيخ، فما وعود هذا الميجر إلا أكاذيب. إنه يتطلع إلى كرسي هذا البلد وحينئذ ستتبخر كلماته، ويعود هؤلاء البؤساء إلى مستنقعاتهم وبحارهم الساخنة»(40).

وبعد انكسار الاحتجاجات يطلب فارس العفو والحرية من الميجر نفسه، ويسوق خطاب الرواية إشارة إلى حالة التناقض التي تعبر عنها شخصية فارس؛ مفسرا التناقض بالوضع الطبقي الذي ينتمي إليه فارس «لم يصدقوا ما شاهدوه، فارس انحنى للميجر وطلب الغفران؟! ود الرجوع إلى غرفته الهادئة وبيته الكبير، وكأن شيئاً لم يكن وكأن أحداً ما دهس في الدروب، والشيخ الكبير لم يجندل ويحبس في بيت صغير، حارسه عسكري هندي من أقصى العجمة والعتمة»(41).

ثم تورد الرواية انشغال فارس في منفاه في الهند باللهو وبالنساء، وبمراسلة عائلته في البحرين طلبا للصفح والعودة. ثم تخليه عن زميل المنفى … وعودته إلى البحرين وحيدا، وانشغاله بالتجارة وجمع الثروة حين عودته للبحرين.

3   ـــ بـدر الـوزان:

قدمت الرواية شخصية بدر الوزان باعتباره شخصية متمردة ذات انتماء قومي. وكان يرفض الواقع الطبقي ويقاوم انتهازية المنتمين إلى السلطة والمستشار وينحاز إلى العمال والفقراء والمثقفين. وفي موقع سابق عرضت الدراسة باعث التغيير عند بدر الوزان وهو الشعور بأزمة الينابيع/ الجذور التي دفعته إلى تحصين نفسه وتقوية ذاته بالانتماء القبلي. والوزان يرى في النسب القبلي والثروة التي امدته قبيلة أمه وزوجته جاذبا للعناصر المؤيدة له. وبتضافر كل تلك المقومات رأى الوزان أنه صار قوياً ولا يخشى أحداً «الآن لا يخاف من أحد، وراءه ثروة وأرض وقبيلة وسرب كبير من الأصدقاء نما في شتى عروق البلد»(42). والشعور بالخوف والرغبة في التخلص منه هو، في حقيقة الأمر، هاجس ذاتي. وعمليات التغيير التي انشغل بها الوزان كانت تغييرا لواقعه الفردي وفق شروط القوة التي يفرضها المجتمع. وهو لم يَثُرْ على تلك الشروط ولم يطالب بتغييرها كي يتغير الواقع الاجتماعي بالكامل.

من أجل ذلك كان الخطاب السردي يعبر عن الحركة النضالية. لبدر الوزان باعتبارها حالة زعامة فردية تنم عن نفوذ وهيمنة وقدرة على مبارزة السلطة وتوجيه الجماهير «هو في قمة تألقه؛ فوق أكتاف الجموع؛ يحس أنه يسبح في بحر عميق، الرجال طوع أمره، يأمرهم بتنظيف الطريق، وحمل الحجارة الثقيلة فينصاعون لأمره، وكأن كلماته سحر»(43). فبعد موجة احتجاجات شعبية كبيرة كان هو من يديرها يعبر الوزان عن راحة فردية ورغبة في بسط القوة أكثر فأكثر «كانت كل الخيوط تتصل بأصابعه، والهاتف لا يتوقف عن الرنين، كان ينتظر تلك المكالمات الهامة، أن يسمع صوت سميث المتذلل، أن يرى وجه الشيخ نايف التعس..» (44)… وحين قابل هؤلاء للتفاوض تنازل عن اللجنة التي كانت ذات طابع شعبي وهو ما يعكس الاتجاه الفردي في شخصية بدر الوزان، وكان حس الزعامة هو ما يشغله في المقابلة «وفوجئ كيف سيدعوهم للرحيل، كيف سينصاعون لإرادته؟! طلب بضعة شؤون بدت كلها تافهة لما كان يريد، ولكنهم رأوها صعبة حتى وافقوا عليها، ولكن أن يحل تلك اللجنة المهيمنة التي شكلها فوافق»(45). ويعترف بدر الوزان بنزعاته الفردية حين يشعر بثقل رسائل زوجته ظبية التي يتلقاها في منفاه معتبرا إياها «سطل الماء الحار الذي يلقى على رأسي كي تفيق من جنون العظعة»(46).

