عبدالله خليفة .. حياته

المــلـعــــــــــــــــــــون

الاهداء
الى
أمي
عائشة بنت ناصر الجنيد العجمي

۞ 1 ۞

حشدٌ بشري مضبب ، الذي يراه والمترجرجُ في ذاكرته ، هو جسمان لأمراتين جميلتين ، والباقي من الحشد هو أصواتٌ وظلال ، وتتقلبُ أمام ناظريه أكواخُ سعفٍ ، ومستنقعات ، والصبي الذي يُقادُ في هذا المهرجان متوترٌ بهذا الاهتمام به ، وبهذا الموقع بين المرأتين ، والسير نحو منطقة الأكواخ المخيفة يبعثُ على شعور بالرهبة والخوف . .

كان يهمس :
يا أمي لا أريد أن أذهب !
خذ هذه الروبية !
كانت قطعة النقد هذه ثمينة . تضعها في يده عساها أن تجثم فوق مشاعره المتوترة وتغرقها .
المرأة الأخرى مضيئة ، فاتنة ، جاءت من بيت ثري ، فراحت تبعثُ في نفسه الطمأنينة .
الموكب يتوغل في تجمع بيوت السعف الرثة ، حيث أجسادٌ سوداء ، ورجالٌ عزابٌ يسكنون الأكواخ .
الطفلُ الذي كنتـُهُ يدخل الكوخ المعتم ، حيث رجلٌ يلبس ثوباً ويضع غترة ، هذا الرجل الغامق السمرة ، المتصل بالغيب والسحر ، يرعشُ جسدي حتى الآن ، هذا الرجل الذي رأيته مراراً ممسكاً بالأسياخ . . ستكون من وظائفه أن ينقلني من موتٍ إلى آخر .
ثمة ضباب وشخوص ذائبة في خيوطِ النورِ والظلمة ، وملاكٌ مرعب لا ينزل بكبشٍ من السماء ، بل يمسك سيخاً محمياً :
تقول أمي :
حتى يعيش أخوتك لا بد أن تــُكوى !
يدرك الطفلُ مهمته الصعبة الغامضة ، فثمة لعنة تصاحب وجوده منذ ظهر ، فهو قد طلع من بطنِ أمه التعبة المريضة متيبساً ، وتجمد مدة وسارعت نحوه أيدٍ ، وبعد حين لا يعرفه خـُيل لهم إنه رحل ، انتعشَّ وتحرك وصاح .
قالت الممرضات (لابد أن تسموه يحيى فهو يموت ويحيى) .
ثم كبر الطفل وتبعته سيرُ الموتِ ، أخوه الذي قبله والذي لم يره ، كان يلاحقه ، صار مسئولاً عن غيابه ، فلولا اللعنة لعاش ، إذن لا بد أن ينحني ويتقدم لهذه المهمة المخيفة ، حتى يعيش أخوته . وجاءه السيخ بألم لم يبق في ذاكرته .

۞ 2 ۞

لم يبق في ذاكرته سوى هذا العريش الذي يطلُ على شارع .عيناه تحدقان من بين الجريد .
ويجثم في زاوية يلاعب حمامة ، ريشها يتناثر من بين أصابعه . ملمسها رقيق . بيوت الحمام سترافقه دون أن يأبه بها .

سيرة الأقلام


كان بيتنا جزءً من طابور طويل من المنازل الصغيرة البسيطة المصطفة، على شكل قوس يقابلهُ قوسٌ آخر من البيوت.
الأبُ تدهورتْ مكانتهُ الاقتصادية وتنقل في مهن عديدة، لم يلائمهُ البحرُ، فعاش على البستنة، لكن لم تكن لها آثارٌ عميمة في حياتنا، وحياة المنزل، سوى شجرة طماطم كانت هي المظهر الوحيد من هذا الفلاح العامل، ومنديل يملأهُ ببذور، ومرة واحدة صحبني لمدينة عوالي، مدينة النفط، المرتفعة قليلاً فوق مسطح ترابي، ورأيته وهو يزرع ويسقي الزروع.
وكانت مكانته تتدهور حتى في هذه الشركة النفطية، التي استخدمته وإستخدمت غيره لتزيين منازل الموظفين الأوربيين، بالشجر والأزهار، فترك عوالي وجثم في بستانها في منطقة القضيبية وكنتُ أراه وهو يجمع السعف والجريد لإنشاء سور من هذه المواد خوفاً على بيت مدير الشركة من العيون.
الصبي الوحيد في البيت في ذلك الوقت من الخمسينيات وانحدارها نحو أوائل الستينيات، وقد ألزمني أبي بقوة كي ألزم المدرسة في نفس المنطقة، وأنا شبه غائب عن دروسها وعالمها المضبب الغريب، الذي لا أذكر منه سوى تلاميذ في حالات عجيبة قريبة من الهبل، ومدرسين قساة، حتى تحجرت في المقاعد الدراسية، وبدأت أتفوق بصورة غريبة، فقد استثارني مدرس تاريخ، كان يعلم بطريقة لطيفة واهتم بي، فعرفتُ إنني أنتمي لأمة وشعب.
الأقلام . . أتذكر الأقلام كانت ضرباتٌ على الأرض . لم أجد وسيلة لاحتجاج سوى ضرب تلك الأقلام بالبلاط، وتكسيرها ورش الحبر على الأرض، من أجل قطعة نقد لشراء مجلة!
يطالعني وجه (حاجيه) من وراء فرنه ويأخذ البيض المسروق من البيت ويعطيني قطعة النقد.
عاش هذا الرجل مع صاحبه حسن في إدارة هذا المخبز (الأفرنجي) المتواضع في الحي، وكان يعرف القراءة والكتاب، وكان شريكه لا يعرفهما، فسيطر على المخبز وأفتقر الآخر وانهار المخبز بعد ذلك.
كنت أراه وهو يشتغل على الحسابات كل يوم، لم أعرف إلا بعد سنوات طويلة مسألة التزوير!
خلال سنوات لم تستثرني الأقلام، بل الورق، كان الجري وراء الورق المقرؤ ذي الكتابة والألوان والسحر يعصف بي. التهام السير ومجلات الأطفال وقصص الجرائم. أتذكر كيف كنت في بيت أختي بالخبر(السعودية) اتوارى عن الغداء. يبحثون عني ليجدوني داخل غرفة لا أعرف الآن كم كان الضوء فيها!
في بيت ابن عمي بالسعودية أجد إهرامات من الصحف ومجلات آخر ساعة، والحبر المصري الغاسل لليد، والمفجر للصراخ القومي، وشهيتي له محدودة قياساً للكتب وللقصص والإثارة فيها.
اتذكر إن أول ظهور للقلم بعد أن تصالحت معه وأحببته، وكان مرادفاً للعزلة، حيث ابتعدت عن شاطئ البحر، والعيون، ومعارك الفتيان في الحي. كانت هذه الرياضات والضربات في جو من الإثارة الصبيانية والمحدودية المليئة بالتفاهة. لم يكن أحدٌ يوجهني . لكنني لم أجدْ فيها راحة. العزلة مع الورق غدت محبوبة. المدرسة بجدارنها العالية، بانضباطها المروع، أشبه بسجن يفرُ منه الجسم نحو حديقة الورق. لكن المدرسة اعطتني مفاتيح المعرفة، قراءة الحروف والكلمات العربية. هذه الطلاسم السحرية والاكتشافات العلمية فاتحة الدروب ومشكلة العوالم والخلق ومفجرة التجارب الكيميائية التحولية.
معها صرتُ أجلس طويلاً على خزانة خشبية في الليوان واصارع الفرسان والجن وأخطف الأميرات وأذهب للأفلام الهندية في سينما أوال ونخرج قبيل الغروب ونحن نتحارب بجريد مسنون، ونلبسُ الأقنعة وندخلُ الدروب على خيول وهمية!
كانت أجنحة الفنون ترفرفُ بنا، وإذ قـُصت أجنحة صحبي، وانحشروا في معامل، وحملوا أدوات جثمت بهم على الأرض، فأنا رحت أحلق، أطير في أجواء غريبة ، اعانق كل يوم هذه الكائنات المجنحة، لكن لم أذب فيها. كانت قصص الأب عن الغوص والبحر عالماً آخر من الغرابة. هنا كانت الأرض بتضاريسها الغامضة تطلعُ؛ خليفة علي البوفلاسة جدي القادم من دبي بسفينته وبيته وصيده وبموته المفاجئ أثر سقوط صارٍ عليه ، ووحدة أبي وأخته في بيتهما المشترك الصعب وهما وحيدان غريبان، وانطلاقه الصعب في الأعمال والحياة بأميته وبساطته ، كانت قصصاً تكرس الخيال في حياة الإنسان.
تكسرت أقلام الحبر بيدي ! تكسرت وأختي المفجوعة بي . ودموع أمي . لا تزال ملحها يرشرش على جسمي . صرت أقدس تلك الزجاجات الصغيرة القناديل ، ويغدو حبرها المتناثر مثل دمي .