تلك الشخصيات جميعاً انشغلت بالتغيير الفردي وليس المجتمعي ولذلك فشلت في ثورتها كما حصل مع فارس وبدر الوزان وغيرهما، أو حادت عن مبادئها كما فعل محمد العواد، أو أنها كانت واعية لغاياتها الانتهازية كما فعل جمعة الحادي ومرتضى أكبر وعادل خسرو وأخته ثريا وغيرهم.

إن تلك الشخصيات، وفق المفهوم الواقعي الاشتراكي تفتقد إلى الوعي الطبقي الصحيح القادر على تغيير المجتمع وتحقيق غايات أفراده «إن هذا الوعي ليس إذن حاصل ما يفكر به ويحسه الأفراد الذين يكونون الطبقة، فردا فردا … هذا الوعي ليس الفكر الفردي»(47)، لأنه قد يمثل الرغبات الفردية والطموحات الشخصية التي تكيف نفسها حسب معطيات الواقع، ولكن الوعي الصحيح عند الواقعية الاشتراكية هو الوعي الذي يعبر عن «صلة المجتمع ككلية. لأنه في هذه الصلة فقط يكون الوعي، الذي يستطيع الناس أن يكونّوه في كل برهة عن وجودهم»(48).

إن مفهوم الحرية الذي يؤدي إلي التغير، وفق ما نادت به الشخصيات السابقة لم يتحقق لأن الغايات كانت فردية، وكانت متصالحة مع قانون المجتمع وإن كانت تعبر عن ثورتها عليه.

خامسا: متمردون مؤثرون:

يظن بعض دارسي الأدب أن الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب معني بخلق متخيل سردي ينتهي بانتصار الشخصيات (النموذجية) إن جاز التعبير وتحقيق أحلامها في نهاية العمل الفني. وهو تصور غير دقيق يبتعد بالإبداع الفني عن طبيعته الجمالية، بل ويبتعد عن المفهوم الواقعي للأدب «فالشر في الواقع هو الذي ينتصر، وليس هناك إلا جزر صغيرة يمكن للخير أن يلوذ بها لبعض الوقت. والأعمال الفنية الأصيلة تعي ذلك، لذا ترفض الوعود التي يسهل إجزالها؛ ترفض الخاتمة السعيدة التي لا تشوبها شائبة»(49).

ولكن الاتجاه الواقعي الاشتراكي يقوم على إبراز حقيقة العلاقات الاجتماعية القائمة في طبيعتها على الصراع وكشف «ما هو جوهرى في حركة المجتمع، وما هو جوهري هو القانون الأساسي بحركة الأشياء»(50). والرواية تكشف عن قانونين لنمطين من الشخصيات في الرواية. النمط الأول هو النمط الذي قدمته الرواية في صورة انتهازية وقد كشف عن قانونها شخصية أكبر مرتضى «هذه هي الدنيا، فرص وتحولات هائلة غريبة، ومن لم يقف مع الموجة الكبيرة القوية، سحقته كالحطب المهترئ»(51)…. «إن أي صمت منه سوف يحيله إلى صاحب دكان تافه»(52).

ثمة شخصيات أخرى تعي قوانين المجتمع نفسها؛ وماملت معها إيجابا في اتجاه مختلف. وتمكنت؛ من خلالها؛ من تغيير واقعها بالتمسك بالأمل والقدرة على المقاومة؛ أهم هذه الشخصيات سعيد المناعى؛ ميّ؛ ظبية، إبراهيم زويد. وأهم ما ميز تلك الشخصيات معرفة قوانين الواقع والقبول بها والتعامل معها بوضعها في قالب اجتماعي يعبر عن حالة الانتماء للمجتمع التي تدين بها تلك الشخصيات.

يمكن ضم سعيد المناعي إلى فئة العبيد، لكنه لم يعان من مأزق الجذور والينابيع؛ فهو كان مدركا لقانون الواقع الاجتماعي الذي يحكم تلك الطبقة والآليات التي بها تتحرر «مرت سنوات وهو عبد، يحاول أن يجمع دانات ليلغي ديونه، ويتوغل في الماء ليصادق الوحوش والسيوف … ويصنع بيتاً وقارباً ومصائد لكي يرتفع عن حشود العبيد»(53). فجمع المال وتحرر، وحين صار صاحب مال ومركب لم يَقْصُر ماله على خلاصه الفردي وترقيه الطبقي، بل استخدم المال لمساعدة المحيطين. وقصته مع (فيّ) تبين مبدأ المساندة الاجتماعية فحين لجأت إليه فيّ لم يتخل عنها، بل مد يده لها وعطف عليها وربى ابنها كما يربي ابنه، وفي المجاعة ساعد الناس ولم يبخل بماله عليهم. تحرر سعيد المناعي كان امتدادا لتحرير الآخرين وانتشالهم من مآزقهم.

وشخصية (ميّ) التي أدركت باكراً أن انجرافها خلف حبها لمحمد العواد لن يترك في حياتها إلا الخراب؛ لذلك لم تقدم على الزواج منه. وأدركت أن صوته يحمل رسائل الحرية والشوق والحنين فجعلت منه صدى لقصائد أخيها واستخدمت العواد رسولا لإعادة أخيها إلى وطنه. وكانت ميّ في الرواية نموذجاً للقدرة على التغيير من الداخل. فهي لم تكن متمردة على أي مظهر من مظاهر حياتها، لكنها تمكنت من استعادة زوجها من التيه الذي انغمس به، وتمكنت من تغيير ابنها وتوريثه الوثائق التاريخية التي كتبتها والتي احتفظت بها.

وكان أهم قانون من قوانين الواقع الذي لجأت إليه ميّ هو العلم، لا بصيغته الفردية التي استخدمها جمعة الحادي، ولكن بصيغتها الاجتماعية الجماعية التي انتقل أثرها إلى الآخرين. وهو كذلك القانون الذي تعاملت معه شخصية ظبية زوجة بدر الوزان التي تعد من أهم الشخصيات المتطورة في الرواية. حيث ظهرت شخصية متحفظة ومحافظة منكسرة حين تم إبعاد زوجها بدر الوزان. ولكنها استجمعت قوتها، فخلعت غطاء الوجه وعكفت على دراسة القانون للدفاع عن زوجها وعن أمواله. وحاولت زرع القوة نفسها في أخت زوجها عائشة لكنها فشلت معها.

كل تلك الشخصيات كانت أدواتها للتحرر والتغيير خلق الأثر الاجتماعي في الآخرين، وانتزاع أدوات التغيير الخاصة بها من سماتها الفردية وإضفاء سمات جماعية عليها.

سادسا: الحوارية في الرواية:

لم يلجأ المؤلف في بنائه لروايته إلى تفسير الأحداث أو إلى التعليقات الكثيرة حول الشخصيات. بل ترك للقارئ حرية تشكيل رأيه وتبني موقفه الخاص من شخصيات الرواية وأحداثها وقيمها. وتلك آلية من آليات نظريات تلقي النصوص التي يرى بعضها بأن «المعنى ينتج بالتحاور والتفاعل بين المتلقي أو المؤول والنص في زمان محدد وحسب أفق شخصي معين وخاص»(54).