التنظيــــم السياسي

أنا من مواليد سنة 1948 ، وكان مسقط رأسي في منطقة القضيبية لأسرة بسيطة، حيث كان والدي عاملاً في بابكو، وتعيش العائلة في الحي المعروف بفريق العمال .
عانت العائلة من وفيات الأطفال المتكررة، وترعرعتُ أنا وسط هذا الخوف من الموت والأمراض .
تعلمتُ في مدرسة القضيبية الابتدائية للبنين، بشكل سيئ في البداية بسبب عدم وجود توجيه عائلي، فالأب والأم أميان، وكنتُ أهرب من المدرسة في البداية، ثم بسبب إصرار والدي انتظمت ثم رحتُ أتفوق واتوجه لقراءة الكتب بسبب وجود أصدقاء في المدرسة .
وكانت أصداء الحركة الوطنية تصل إلى الحي والمدرسة بطبيعة الحال، حيث الصراع ضد الاستعمار على أشده في منتصف الخمسينيات. ثم في وسط الستينيات، كنا في مدرسة الحورة وقدنا في انتفاضة مارس 1965 جماعة شقت طريقها إلى مدرسة المنامة الثانوية للبنين وفتحنا الباب وتدفقت المجموعات الطلابية كالنهر الصاخب، وفي أثرنا اندفعت الخيولُ التي راحت تفرق ذلك النهر الواسع، والذي كان يعيد تنظيم صفوفه مرة أخرى ليتحول على مظاهرات هادرة .
في السنة التالية أي سنة 1966 توجهتُ إلى مدرسة المنامة الثانوية للبنين حيث تعرفتُ على مجموعة منتمية لجبهة التحرير الوطني، وكنا نناقش على مدى شهور المسائل الأولية للفكر الحديث، بسذاجة طبعاً في تلك الظروف وفي تلك المستويات . فرحتُ ألتهم الكتب، وقد عُرض عليّ الانضمام للجبهة في تلك السنة، فانخرطتُ فيها وفي خلايا تنتمي لمنطقة القضيبية – الحورة – رأس الرمان – الفاضل – العوضية .
من سنة 1966 وحتى سنة 1968 ، حيث وقعت اكبر ضربة أمنية لخلايا الجبهة، صعدتُ إلى اللجنة القيادية للجبهة وكنتُ طالباً في الثانوية ثم في معهد المعلمين الذي كان يُسمى عالياً ! فكان علينا أن لا ندرس في الخارج ولا نسافر ونكرس أنفسنا للخلايا والكتابة والمنشورات ودعوة الناس الخ …
ومن جهتي كان لدي نشاطي الفكري والأدبي، حيث لم أكتف بكتب الأدبيات السياسية التي وجدتها مبسطة ولا تفي بالحاجة الفكرية العميقة، وكنتُ أكتب قصصاً في الصحافة بأسماء مستعارة أجرب فيها عملية الكتابة القصصية ومدى تقبل الناس لها ! حتى فزت مرة بجائزة أسرة الأدباء للقصة القصيرة فكرست نفسي باسمي الحالي .
إضافة إلى ذلك كنتُ أكتب مقالات ودراسات سياسية واجتماعية، عن تاريخ البحرين أو عن تطور القصة القصيرة فيها، وكان هذا عنوان بحث قدمته في مؤتمر الأدباء العرب في الجزائر في بداية سنة 1975، وهي سنة حل البرلمان الوطني فكانت أول وآخر سفرة في عقد السبعينيات ! وفي مؤتمر الجزائر رأيتُ شخصيات مثل الرئيس هواري بومدين وتعرفت على الشاعر محمد مهدي الجواهري والباحث حسين مروة !
ورغم الضربات المستمرة للجبهة حققنا تطوراً لها عبر تحولها إلى منظمة متسعة وذات منظمات ( جماهيرية ) كاتحاد الطلبة والشبيبة وكذلك تطور التثقيف وتحليل الواقع .
في تلك السنة كانت تجري عملية تصعيد مفتعلة للصراعات السياسية والاجتماعية كمبرر لحل البرلمان، وكنتُ ضحية لإحدى تلك الألاعيب، فقد نشر أحد الصحفيين تحقيقاً حول التعليم تطرقنا فيه إلى المشكلات العميقة داخله، وكانت الإدارة تتصيد عبارات لتفجرها، فأخذوا كلمة ( التعليم تعليم استعماري ) ليجعلوها قضيةً كبرى لا بد فيها من الاعتذار من أجل تفجير الاضطراب في الشارع تمهيداً لحل البرلمان، فلم نعتذر وفصلنا وطردنا من التعليم بعد المعهد وسنوات الدراسة فيه وسنوات التدريس !
في قيادة الجبهة كنا نرفض عمليات التصعيد وانفجارات النضال العفوي المزعومة غالباً، وكان البعض يعتقد أن التصعيد منا، حيث كانت الجبهة أكثر التنظيمات تأثيراً في الشارع، بسبب واقعية خطها السياسي وقتذاك ومرونتها تجاه كافة أشكال النضال .
ثم حدث حل البرلمان واعتقلنا فحدثت المآسي الشخصية التي تعرفها . . كان السجن مطولاً هذه المرة خلافاً للمرات السابقة الخاطفة السريعة . فكان خبرة وإنتاجاً أدبياً وفكرياً . وحين خرجت كان لدي مجموعة من الكتب وأفكار بشأن دراسة التراث، حيث واتتنا الفرصة في السنة الأخيرة لقراءة مجلدات المفصل في تاريخ العرب لجواد علي والنزعات المادية لحسين مروة وغيرها من المراجع.
ابتعدت بعد السجن عن العمل السياسي التنظيمي لكنني كنتُ أدرس التجربة الفكرية والسياسية من أجل مراجعتها وتطويرها .
كانت مشكلات التنظيمات السياسية من الداخل حيث تتسلل عناصر مشبوهة وانتهازية، وهي التي تقوم بهدم منظم للعمل السياسي النضالي عبر خطط مدروسة.
ولهذا فإن التنظيمات بحاجة إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي كي تتفتح وتغدو منتجة وهذا مستحيل في ظل تركز في السلطة .

تجربتي في القصة القصيرة*

۞ 1 ۞

كيف تكونت القصة القصيرة لدي؟ لماذا لم تنفصل عن صرخاتي السياسية والاجتماعية؟ لماذا وجدت نفسي كاتباً للقصة القصيرة وللاحتجاج الوطني والاجتماعي معاً؟ لماذا غدت شخوصي مستقاة من المشاهدات والحكايات المروية والمواقف الحقيقية والرموز العربية ومن التجربة الحياتية بكل عفويتها في البدء؟
لا أعرف لماذا وأنا طفل توجهت لقراءة سيرة عنترة بن شداد، فلماذا هذه الشخصية هي التي ظللت طفولتي، فرحت أقرأها واشاهدها على شاشة السينما القريبة من حينا؟
هل مخاض التحدي المحيط، والحي الفقير المهموم بالحرائق والاستغلال، هو الذي يخلق جواً من البحث عن البطولة، واستبصار طرق الكفاح؟
هل يلعب مخاض الشعب البسيط المستعبد الباحث عن حريته من الأسياد الخارجيين والداخليين، دوره في خلق مناخ جاذب للفتيان، ومحرضاً لهم على الالتحاق به، والإضافة فيه؟
هل يغدو واقع الأمة المفتتة التابعة، والتي تستعيد نهوضها وتفكك شبكة تبعيتها وإرثها، روحاً هائمة قوية فوق نفوس شبابها؟
لا شك أن مناخ الخمسينيات الذي تشكلت طفولتنا فيه، والممتلئ بضجيج الإذاعات، وخبز المنشورات الساخن، والمعبأ بالمظاهرات، كان له دوره في الذهاب إلى رموز البطولة القصصية، سواءً كانت عنترة أم السندباد أم أولئك الأطفال اليتامى الذين يتلقون المساعدات من القوى السحرية.
لقد كان نمونا الدراسي والثقافي هو صراع ضد تركات المجتمع التقليدي، في عقد تخلص النخب الثقافية ـ السياسية من الأفكار العتيقة في الثقافة والسياسة، عقد تجاوز الأقصوصة الميلودرامية والإنشائية، والتلاحم مع مستويات الواقع، والتاريخ، عقد تجاوز أفق [الطبقة المتوسطة ] على مستوى الممارسات الفكرية والإبداعية.
لا شك أن صعود ثقافة الشعب البسيط كان محصلة لتغير عالمي غامر، كان يدفق أدبياته ورموزه وخلاياه في الأحياء المأزومة.
من هنا كانت أقصوصة رصد الواقع الفاقع، والتقاط ما هو طافح وبارز، وكشف مثالب [ الأشرار ] هي تعبير عن هذا المناخ الشعاري، أما البُنى الفنية السائدة فهي تعتمد على: التصوير الفوتغرافي لنماذج بائسة، أو خلق بنية أولية لكشف التضادات الاجتماعية الحادة، واعتماد على اللمحات الخاطفة وعلى الرموز الأكثر حضوراً وديناميكية في الوعي العام كالنماذج الأسطورية والدينية..
هنا تقترب الأقصوصة من وعي الخلية الشعبية، وتغدو على تماس فعال وساخن مع قارئ المرحلة المشحون، وتكون جزءً من المادة التحريضية، وذات صلة بالمقالة، رغم إنها بدأت تشكل بنيتها الأولية المستقلة عن ظاهرات الفن والوعي الأخرى.
هكذا كانت ممارستي القصصية تأخذ من هذه الوشائج عبر سنوات 66 ـ 75، التي صنعت المجموعة القصصية الأولى [ لحن الشتاء].
تلعب البُنى المشهدية دوراً أساسياً في تشكيل الموقف القصصي في كل المجموعة، فالحدث يبدأ من أول كلمة، وتنبثق معه الشخوص الأجواء، التي ترتبط به ارتباطاً مباشراً عنيفاً.
في قصة [ الغرباء ]، أول قصة في المجموعة، نقرأ:
[ صحوتُ من نومي على أثر رفسات في بطني. شاهدتُ ثلاثة أشخاص في المنزل. رجلان وامرأة. الرجل الكبير السن ضخم، متين البنية.راح يتكلم لغة أجهلها تماماً. اعتقدت في بادئ الأمر انه مجرد حلم. فما اكثر الأحلام التي أرى.
جرني الرجلان من السرير ! ] ، ص 5.
في الصراع بين الراوي والغرباء نكتشف بوضوح الدلالة، فهي تجثم مع الحدث والشخصيات، مما يعطيها بعداً واحداً.
في البنية الفنية المشدودة بقوة وانعكاس إلى الواقع، هناك أيضاً الومضات الحكائية والرموز التراثية، غير المبتعدة عن فخ الصراع السياسي.