وفي الوقت الذي نرى فيه أن الرواية فتحت الباب أمام القارئ للحكم على شخصيات الرواية وأحداثها؛ فإننا لا نرى، في الوقت نفسه، أن رواية الينابيع نص مفتوح على مصراعيه لآفاق التأويل اللامنتهية.

بل هو نص مشروط التلقي بخلفيات القارئ المعرفية عن المؤلف وعن المرحلة الزمنية التي تطرحها الرواية، ومشروط كذلك بثوابت القيم التي يثق الكاتب أن القارئ لن يختلف معه فيها. وإذا كانت العوامل السابقة تتعلق بعوامل ذاتية وموضوعية لدى المتلقى؛ فإنها لا تؤدي إلى تأويل متسق إلا إذا توازت مع الرؤية الأدبية للنص الأدبي نفسه، لأن «الرؤى الأدبية لا تتعلق بالإدراك الفعلي للقارئ الذي يظل على الدوام متحولا ورهين عوامل، هي من خارج العمل، وإنما هي تتعلق بإدراك معروض في صلب هذا العمل، أضف إلى ذلك أنه يأتي في صيغة متميزة»(55). من هذا المنطلق فإن منهج هذه الدراسة يقوم على قراءة النص من حيث هو المصدر الأساس لإنتاج المعنى لكنه لا يهمل الخلفيات المعرفية (الاجتماعية، والإيديولوجية، والتاريخية) التي يستدعيها النص في وعي المتلقي.

وإحدى الصيغ المتميزة التي تأسست عليها الرواية لتنتج معانيها وتشكل رؤيتها الأدبية هي استخدام مستويات الحوار المتعددة. ومنها المونولوج الذي كشفت فيه الشخصيات عن رؤاها لنفسها وللآخر والمجتمع والعالم. ومنها الحوار المتبادل بين بعض الشخصيات والذي كشف عن الجوانب القيمية التي قد لا تدركها بعض الشخصيات عن نفسها، أو التي قد تتهرب منها.

وقد أسست الرواية بنيتها المضمونية على كم وفير من القيم التي تداولتها الشخصيات واتفقت عليها أو اختصمت فيها. فــ«الأفق القيمي هو ما يفترض الوظيفة الأكثر أهمية في تنظيم العمل الأدبي»(56). وهو القادر على خلق حالة من الحوارية والتفاعلية بين المتلقي والنص.

فمستويات الحوار(57). المختلفة التي دارت بين محمد العواد وإبراهيم زويد يوم زفاف فيّ على سعيد المناعي كشف عن مستويات متعددة من الدلالة القيمية. وكان لاستخدام الضمائر دور بارز في إظهار كلا المستويين (الحواري والقيمي). فمستوى الحوار عند إبراهيم زويد كان ثابتاً وقاصراً على ضمير المتكلم والمخاطب، اللذين هما في حقيقة الأمر، مستوى واحد، سواء في تعبيره عن حبه لفيّ وأمنياته في كونها أحبته بدلاً عن محمد العواد وتغاضت عن فقره وبؤسه «لو كانت تحبني أنا.. لو تجاهلت فقري وهيكلي الخاوي»(58)، أو في تعبيره عن استيائه من سلوك صديقه محمد العواد «أتكون الكلمات التي ترددها عن الحب كذباً، بلا معنى؟ هل تحب فعلا؟…»(59). تلك الصيغ تعبر عن معرفة جيدة بالذات، وقدرة على معرفة الآخر. إن إبراهيم زويد من الشخصيات التي تمتعت طوال حضورها السردي في الرواية بوعي ثابت للواقع انعكس على سلوكه الذي جعل شخصيته من الشخصيات غير المتحولة في النص، والتي يمكن وصفها بأنها ثابتة على قيمها برغم كل التحديات التي مرت بها.