۞ 2 ۞

في الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1975، مع حل البرلمان في البحرين، حدث لي ما حدث لبطل قصة [ الغرباء ] من اقتلاع وخطف وحرق كتب..
في فترة الاعتقال هذه لا تسمع عن الناس من خلال الكتب، بل تقرأهم من خلال جلودهم المباشرة، وعبر الأنصال المحفورة في أجسادهم، والأخاديد التي تتكون في أرواحهم، وتغدو مسألة البطولة معرضة لامتحان عسير.
لكن القراءة القصصية للبطولة تتم هنا في أجواء محمومة، وجماعية، ومضطربة، بحيث لا تستطيع الكتابة أن تنضج، وأظل على مدى سنة من التجريب العشوائي حائراً، وتبدو أدوات الكتابة من قراطيس السجائر وأوراق علب الصابون المجففة، مثل المادة نفسها عرضة للحرق والإخفاء والإلغاء، والقليل الباقي سوف يستقر في قلب معاجين الحلاقة!
يمثل السجن مطرقة كبيرة لأدب الهتاف، فهو يعتمد على نشيد بطولي لم يمتحن. أما هنا فالمناضلون الذين يتحدون بمهربي المخدرات وبالمخبرين واللصوص، ويتعاونون معهم ضد رفاقهم، والمناضلون الذين هم مشغولون بفكرة السيطرة، أو الخوف، أو الانهيار، وأيضاً تلك القلة التي تجمع في أرواحها المعرفة والجراح والصمود؛ إن كل هؤلاء يدفعون الكتابة إلى ضوء جديد.
فأما أن ينهار حلمه، مع تلقيه أخبار انهيار أسرته ولقراءته لكشوف الاعترافات وتقارير المحاكم الاستثنائية، أو أن يبحث عن أسس مختلفة قوية للفكرة.
وبطبيعة الحال، كان هذا يحتاج إلى سنوات من تجميع مواد الظلمة والضوء.
وفي السجن لا تستطيع أن تقرأ شيئاً من الأدب الجديد أو القديم، ولهذا مرت عليّ سنة كاملة في جزيرة السجن المسماة [ جدة] دون إنتاج هام سوى قصة قصيرة واحدة هي [ المغني والأميرة ] أثارت الانتباه حين نشرها في الخارج، وأثارت إدارة السجن ضدي فحصلت على وجبة ساخنة في زنزانة انفرادية.
هذه القصة سقطت في أعماقي، وكان النحت اللغوي ـ التصويري فيها يرتكز على استغلال ثيمة حكاية تراثية، وشحن التعبير الغنائي بشعرية صادحة.
والآن يبدو لي، بعد استرجاع التجربة، إن ثيمة التراث التي تدفقت في قصص أخرى عديدة، كانت إحدى الروافع لابعاد القصة القصيرة عن البعد الواحد، والدلالات القريبة.
لكن تدفق القصص الجديدة لم يتم في جزيرة السجن الساحرة ذات المناخ الرومانسي، حيث الصخور العملاقة والبساتين وامتداد الفضاء اللامحدود، وهدايا البحر الوفيرة، بل حدث في السجن العسكري التدريبي [ سافرة ]، حيث الزنازين غرف قديمة مهترئة، أو صناديق خشبية ضيقة لا تتسع حتى لشخصين عاشقين! وحيث التدريبات العسكرية الصباحية لفرقة الشغب هي نباح مرعب، والموسيقى هي أزيز الرصاص الذي يستهدف التلال!
هنا كان الإنتاج الأغنى والأكثر شاعرية. فهل كان ذلك بسبب وجبة الدجاج اليومية الأبدية المحروقة، أم بسبب الغرف المغلقة رهيبة الحرارة والتي لم تفتح إلا بالمعارك وبأحداث الشغب في معسكر مكافحة الشغب، أم عبر تراكم التجربة خلال هذه السنين، وبإغناء البنية الداخلية بوسائل فنية عديدة؟
ألاحظ الآن وأنا أروي التجربة إن الطابع الروائي أخذ يشق طريقه عبر القصص القصيرة . في هذه السنوات راحت القصص ذات الفقرات المتعددة والمرقمة، ولم أضع عناوين جانبية، تزيح القصص القصيرة جداً والمكثفة، تاركة المساحة لنمو الشخوص والأحداث المتعددة والمتشابكة، فمثلاً قصة [ علي بابا واللصوص ] والتي ظهرت في مجموعة [ الرمل والياسمين ] التي صدرت فيما بعد عن طريق اتحاد الكتاب العرب سنة 1982 بدمشق، تحتوي على سبع فقرات كبيرة مرقمة، هي أشبه بفصول مكثفة، أو مثل قصة [ شجرة الياسمين ] التي تتكون من تسع فقرات كبيرة، كذلك قصة [ المصباح ] و[ الصورة ].
ألاحظ الآن على هذه القصص القصيرة المطولة اعتماد البنية المشهدية المتنامية عبر المقاطع المتعددة، في شبكة من الأحداث والشخوص، مما يشير إلى بنية روائية مختزلة، أو مُضمرة.
لم يكن ثمة رغبة في كتابة رواية، ولكن العديد من تلك القصص كانت تقود نحو بناء روائي، بسبب تعدد الشخوص ومحاور القصة ومستوياتها. فـ علي بابا، في تلك القصة السابقة، هو حارس لقصر الملك، وهو دائم الأحلام، وتأتي الأحلام على هيئة حكايات متعددة تكشف قصة المغارة التي تتجمع فيها ثروة المدينة، وكذلك قصة حي الأزهار الفقير الذي يعيش فيه علي بابا، والأطفال الذين يسخرون منه، ولكنه وهو الحارس للقصر، يجد أن حريقاً أندلع ودمر حي الأزهار..
تتوجه هذه القصص إلى كشف عوالم الشخوص والبنى المحيطة بهم، وكلما اتسعت عملية التحليل، بدأ تاريخهم الماضي يفرض حضوره، والماضي بمستويين هما:
العربي القومي برموزه، والمناطقي الجزيري بتاريخه وعلاقاته القريبة المؤثرة بصورة مباشرة.
لهذا غدت القصة القصيرة لدي مقدمة للتجربة الروائية، أو هي استراحة فنية وتمارين بين روايتين، ومن هنا قادتني تلك القصص القصيرة المطولة إلى روايتي الأولى المعنونة باسم [ اللآلئ ].
رواية [ اللآلئ] هي تتويج لهذا المشوار القصصي القصير، ذي البنية المشهدية المتعددة الصراعية، الواقعة بين الحاضر والماضي والمستقبل، والمُحاطة بتضاريس المكان والزمان.