أما مستويات الحوار عند محمد العواد، في الحوار نفسه مع إبراهيم زويد، فقد كانت تتذبذب بين استخدام ضمير المخاطب : «ماذا تقول؟»…. «اسكت يا إبراهيم»…. والمستوى الآخر الذي تذبذب فيه مستوى الخطاب هو بروز الراوي معبرا عن محمد العواد في ضمير الغائب: «صمت مرعوبًا… لم يخدع الفتاة هي التي تسللت إليه… كم يدهش من حبه لأخواته الغامض الحزين»(60). ففي هذا الحوار كان محمد العواد يواجه بسمات شخصية يعمل على تغييبها وتبرير ما نتج عنه من سلوك (يكتمه سراً) مثل علاقته بفيّ، بمسؤولية في إقبالها عليه. وهذا ما جعل شخصية محمد العواد شخصية تبريرية تقوم بالفعل ونقيضه وتوجد المسوغات لرغباتها واندفاعاتها.

وهذه إحدى محددات تشكيل مفهوم الحرية في الرواية. فحرية إبراهيم زويد كان يعبر عنها دائماً بالتزامه تجاه الآخرين وإن خذلوه في نهاية المطاف. أما حرية محمد العواد فحرية فردية تمثل رغباته هو حتى وإن كانت نزوات.

خاتمة:

مفهوم الحرية في رواية «الينابيع» ارتبط تحرر شخصيات الرواية من مآزقها (الذاتية). بتحررها من أزمة (الجذور والينابيع)؛ كي تتمكن من صناعة هويتها الحرة. تلك الهوية التي، هي في حقيقتها، هوية جماعية تسير بالمجتمع كتلة متكاملة، وتحقق أهدافه الجمعية.

ولن تتمكن سيرورة الحرية من تحقيق أحلام التغيير المنشود إلا إذا كانت على وعي كافٍ بالقوانين الضابطة لحركة المجتمع. فهم القوانين يؤدي إلى فك شفرتها، ومن ثم تغييرها وصياغة قوانين جديدة لحركة جديدة. في رؤية الرواية التي تنطلق من فلسفة اشتراكية؛ فإن الحرية الفردية لا تشكل تيار التغيير حتى وإن تدفقت من حريات فردية متعددة. تيار التغيير يأتي من التيار الاجتماعي نفسه الذي يعتنق الحرية ويتجه نحوها.

رواية «الينابيع» سمفونية حرية عبرت السنوات البحرينية من العشرينيات إلى مطلع الألفية الأولى من القرن الحادي والعشرين. التنافر الداخلي في الرواية بين شخصياتها جذورهم وامتداداتهم وطموحاتهم، خلق الانسجام الكلي في الرؤية التي هي رؤية الكاتب وهواجسه وآماله التي انتظرها طويلا، ورغم الفراق… يدرك عبـــــــدالله خلــــــــيفة أن مجتمعه سيبلغها؛ استجابة لحركة التاريخ الحتمية.

https://alwatannews.net/article/602908/Opinion/%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%A7-%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة وناقدة من البحرين

المصادر :

1 – القاضي، محمد. الرواية والتاريخ دراسات في التخييل المرجعي، ص ،١٥٠ دار المعرفة للنشر- تونس، ط ٢٠٠٨٠١م.

2 – لوكاتش, جورج, التاريخ والوعي الطبقي, ترجمة حنا الشاعر, ص 5٠ ، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع. لبنان – بيروت، ط٢، ١٩٨٢ م.

3 – مارتن، والاس. نظريات السرد الحديثة، ترجمة حياة جاسم محمد، ص ٧٣، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة. مصر. ١٩٩٨ م.

4 – الرواية والتاريخ ٠ ص ١١٥.

5 – إبراهيم؛ عبدالله، المتخيل السردي مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة، ص ١٠٥، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. المغرب، ط١، ١٩٩٠ م

6 – لوكاتش٠ جورج. دراسات في الواقعية، ترجمة: نايف بلّوز. ص 25، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, لبنان – بيروت، ط٣، ١٩٨٥ م.

7 – قاسم، سيزا. بناء الرواية، ص 158 ، مصر – القاهرة، ط ١، ١٩٨٤م.

8 – دراسات في الواقعية، ص 25.

9 – رالو، إليزابث رافو، مناهج النقد الأدبي، إليزابث، ترجمة: الصادق قسومة، ص٩٣، وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، تونس – تونس، ب ت.

10 – خليفة، عبدالله : الينابيع ص ١٤ ، دار الانتشار العربي، لبنان- بيروت٠ ط٢،٢٠٠١م.

11 – الينابيع، ص 1٤≣ 12 – الينابيع، ص 1٤≣ 13 — الينابيع، ص 51.

14 – فيشر، ارنست. ضرورة الفن، ص ٠ ٢, ترجمة أسعد حاتم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٨م.

15 – الينابيع، ص 56.

16 – بن حربان، جاسم محمد. التعبير وآلياته في موروثاتنا الشعبية، ص ٤٠. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط ١، عام ٢٠١٠م.

17 – باختين، ميخائيل، تزفيتان تودوروف. المبدأ الحواري. ص 95، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. لبنان – بيروت، ط٢، ١٩٩٦ م. 

18- الينابيع ص 39≣19- الينابيع ص٣٥ ≣20 – الينابيع، ص50 ≣21 – الينابيع ص ٩٦≣22  – الينابيع ص 156 ≣23 – الينابيع ص 73 ≣24 – الينابيع ص ٤١ .

25 – دراسات في الواقعية، ص ٣٣

26- الينابيع ص ٦٦≣27- الينابيع ص ٥٣ ≣28- الينابيع ص ٣٩ ≣29 – الينابيع ص ١٠٧ ≣30 – الينابيع ص ١١٠ ≣31- الينابيع ص ٥٣ ≣32 – الينابيع ص 352 ≣33 – الينابيع ص 247 .

34 – التاريخ والوعى الطبقى ، ص 49.

35 – الينابيع، ص ٤3≣36 – الينابيع، ص 44  ≣37 – الينابيع، ص ١٦٧ ≣38 – الينابيع، ص ١٦٩ ≣39 – الينابيع، ص ٢٠٢ ≣40 – الينابيع، ص 50 ≣41 – الينابيع، ص 99  ≣42 – الينابيع، ص 260 ≣43 – الينابيع، ص ٢٨٦ ≣44 – الينابيع، ص ٢٨٥ ≣45 – الينابيع، ص ٢٨٥ ≣46 – الينابيع، ص ٣٧٣ .

47 – التاريخ والوعى الطبقى ، ص 52.

48 – التاريخ والوعى الطبقى ، ص 52.

49 – ماركوز،هربرت، البعد الجمالي نحو نقد النظرية الجمالية الماركسية، ص60، ترجمة: جورج طرابيشى، دار الطليعة للطباعة والنشر، لبنان – بيروت، ط ١، ١٩٧٩م.

50 – العالم، محمود أمين، الثقافة والثورة. ص ٣٥. ط ١، ١٩٧٠م.

51 – الينابيع، ص ٣٨ ≣52 – الينابيع. ص ٣٩ ≣53 – الينابيع، ص ٧٧ .

54 – كولوقي، غنيمة، نظرية التلقي خلفياتها الإبستمولوجية وعلاقتها بنظريات الاتصال، ص ٤١، دار التنوير، الجزائر، ط١، ٢٠١٣م.

55 – تزفتان، تودوروف، الشعرية، ص ٥١، الدار البيضاء – المغرب، ط٢، ١٩٩٠م.

56 – المبدأ الحواري، ص ٩٦.

57 – المقصود بمستويات الحوار، اختلاف الضمائر والمخاطبين، ونوع الخطاب الذي ينم عن فحواه الحوار.

58 – الينابيع، ص 72 ≣59 – الينابيع، ص 73 ≣60 – الينابيع، ص 73 .

مفهوم الحرية في رواية الينابيع للكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة

 

فكرة واحدة بشأن “مفهوم الحرية في رواية الينابيع للكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة

  1. تعقيب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الينابيع والطابع الملحمي | عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كاتب وروائي

أضف تعليق