۞ 3 ۞

ما هي العلاقات بين القصة القصيرة والرواية لدي؟
تظهر الرواية بقوة، عبر تجربتي، وتخفت القصة القصيرة، وتغدو محطات بحث فني واستثمار مختزل لمنجزات الرواية؟
رغم الوشائج بين الفرعين في النوع الأدبي الواحد، بين هاتين الجارتين في عمارة القصة، إلا أن التباينات هامة بينهما، فرغم الاشتراك في علامات الحدث والشخصية والزمان والمكان، إلا أن الافتراق كان كبيراً وخفياً، ليس عبر كم الورق، ولكن عبر قوانين البناء.
يبدو لي أن القصة القصيرة ذات علاقة باللوحة أو باللقطة، أو هي البنية المركزة التي قد تستدعي خيوطاً لا مرئية قوية مرتبطة برؤية الكاتب. إنها ذات علاقة بالتصوير، والنظرات الجزئية، ولكن الرواية ذات علاقة بالتاريخ والفلسفة، حيث هي تحويل لتلك البُنى المكثفة المتصاعدة إلى قراءة عميقة للواقع.
وإذا كان ذلك يبدو مستحيلاً بدون دراية بسمات النوع الفني والسيطرة عليه، فإنه يبدو كذلك مستحيلاً بدون دراية بالتاريخ والفلسفة، فهما اللذان يضعان الرواية على أسس صلبة.
لكن القصة القصيرة تأخذ شيئاً قليلاً من هذين العملين، أو قد لا تأخذ على الإطلاق، ولكن القصة القصيرة التي كتبتها تمردت على ذلك، راغبة في الإنشداد نحوهما، واكتشاف الأشياء.
من هنا لم ترتبط القصة القصيرة لدي باللقطة المركزة المفصولة، وبتصوير النماذج البائسة من الفقراء، بل غدت هي قراءة للفعاليات الإنسانية في حضورها المتنوع. فأنا لا أصور رجلاً شحاذاً، وأجسد بؤسه الراهن، بل أبحث عن رموز الفعل، أي كيف لم يتحول الرجل إلى شحاذ.
الآن وأنا أقرأ ذلك وأستعيده وأفكر فيه، لم أكن أخطط لهذه المواصفات مُسبقاً، وأجد أن عشرات الشخوص في [ لحن الشتاء] و[ الرمل والياسمين]، وقبلهما وبعدهما، تتلمس بذور المقاومة في الأرض والروح، في السقوط والنهوض، خارج السحر وداخله، في الفقر والغنى..الخ.
الفتاة في أقصوصة [ الفتاة والأمير ] تستغل السمكة السحرية للصعود من مستنقع الفقر.
علي بابا الحارس للقصر الملكي السعيد يحلم بالثورة.
الرسام في [ شجرة الياسمين] التي تموت أخته عبر مرض خطير، يستعيدها باللوحة.
في قصة [ العوسج] من الرمل والياسمين، يحتضر المخبر [ الثوري] ويتذكر تدميره للجماعة عبر استعادة لمرثية مالك بن الريب في احتضاره.
وهذه الحالات المقاومة وسط تضاريس الدم والدموع والفرح، تنمو وتتجسد عبر شخوصها وحالاتها ورموزها، محولةً المقاومة إلى فعل موارب، ذائب عبر مادة الأشياء والحالات.
ومن هنا فإن هذه الفكرة تبحث عن حالاتها ومثيلاتها ودرجات نموها في الماضي، مما يؤدي لاتساعها وتشابكها مع تضاريس المراحل التاريخية المختلفة.
ولهذا أجد أن [ الرمل والياسمين ] التي كُتبت عبر سنوات السجن كلها [75 ـ 80] لم تكن تحمل هذه السمة فحسب، بل أن هذه السمة كانت تتجول عبر التاريخ، في مادة الخرافة، وفي عصر الخلافة، والمماليك الخ..
قل بأن السجين، كان مثل الأمة المعتقلة، وقواها الحية، يبحث عن حريته وصناعها في الماضي والحاضر.
في قصة [ لعبة الرمل] يطلب الوالي من السجين أن يجتاز الصحراء في الليل، وإذا استطاع أن يقبض على غصن أخضر قبل طلوع الشمس، فستكون له حريته، والا سوف يُقتل!
إن روح المقاومة التي يبحث عنها القاصُ في المواد الخارجية يشكلها في روحه أولاً، ويتشابك معها، وينمو بها، وقد يهزمها فيصير قصه نثراً بارداً، وحالات من الصنعة المتقنة، فيغدو الغيم حيادياً، والمطر حالة موسمية، والأزقة فلكلوراً، والمراحل التاريخية الماضية فردوساً..

۞ 4 ۞

قبل أن تخرج من السجن يطلب منك الضابط أن تتحول إلى مخبر، قائلاً إن ذلك لا يعني الانقطاع عن [ الانتماء] والكتابة!
في هذا الفهم البوليسي ليس ثمة تضاد بين أن تشكل قصة وأن تكون مخبراً، وتغدو ثمار المعاناة والاكتشاف والصلابة مُشتراة بكمية من النقود والقهر، ولكن في حالة الرفض للطلب البوليسي فإنك مطالب بمواصلة جمع الثمار الحارقة من شجرة الحياة مُجدداً، فلن تكون الوظائف النادرة مفتوحة لك، وستحارب في عملك وسكنك.
كانت ثمرة الخروج في سنوات الثمانينيات الأولى كتاباً قصصياً ثالثاً، هو [ يوم قائظ] نُشر بدار الفارابي سنة 1985.
تبدو الأعمال في هذا الكتاب مضطربة نوعاً ما، قلقة، غاب عنها ذلك الزخم الشعري الواسع الذي تكاثر في المجموعة القصصية الثانية، وقلت تعددية الشخوص والأحداث، التي لجأت إلى الرواية، وغدت المشاهد أقصر وأكثف، ويجسد ذلك تنامي النوعين وافتراقهما، وتبدل ظروف الحياة والكتابة، فأجواء السجن أدعى للتأمل وإعادة الصياغة، في حين تقود ظروف الحرية والعمل والاشتغال في الصحافة إلى الاختزال والتعبير السريع.
لكن الأبطال الإيجابيين لم يختفوا من هذه المجموعة التي دخلت قيظاً وطنياً لاهباً، تمكنت فيه الجماعة المسيطرة من خلق عدة أوطان في الوطن الواحد، فوطن الأرستقراطية المميز قصور وفلل وتملك خرافي للنفط والأراضي والعمل المأجور الأجنبي، واستباحة للقوانين والدستور والعقل، وهناك وطن للناس العاملين المنقسمين طائفياً، والمشتتين، والواقعين في أسفل الهرم، والمذابين بشتى المهاجرين من شتى الأمم، وهناك وطن البورجوازية الكبيرة المتنعمة السائرة في ذيل الدولة.
مثل هذا التكوين الاجتماعي المغاير لزمن ما قبل السجن، كان انتصاراً لتغييب الإرادة الوطنية، وهو بنية افتراسية للأدب الحر.
وتقوم القصة القصيرة بالتقاط هذا الواقع المختلف، المضطرب بتجريب وبحث، وبالدخول في تفاصيله الجديدة، لأن اكتشاف البنية الاجتماعية قصصياً مسألة إبداعية.
إن الشخصيات الإيجابية ممزقة، مشتتة، وإيجابياتهم الفردية تضيع وسط سلبية عامة، وسلبياتهم الخاصة تنمو وسط خراب روحي متصاعد.
إن الشخصية المحورية في قصة [ الدرب ] من هذه المجموعة، عاملٌ هندي يموت أثناء إنشاء طريق في الصحراء، وهناك الرجل الذي يروي القصة، وهو زميل للعامل الهندي جوزيف، وهو يعمل معه في إنشاء الطريق الصحراوي بالإسفلت المشتعل، وهو رجل معذب آخر، والقصة لا تكتفي بمشهدية بناء الطريق، وهي المشهدية البؤرية الأساسية، التي تتخللها ذكريات واسترجاعات صغيرة وامضة لجوزيف وهو يعمل ليلاً أيضاً في البار، وهو يضرب، وللراوي أيضاً وهو يُخرس من قبل زوجته لئلا يحتج، والطابور يتحرك ويتغلغل في الصحراء..
[ نظرنا إلى بعضنا البعض، رجالٌ سود وصفر وبيض، أنبتتنا جبالٌ وانهار ومدن وصحارى والقانا التيار الصاخبُ في جدول ضيق..].
مشهدية البؤرة تتداخل والاسترجاعات الثانوية لتصعدها، في الانفجار الداخلي بموت العامل الأجنبي، وبالصخب المتوقع لهذا الجمهور المُستلب، ليحل الصمتُ المؤلم في النهاية.
إن الأبطال غير بطوليين، وتتشكل ثيمات الانقسام والتآكل الداخلي، والحلم، وتتفاقم الكوابيس والانشطارات، والشخوص والحالات تومض.
في قصة [ الجد ] ترى العائلة كلها بأن الصبي، الشخصية المحورية في القصة، مريض، ويأخذه الجد في رحلة تتناثر فيها صورُ العائلة ومواقفها، ويظهر أن أفراد العائلة هم المرضى، وليس هذا الطفل الحزين عليهم.

۞ 5 ۞

كانت العلاقة الأولى التي نشأت لدي بين القصة القصيرة والرواية، هي أن الرواية كانت مضمرة في بعض بُنى الأقاصيص، كانت تمتحن وجودها وتكوناتها الأولية، ولهذا حدث ذلك الأتساع الكمي للقصة القصيرة. ولكن في عقد الثمانينيات أخذت الرواية المشهد الأساسي في التأليف فظهرت روايات عدة: اللآلـئ ـ القرصان والمدينة ـ الهيرات ـ أغنية الماء والنار ـ مريم لا تعرف الحداد (امرأة).
كانت العناوين والموضوعات الوطنية تنمو على نحو واضح.
ولم تعد القصة ببنيتها القصيرة قادرة على استيعاب التحليل الموسع للشخوص والأحداث. وإذا بدت الروايات كروايات قصيرة في هذا العقد فكأنها لا تزال تعيش مناخ القصة القصيرة، لكنها قصة اتسعت مشاهدها، وشخوصها، ودخلت في عالم تعددية الواقع وأصواته ومستوياته.
ولكن هناك تداخل بين الجنسين، وأظن إن الرؤى الأساسية التي كانت في تلك القصص تعمقت وحصلت على بعض بذورها.
في قصة [ علي بابا واللصوص] ثمة مقاطع قرأتها عند إعداد هذه الورقة رأيت فيها كيف كانت بذرة لتكون رواية [ أغنية الماء والنار]، حيث يجري الحارس علي بابا إلى واحة الأزهار ليجد غابة الأكواخ محترقة.
وهذا مشهد حقيقي جرى في حينا. وأظن إن علي بابا قد تطور في الرواية ليصبح هو راشد، الذي كان يبيع الماء للأكواخ ثم قام بحرقها بناءً على علاقة مع مالكة البيوت تلك.
إن شخصية المنتمي المنقسم، وصراعاته بين القوى المختلفة، كانت بذوراً في القصة القصيرة وغدت مساحة واسعة، وتكوينات بشرية متعددة، ومشاهد مستقاة من الواقع، والحدث العابر في القصة القصيرة صار هو المحور الروائي، سواء قبل تشكله أم بعد حدوثه.

۞ 6 ۞

مثل عقد التسعينيات استمراراً لتدفق الرواية، ومتابعة القصة القصيرة لها، وتقطعها بينها. فهناك خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية على مدى هذا العقد.
ولم تزل القصة القصيرة محملّة بثقل الشحن الحدثي والرمزي. فأي بؤرة قصصية لا تكتفي بذاتها، فهناك دائماً خيوط صغيرة مشدودة إلى آفاق لا مرئية.
إن البنية المشهدية المتصاعدة لا تزال هي أساس التشكيل القصصي، لكنها مُحملة برموز وتداعيات مكثفة.
سوف آخذ فقط المجموعة القصصية الأولى في هذا العقد وهي [سهرة] الصادرة سنة 1994، فلقد ترنحت الشخوص الإيجابية وغدت أكثر ملموسية، وحاولت أن تكون أحفل بالصراعات الحقيقية، دون إذابتها في التفاصيل الثانوية.
في قصة [الرمل والحجر] يقوم البدوي مظفر باقتحام خيمة عالم آثار لينتزع الحجر الأثري الثمين منه.
ونجد البنية المشهدية باتجاهين، اتجاه كشف حياة العالم الغربي، واتجاه لكشف حياة مظفر، عبر الصراع بينهما، حيث يحاول الأول الاحتفاظ بالحجر، ويقوم الثاني بسرقته.
إنهما نموذجان متضادان، فالعالم رجلٌ يعمل لكشف مدينة أثرية، وقد وجد الآن مفتاحها وبابها، وكان قد عانى طويلاً وفقد زوجته وشاخ في سبيل هذا الكشف.
أما الآخر فقد قُتل أخوه بيد الأمير لأنه أحب جاريةً لديه، فقام مظفر بالثأر لأخيه، وأصبح مطارداً طوال سنين، فراح يسرق ليعيش.
الرجلان يعبران عن تصادم غريب يمكنه أن يجمع تضادات جغرافية واجتماعية وثقافية.
أظن إن القصة القصيرة بهذه الصورة تغدو مشحونة ومتوجهة لرصد مسارات تتجاوز الانعكاسية المباشرة والأرصاد الجوية اليومية.
هل يؤدي ذلك إلى تراكب وتقدم القصة القصيرة؟ هل يساعد التصوير الملموس على فهم الأبعاد الصراعية للحظة؟ وهل يؤدي هذا إلى تجاوز القصة القصيرة المحدودة أم إلى اختناقها؟
إن كل هذه أسئلة مفتوحة للحوار.
ولنأخذ قصة أخرى من نفس المجموعة هي [خميس]، إن القصة تُروى من خلال أسلوب الراوي، وهو ربان السفينة ومالكها.
كان يمكن لأسلوب الراوي أن يزيل البُنية المشهدية، لأن تدفقات الراوي غالباً ما تكون حرة، إلا أن التجسد المتنامي ظل مستمراً واضعاً شخصية الراوي نفسه وخميس في علاقة فنية.
خميس، الرجل الشعبي القوي والبسيط، يغير حياة الراوي تماماً، فسفينته الصغيرة ومدخوله الشحيح يتحولان بصورة طفرات، ويلعب خميس دور صانع الخوارق والتحولات المدهشة في حياة الربان، ففي أيام البحر يغمره باللآلئ، وفي أيام الكساد الغوص يكتشف الزيت.. ولكن الآلة تقطع ساقه ويزاح من عالم الربان الذي يحن إليه قليلاً..
في هذه العلاقة الصراعية التعاونية، الواقعية السحرية، هناك نموذجان يصطدمان ويعبران عن مراحل وتوجهات متضادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تجربتي في الرواية

كانت عائلة صغيرة قد قدمت من بلدة بحرية (مدينة الحد) وسكنت مدينة المنامة في مجمع كبير للبيوت المصنوعة من سعف النخيل . فقدَ الأبُ ورثَ أجداده البحارة أصحاب السفن والغوص على اللؤلؤ والتجارة ، وصار عاملاً زراعياً في شركة النفط ، وبسبب هذا الانتقال إلى هذه المنطقة المليئة بالأحداث والجماعات السياسية وضعني والداي في بؤرة الصراع ، والأب اشترى لي بعض السير الشعبية والأم قدمت لي الشعر العامي والأغاني ، ثم رفضا ثمار هذا التحول .

فهي قبل أن تموت ، وفي زمن عصف الشباب السياسي ، وكانت الغرفة تمتلئ بدخان أوراق التقارير السياسية المحروقة ، قالت لي أمي :
[دع عنك هذه الأوراق] .
كانت الأوراقُ كثيرة : كتبٌ ومجلاتٌ ومعها أصدقاء كثيرون ، وخلايا في حارات المدينة ، وثمة أحلام كبيرة بتغيير الوطن والعالم ، ووقوفٌ صامدٌ طويل مرهق أمام عيون الطلبة في الصباح .
كانت أوراقٌ كثيرةٌ تحترقُ أو في طريقها للاحتراق ، فحين جاءت الشرطة في صبيحة يومٍ أغبر هو الثالث والعشرين من أغسطس 1975 ، يوم حل البرلمان في البحرين ، أصر العريف على حمل كل كتبي عن التراث الإسلامي ونصوص الروايات وكتب الفكر إلى الجيب ، فسألته وما دخل كتبي ؟ لماذا تريد أن تأخذها هي الأخرى ؟
معتقداً بأنني سأعود إلى هذا البيت الهادئ مرة أخرى ، ولكن العاصفة أخذتني.
رفع العريف سماعة هاتف بيتي واتصل منها وجاء الأمر بحمل مئات الكتب من المنزل البسيط في حارة الفقراء ! فيما بعد رأيتُ المحرقة عند بوابة قلعة المنامة ، فكانت براميل سوداء لا تختلف عن أية براميل للحرق ، وفي خطوطها السوداء المتفحمة رأيتُ مصير الثقافة والرواية في عالمي!
في زمنِ تعليم الأطفال والأولاد تصعب الكتابة الأدبية ، وفي زمن الطرد من مهنة التعليم بسبب الدعوة لإصلاحها ، والاشتغال في صحافة التحقيق المنتوف الريش والأظافر ، تصعب الكتابة الإبداعية ، فاللهث وراء اللقمة وكتابة حروف انعكاسية عن الأسعار والأكواخ ، تمزقُ آخرَ ما بقي من رقة وخيال !
والآن أطبقتْ أسوارُ السجن ، ووقفت القبضاتُ الصلدةُ على الباب ، فلا ترى العينُ سوى الجدران ، أو الأصدقاء ، ولا تسمع سوى شريط الماضي يتدفقُ صوراً ، وكتلة الأحجار والقبضات مكونة من أجل أن تنتزع آخر ما بقي في رأسك من حلم ، وآخر ما في روحك من حروف .
ولكن عليك أن تقرأ سواء من مكتبة السجناء الفقيرة أم من جريدة تحصل عليها ، والجريدة ليست سوى أوراق ملوثة عليك أن ترفعها من برميل الزبالة وتخبئها في فوطتك وأنت متجه لدورة المياه في الصباح البارد .
كلُ شيءٍ يدعوك للموت الثقافي ، الصراخ والعلبة الأسمنتية الصغيرة ووجود الرفاق المستمر فوق رأسك ، وغياب الشاي والهدوء والنساء .
لكن الكتابة في الظلام ممكنة ، حين يختفي النورُ منذ العصر ، يمكنك أن تخربش فوق الورق المعتم ، وتملأ رأسكَ بالحبكات القصصية ، التي تكبرُ كل يوم من اليوم السجني الطويل ، تتعثرُ بالأرز اليابس ، أو بشوربة العدس الأقرب للقيئ ، أو بأشباح النسوة لكن الكتابة تنمو فوق الأرض الحقيقية ، تسحب الصواري من عند البحارة الذين غطسوهم موتى وهياكلَ خاليةً من المعنى في قعر الخليج ، فتغدو الروايةُ الكبيرة المخططة في الرأس روايات عديدة .
كتبتُ روايات عدة على أوراق السجائر وعلب الصابون في السجن ، مثل: الدرويش والذئاب ، و لا مكان للصعلوك بين الملوك .. ورواية عن شهر زاد المسجونة بعد قصصها المثيرة للقلق ، ولكنها كلها لم تنشر ، كانت مليئةً بالخيال وخاليةً من العظم الإنساني ، وشخوصها كأشباح تمشي في زمان بلا مكان ، إذ تحدثت عن شخصيات تكون هاربةً منسحبة إلى أدغال ذاتية رمزية ، وإذ ثارت تكون ثورتها مسيّسة صارخة . وهي بلا وطن معين ، وبلا بشر منتمين إلى بنية موضوعية ..
لكن في سنينك العجفاء الحجرية هذه قد تتصاعد إرادتك وقد تذبل . قد تحول ذكرياتك وعلب الصابون إلى نسيج من الكلمات ، وقد تفقد إيمانك ودورك وتصبح كلماتك من أجل أناك فقط .
هذان طريقان من طرق عديدة قد رأيتها فيّ وفي الآخرين ، والرواية تتشكلُ هنا كمحاولةٍ لهدم السياق النثري التبسيطي ، ولهذا تزخرُ باصطناع أدوات تقنية لعدم الوقوع في سطوة الجدران والصراخ الليلي لأناشيد المعتقلين ، ومن هنا تــُرفد بخيالٍ فسيح ، تسمحُ به أيامُ وليالي الفراغ الطويلة ، ومن جهة الدلالة تقومُ بالانغراس في جذور الأرض لأن كل يوم هو لحظة ألم وأمل ، خاصة أن أرواح السجناء الحية تتعفن أمامك . يصبح الماضي ملاذاً مهماً . فتنسجُ من ذكريات وقصص متشظيةٍ يرويها الأبُ عن زمنِ الغوص ، ومن استدعاء لتاريخ الخليج بسفنه واحتفالاته وطقوس بحره ، ومن كتب الخلايا الوطنية المليئة بروايات المقاومة ، ومن أحاديث وموضوعات السياسيين والمؤرخين ، ومن لفائف السجائر وخيوط العنكبوت الغازلة للرماد والتراب والحرير ، ومن موت الأم المفاجئ السريع ، فتطلع إشعاعاتٌ ويتشكل وميضٌ ، وتتشكل الشخصية المأزومة المقاومة لب الحياة في قص من هذا النوع ، وهكذا تظهر القصص القصيرة أما أن تكتب رواية فأي ورق هنا وأي دار نشر ستنشرها وأين الأقلام ؟ !
كذلك فإن للرواية نسيج حدثي وشخوصي كبير ، متشابك ، ومتنامٍ ، والرواية في البحرين وقتذاك زمن أواخر السبعيينات من القرن الماضي لم تظهر ، فكيف ستظهر من السجن ؟
كانت الجدران تحيطُ بنا ، في الداخل والخارج ، فذاكرة بشرنا ممسوحة من الملاحم ، ولا يوجد لنا أرشيف إبداعي ، وحتى تاريخ مسجل وقتذاك ، ولهذا كان الأمر يتطلب الكتابة الروائية حقاً ، ومن قعر تلك القفة الحجرية ، في معسكر في الصحراء ، في صندوق من الخشب معمي العينين ، إلا من ثقوبٍ صغيرة تحددُ لك أشباحَ القادمين المفاجئين ، يمكنك أن تكتب روايتك الأولى على قراطيس السجائر . والروايةُ سواء كُتبت في قصر أم في مركز للإعدام في سافرة ، فإنها لا بد أن تأخذ شهادتها الشرعية من بنائها .
كانت الرواية الأولى التي نــُشرت لاحقاً باسم (اللآلئ) بها الشرارة التي بحثت عنها . هنا وقفتُ على أرضي ، هنا تلفتتُ فوجدتُ وطني . رأيت أبي وخالي وأمي . رأيتُ السلاسلَ والأزهار والأساطير . إنها عن الربان المغامر ، عن النوخذا القاسي الذي يؤخر سفينته بعد انتهاء موسم الغوص طمعاً في المزيد من اللؤلؤ الثمين يواجه بعاصفة مفاجئة تطيح بالسفينة على إحدى الجزر .
ليس عرض صراعات الغوص ، وظلالها المعاصرة ، هي فقط ما شدتني إلى تلك الشخوص التي ظهرت فجأة بل أيضاً اللغةَ المتشظية المنفجرة المتداخلة سرداً وحواراً والراجعة دائماً إلى الوراء بحثاً عن خيوط الشخوص وأسرار المكان . إنها عودة دائبة للزمن الخلفي كمحراث أساسي في شق تربة الحاضر أمام تطورات الصراع المشهدي المتفاقم باستمرار .
هذه اللغةُ التي أحببتُ أن ترافقني وأنا أعيدُ النظرَ الفني في تاريخ الخليج وزمنه الراهن ، وأن لا تتوقف مسيرة الغواصين عند جزيرة النوارس الفارغة من التاريخ والبشر في [اللآلئ] ، بل أن تمتدَ خيوطُ السرد من قلب البحر إلى الطوابق المتعددة المهدمة المتصارعة المتشكلة في روح الإنسان .
وأنا في السجن وفيما بعد في أحداث الحياة الحافلة وفي البطالة الطويلة وكتابات الصحافة ، انشغلت بالتقنية التي راحت تتهدم وتنبني بإيقاعات مضطربة ، خائفاً دائماً من أن تأكلني التقارير ولغة الصراخ . كان الصراخ هو الانفجار النفسي والفني الوحيد الممكن في شريط حجري محاصر . كثيراً ما نصرخُ في الليل موقظين الصحراءَ العسكرية إلى فقداننا للهواء ، خائفين أن نفقد الفن وخائفين أن نفقد اللغة والحياة فجأة ، وهذا الشعور يدفعنا للمغامرات الفنية بأساس حيناً وبدون أساس حيناً آخر ، فقد تشبعنا من مسامير الواقع وصدئه الكثيف في أعمال الانعكاس ، ومن هنا أخذتُ في التركيب الشخوصي والحدثي وفي تعدد الرواة إلى درجة التداخل الشديد أحياناً كما في [القرصان والمدينة] ، هذا العمل الذي أعدت النظرَ فيه في طبعة ما يسمى بالأعمال غير الكاملة .
فشخصية المدرس المحورية لم تكن تروي لوحدها حدث خطف زوجته من قبل الفنان الكبير كامل ، بل أن الربان المتهم بالقرصنة كان يروي كيف خان الثورة وسلم مراكبه للعدو . . روايتان على مستويين زمنيين مختلفين متداخلين .
وفي اللغة التي تغدو غايةً غير منفصلة عن المعمار ، وفي الشخوص والأحداث المركبة وفي التكثيف تكونت أساسيات الرواية الأولى ، اللآلئ ، القرصان والمدينة ، والهيرات (أي المغاصات) ، وأغنية الماء والنار ، وامرأة ، والضباب ، وكان عليها أن تتغير مع تبدل حالة الكاتب وهو يخرج من العزلة .
حين جاءت الثمانينيات خرجتُ من بين الجدران ، بأعمال قصصية وروائية مخزنة في علب الحلاقة ، وكان عليها أن تخرجَ من بين السوائل عبر آلة كاتبة قديمة أخذت تشتغل فوق طاقتها ، في بيت أبي الذي لم تعد فيه أمي موجودة لكن كثرت فيه الأوراق التي لم تكن تحبها . وقد كلمت أشباحها الكثيرة إنني لم أحرق الورق فقط . والوطن لم يعد هو الوطن فثمة أحياء أخليت من العقل واجتاحها جنونُ الدكاكين الأجنبية ، وغدا فيها البشر حصالات متجولة . تعملقت الدولة وصارت حوتاً يبلع البشر ومال الناس والقيم وصار بيع الروح هو الخيار الوحيد لتحصل على عمل ومسكن وصورة في الجرائد .
وهنا لا بد أن تعود لغةُ التواصل المباشرة وتنقطع استراحة المحارب الشعرية ، ويعود القاص المنعزل إلى صحفي على أرض ملأى بالحطام وبفتات المناضلين وباستيلاء الماضي السحري والديني على الحاضر الضائع .
كنت أمشي نحو المجلة التي اشتغلتُ فيها أكتب تحقيقات ، أركض نحو المزارع والأحياء ، وأوقن أن مسألة الكتابة القصصية والروائية مستحيلة .
لا يزال النوخذا المهووس باللآلئ سابقاً وبالذهب والنفط والرقيق والآثار راهناً ، والمغامر بحياة بحارته ، لا يزال يمسكُ الدفةَ بين صخور العصر ونافورات النقود ، وقد تحول إلى مجنون يبيع أرضه ونخله وبحارته وأبناءه لمن يدفع ، وصار الواقع جملةً من الكوابيس ، وغدت المقاومة نفسها انتحاراً أو جنوناً آخر ..
لكن صحافة التحقيقات فتحت عيناي على الأدغال المتوارية وراء الشوارع الرئيسية حيث القرى والأزقة المثقلة ، والتي انفجرت في صراعات دينية ضارية .
أكدت الانفجارات الدينية محدودية الرواية الواقعية ، فذلك الحفر فوجئ بضخامة الموروث ، وطلع ربانٌ آخر يريد قيادتنا للماضي ، وتناولت رواياتي وروايات آخرين ما هو معاصر ، وأنشدت للراهن والجزئي غالباً ، في حين أن الدين وجذوره الموغلة في القدم غير مرئية بعمق في هذا الراهن المروي ونحن في غربة برواية محدودة القراء وبلغة صعبة وفي زمن أزمة الكتاب!
ولهذا رحتُ أقرأ مجدداً الإسلام والتاريخ العربي ، وأعتزم أن أشكل رواية كبيرة عن الفتوحات الإسلامية ، ولكن هذه القراءات أخذتني لبحث هذه الفترة وصراعاتها الاجتماعية وتياراتها الفكرية ، حتى صارت عدة مجلدات عن تطور الوعي الفكري والفلسفي .
حينئذ غدت الصراعات الروحية تتجسد في أكثر من رواية معاصرة مثل رواية (الأقلف). وهي عن الطفل اليتيم المشرد الذي تتسع دائرة حيرته لتصل أطراف الدنيا المتباعدة فيصير الانتماء أما إلى الشرق أو إلى الغرب ، إلى الإسلام أم إلى المسيحية ؟ إلى الوطن أم إلى الاستعمار أم إلى الإنسانية؟
شدتْ دراستي الطويلة عن الوعي الديني أنظاراً ، وغدت دائرة الحوار مع اتجاهات متعددة تتسع ، فقد غدا الدين محور الوعي في هذه المرحلة الشائكة ، وفي لحظة خاطفة غريبة : قلت لماذا لا تغدو الرموز الدينية مجالاً للرواية ، وقد شدتني خاصة شخصية الحسين ، وانقطعت عن ما كــُتب عن وجوده الحي ، آخذاً رأسه المقطوع الدامي في رحلة روائية لم تؤخذ من قبل .
أما الضجة فقد حدثت على رواية (عمر بن الخطاب شهيداً) ثم (عثمان بن عفان شهيداً) اللتين منعتهما الرقابة في بلدي ، وهما روايتان تبجلان كذلك رموز الإسلام لكنهما تتناولان الصراعات الحقيقية الدائرة وقتذاك.
إن كتابة الرواية التاريخية عملية صعبة ليس بسبب الدخول لتجسيد الصراع الاجتماعي في ذلك الزمن التأسيسي المقدس للأمم الإسلامية ، بل كذلك بسبب تصوير ما هو ملموس من أشياء ومناخات وأمكنة ، فمعرفة النباتات والفواكه لا تنفصل عن وضع الشخصيات في تلك المواقف الدرامية والمأساوية للشخصيات العظيمة وهي تــُقتل في ذروة الانتصارات والانقسامات العميقة النارية تتصاعد بين صفوفها ، لكن الرواية العربية وخاصة التاريخية لها مهمات خطرة يجب أن تنجزها وترافقها بحوث مفككة للوعي المتكلس المستمر .
هذه لمحاتٌ خاطفة عن تجربة بدأت عند شواطئ قصية للوطن العربي ، ومبعدة عن التعليم والنشر ، ثم راحت تتغلغل في جذوره وماضيه بحثاً عن تفكيك قيود أحاطت بنا كزنازنة هائلة ، لا ينفع معها الصراخ بل التحليل العميق لبناها الغارقة في القرون الوسطى.

على طائر النار

فقد بطنه، صار خفيفاً ريشة تطير في الدخان والكوابيس، يهذي وهو واقف، شبح البناية المطلة يستقبله طوال الليل شبحٌ يحدق فيه، يطلب الممرضة لكي تقلبه، التلفزيون وحده يمكن أن ينقذ رأسه من الدمار.

يقول الطبيبُ الغازات التي تخرج مقدمة لمجيء البراز ونجاح العملية، عدة أيام وبطنه متيبس، حين شرع للعملية ظن إنه ربما لا يصحو ثانية. ما بال هذه المعدة تفجر كل هذه الأزمة؟ حين يحس بدبيب يابس لا يقدر على النزول من السرير، البلاط القريب غدا بعيداً، ثلاث طوابق ينزلها، عليه أن يذهب للدورة المياه، ثمة تحرك غريب في البطن، يصل بصعوبة جمة للمرحاض، هذه الكتلة الدائرية المائية رهيبة، يجثم عليها بصعوبة، لا يستطيع أن يمسك الصنبور الذي يتدفق على كل جسده، يصرخ بأعلى صوته، لا أحد يأتي، الممرضات الأجنبيات مشغولات بالمكالمات والمرضى، تأتي واحدةٌ مسرعة، تمسك ساقه لكي ينهض، ثم تقذف الماء بين ساقيه، وهو لا يزيل شيئاً، لم ينزل شيءٌ.
السرير مصيدة نارية، عليه أن يركز على اتجاه واحد، لكن تحت الظهر بدأت خطوط حمراء وشقوق، تجيء له الطبيبة العجوز وتقلبه، وتقول: عليك أن لا تظل على جانب واحد، كل ساعة على جانب وإلا تشقق ظهرك!
الليل طويل مخيف، الإضاءة مزعجة، الظلام مخيف تتفجر فيه الأصوات، ثمة بضعة شخوص يتكلمون في رأسه. تزداد لهجاتهم صخباً وتداخلاً عند الفجر، حين ينتهي الليل المخيف الطويل يفرح إلى حين.
حين يجيء أخوه إلى المستشفى يظل يتحرك ، يجلس ثم ينهض، يعدل غطاء رأسه الذي لا يحتاج إلى تعديل، يجلس قربه ثم يعود لمقعده، يقول إن إدارة المستشفى تطلب دفعة من النقود.
تكلفة العملية زادت على 12الف وخمسمائة دينار، تتوقف الأدوية والكشوف حتى يضع دفتره البنكي في يد أخيه ليراه هذا لأول مرة ويسحب منه ويقذف المال في فم المستشفى النهم، أنقذه توفيره، وربما أنقذه هروبه من المستشفى العام والمجيء لهذا المستشفى الخاص المكلف.
دفعاته المالية المتكررة وفرت له علاج مستمر، بعد كل خطوة أو كشف، تأتي فاتورة.
التمدد على السرير بشكل متخشب على مدى اليوم مريع وفظيع، الحراك المؤقت لبضع دقائق خارجه يريح قليلاً. هو يخرج بضع عبر كرسي متحرك.
حين حدثته الطبيبة عن خروجه شعر بالسعادة.
حشدٌ من رجال ونساء ينتظر.
قاعة مستشفى، وثمة موظفات متخشبات يقمن بمعاملات ثقيلة قاتلة.
النسوة أشبه بأكياس سوداء جالسات على مقاعد حديدية صلدة تنغرز في اللحم باردة لا يدفئها جسد مصهور!
تفاقم توتره مع تناول جرعة من الدواء الكيمائي حيث يوضع لبضع ساعات أخرى وتعلق عليه زجاجات تسيل ببطء قطرة كل دقيقة.
حشود النسوة المريضات في القاعة يحزنه. ممتلئات بلحم زائد، متغطيات في الحر، منتظرات لساعات بضعة أدوية معروفة مسبقاً.
لا يعرف لماذا هو يتجه للموت ؟! هو الذي قاتل وكتب كتباً في غرفة على السطح.
هو يُجر للموت، ويفقد وزنه وروحه المعنوية ويتوقف القلم بين يده. أصبح القلم جهازاً يصعب وضعه بين اليدين.
هو الذي أعطى عمره للناس لا يجدُ أحداً حوله سوى بضعة مجانين.
لكنه لن يُجر.
سيقف هنا، يتأمل، يصنع مخططات، وفي غرفته سيشتعل الجهاز.
لم يصدق إنه يكمل فصولاً من رواية ثم يبدأ في رواية جديدة راحت تنمو بسرعة وتعطيه أجنحة للطيران وحبوب ضحك ونوم هادئ.
الدواء الكيمائي جرعات مخيفة في نهارات عذاب بين موتى .
يلتقط جلده المنتشر على الأبسطة كأنه مجموعة من الأفاعي تبدل نسيجه القذر.
بلا شعر، جسده مكون من شريطين من العظام يمتدان من الرأس مروراً بالساقين يرتبط بهما جلد.
بالكاد يستطيع الحراك، جسدٌ ضعيفٌ بين السرير والسرير. أدوية لا تتوقف تعطى بأوامر عسكرية، يده كلها قشور، ورجلاه سوداء متقطعة لا يستطيع أن يقف عليهما. تأتي دعوة للسفر والحضور في برنامج تلفزيوني فيعتذر.
هو يستعد للموت، فكيف يطير؟
كل من يخاطب يترحم عليه مسبقاً.
المرض الخطير ينهشك إذا لا عودة لك!
جحيم يزول بالتخلص من الأطباء والأدوية والحبوب، تزدهر الدنيا من حوله. يعشق الروايات فيقرأ العشرات في أيام، جسده الواهن لا يعطيه فرصة للخروج، شهيته مفقودة، بالكاد يضع بعض اللقمات، حتى المشي داخل الغرفة صعب، يقعد صباحاً في جسد عاجز.
كتاباته مستمرة يومياً في الصحف والنادر الذي يسأل عنه لا يقرأ ويحدق فيه ليرى موته.
أي عالم غبي يحيط به؟
يريد لكتبه أن تظهر، ورواياته أن تحلق، ولكن لا أحد يساعد، ودور النشر كائنات خرافية مصاصة للدماء.
لماذا يموت ولم يكمل مشروعاته؟
وكل هؤلاء الأوغاد فرحون بصحتهم وإذا مرض أحدهم سارعت الجهات الحكومية للجري به في البلدان البعيدة.
هيا قاوم!
مثلما صعدت الأدوار المختلفة الرثة وكتبت فوق السطوح!
مثلما جمعت القروش القليلة لتشتري الكتب وتراسل الصحف البعيدة وتحرك الجهاز في العالم وتنشر ويدخل موقعك ملايين الناس!
تأتي الريح وتقذفه بعيداً بين أشجار العصافير واجنحة النسور.. يمضي مع ورق الشجر المتطاير من الصخور وثلل بشرية خريفية تتساقط في المدن ..
يشق طريقه تترامى قراطيس كثيفة له في الازقة .
في البناية الرثة اشاهد الحمامات تعيش في الشقوق وتتزاوج .
اخوه يحيط به مثل الشجرة .
من اصابعه يظهر الحليب والبيض واصوات المعادن .
الآله تطلقه في الفضاء .
مليون دواء والشارع مغلق .

  عبدالله خليفة… مناضل وطني وكاتب تنويري

علي الوادي

هو واحد من آلاف المعتقلين والمنفيين وعشرات الشهداء الذين سالت دماؤهم وزهقت أرواحهم على تراب هذه الأرض الغالية في السجون والمنافي في الشوارع والطرقات وفي كل قرية ومدينة على أيدي المخابرات العميلة الظالمة.
هو من طاردته المخابرات البوليسية وجهاز أمن الدولة المقبور ودفع ثمنا غاليا قدمه هذا المناضل الكبير حبا وفداء لوطنه ولشعبه وللمبادئ والأحلام.
إن مرحلة النضال التي خاضها عبدالله زاخرة بالكثير من الحوادث المهمة، فهو شعلة من الحماس والاستعداد والتضحية والفداء من أجل الخلاص من قبضة الاستعمار وإحلال الحرية والديمقراطية العادلة.
فمن أرض القضيبية وتحديدا منطقة بيوت العمال كان يسكن عبدالله مع عائلته المكونة من الوالدين وأخيه عيسى وألاختين ميثاء ومريم ..
هذه المنطقة الحيوية المهمة عامرة بأهاليها ومبانيها بمعالمها التاريخية وأشهرها قصر الشيخ حمد وجامع القضيبية الكبير وبعض الأحياء الشعبية التي لاتزال تحتفظ بطابعها وتراثها القديم.
ومن هذه المنطقة تخرج الكثير من العناصر المتفوقة على الأصعدة والمستويات كافة، وكان طبيعيا أن يخرج من بينها رجال يحملون فكرا نضاليا ومنهم هذا المناضل الذي برز على الساحة السياسية كواحد من أشهر الكتاب ثقافة بأفكاره النيرة وحسه الوطني.
وعندما أتحدث اليوم عن شخصيته ودوره النضالي فإني أعيد إلى الأذهان تاريخه الحافل بالصراعات الفكرية والعملية ويعني ذلك مدى تقديري له واعتزازي به وبجهده وعطائه اللامحدود الذي يبذله، فهو رمز حيوي من رموز النضال ومثل يحتذى به، إنسان أعطى لبلده على مدار أربعين عاما التي قضاها في صفوف العمل النضالي مع رفاقه كل ما من شأنه أن يضيف في سجلات الإنجازات التي حققتها جبهة التحرير الوطني البحرانية التي انصبت حقيقة في بوتقة الكفاح والتضحية.
ولد عبدالله علي خليفة البوفلاسة في العام 1948م وكان مسقط رأسه القضيبية “بيوت العمال” لأسرة بسيطة، إذ كان والده يعمل في شركة بابكو. عانت عائلته من وفيات الأطفال المتكررة وترعرع هو وسط ذلك الخوف من الأمراض والموت. بدأ مراحل حياته الدراسية في مدرسة القضيبية الابتدائية بشكل سيئ في البداية بسبب عدم وجود توجيه عائلي صحيح وسليم، فالأب والأم أميان وكان عبدالله كثير الهروب والتغيب عن المدرسة، ولكن لإصرار والده ومتابعته الدائمة له انتظم في الدراسة وراح يتفوق واتجه لقراءة الكتب بتوجيه من زملائه الطلبة المتفوقين.
وكانت أصداء الحركة الوطنية تصل وتنتشر بسرعة البرق في كل مكان، إذ الصراع ضد الاستعمار على أشده وذلك في منتصف الخمسينات والستينات، وفي مدرسة الحورة قاد مع رفاقه في انتفاضة مارس/ آذار 65 جماعة شقت طريقها إلى مدرسة المنامة الثانوية للبنين وتدفقت المجموعات الطلابية كالنهر الصاخب وعلى إثرها اندفعت خيول العسكر والجنود المرتزقة وراحت تفرق تلك الأمواج البشرية الغاضبة ولم تهدأ الانتفاضة بل زادت لهيبا ونارا.
في العام 1966م تعرف مناضلنا على مجموعة منتمية إلى جبهة التحرير، فتكاتف معهم وعقدوا الكثير من الاجتماعات وعلى مدى ثلاثة شهور ناقشوا من خلالها المسائل الأولية للفكر الحديث، فانخرط في صفوف الرفاق وانضم مع خلايا تنتمي إلى منطقة القضيبية والحورة ورأس الرمان والفاضل والعوضية.

شقة راس رمان التي عاش فيها 21 عاما و توفى فيها .

شقة راس رمان التي عاش فيها 21 عاما و توفى فيها .

وفي العام نفسه حتى العام 1968م وقعت أكبر ضربة أمنية لخلايا الجبهة ومنها صعد عبدالله إلى اللجنة القيادية للجبهة وكان طالبا في الثانوية ثم في معهد المعلمين الذي كان يسمى عاليا وكان عليه ألا يدرس في الخارج أو السفر، وهذه أحد تعهدات الرفاق بأن يكرس نفسه مع رفاقه والخلايا للكتابة وطبع المنشورات وتوزيعها ودعوة الناس وتوعيتهم.
في العام 1975 كانت تجرى عمليات تصعيد مفتعلة للصراعات السياسية والاجتماعية كمبرر لحل البرلمان، وكان عبدالله ضحية تلك الألاعيب، فقد نشر أحد الصحافيين تحقيقا عن التعليم تطرق عبدالله فيه إلى المشكلات العميقة داخله وكانت الإدارة تتصيد عبارات لتفجرها فأخذوا كلمة التعليم “تعليم استعماري” ليجعلوها قضية كبرى لابد فيها من الاعتذار من أجل تفجير الاضطرابات في الشارع تمهيدا لحل البرلمان، فلم يستجب أحد لرغباتهم وقاموا بفصل عبدالله ورفاقه المعلمين وحرموا وخسروا سنوات العمل.
ولم تكن جبهة التحرير الوطني البحرانية سببا في التصعيد والانفجارات، وإنما هي افتعالات خلقها جهاز الاستخبارات لأن الجبهة كانت أكثر تنظيما وتأثيرا على الشارع العام بسبب واقعية خطها السياسي ومرونتها تجاه أشكال النضال كافة. ومن جهته كان لديه نشاطه الفكري والأدبي وكان يكتب في الصحافة بأسماء مستعارة، وفاز بجائزة أسرة الأدباء والكتاب للقصة القصيرة، ما دعاه إلى تكريس نفسه باسمه الحقيقي، إضافة إلى ذلك كان يكتب مقالات ودراسات سياسية واجتماعية عن تاريخ البحرين وتطور القصة القصيرة.
كما قدم في مؤتمر الأدباء والكتاب العرب في الجزائر العام 75م وهي سنة حل البرلمان وهي أول وآخر سفرة له في عقد السبعينات، والتقى شخصيات كبيرة مثل الرئيس بومدين وتعرف على الشاعر الجواهري والباحث حسين مروة.
عاد مناضلنا إلى أرض الوطن حاملا معه تلك الانطباعات وكان يهدف من خلالها إلى عرض ما لمسه في ذلك المؤتمر للرأي العام، إلا انه وبعد عملية التصعيد المفتعلة كمبرر لحل البرلمان اعتقل وزج به في السجن، إذ ألقى القبض عليه وفتش بيته بالكامل وصودرت كتبه التي تقدر بثلاثة آلاف كتاب أحرقت أمام عينيه، وظل عبدالله سجينا لمدة ست سنوات قضاها بين زنازن جو وعسكر وجدة ذاق فيها أشد ويلات التعذيب والقهر والمعاملات الوحشية السيئة، ولكن بإيمانه ووطنيته وتمسكه بمبادئه واعتناقه منهج جبهة التحرير ظل واقفا صلبا قويا عنيدا ضد كل التيارات المفتعلة والضارة وعلى رغم علمه بوفاة والدته فإنه كان ندا وعملاقا شامخا واشتد نضاله وعانقه مثلما عانق قلبه حب أمه وروحها الطاهرة… ماتت والدته قهرا وظلما وحسرة على فراقه وعلى ما رأته أمام عينيها لولدها وهو يجر من بين أيديها مقيدا بلا رحمة ولا ضمير.
ولم يتمكن عبدالله من رؤية والدته وودعها على رغم أن السلطات أعادته من جدة إلى المنامة ولكن بعد فوات الأوان، فقد ماتت قبل وصوله وعادوا به من دون علمه ولكنه في النهاية انتصر بمواقفه ومطالبه العادلة.
عبدالله علي خليفة البوفلاسة: الكاتب والناقد والقاص السياسي المناضل البارز بقلمه وفكره يعيش اليوم مع أحلامه بين ماض أليم وحاضر تحيطه مجريات الحوادث المتتالية ومستقبل يحلم به أن يرى بلده وشعبه يعيش بحرية وسلام وأمان، يعيش في شقة للإيجار بين كومة من الأجانب الآسيويين، فقد ظل تائه الفكر شاردا من دون عمل لمدة سنتين بعد خروجه من السجن العام 1981م بعدها عمل في الصحافة وبأجر مقطع حتى تمكن من إثبات نفسه في احدى الصحف المحلية وبعد عناء وتعب طويل استطاع أن يحقق لنفسه ولو جزءا بسيطا من أمانيه.

شقة راس رمان التي عاش فيها 21 عاما و توفى فيها .

أخبار الخليج
22 أكتوبر 2014
شارك في التغطية: علي الستراوي – أحمد عبدالحميد – عبدالمالك سالمان
فقدت البحرين واحداً من أبرز كتابها المبدعين والمثقفين وهو الزميل الكاتب الكبير الراحل الأستاذ عبدالله خليفة عن عمر ناهز الـ 66 عاماً.
يعد الأستاذ عبدالله خليفة اسماً لامعاً في ميدان الإبداع الأدبي والروائي، ويعتبره كثير من النقاد أشهر روائي في تاريخ البحرين الأدبي والثقافي المعاصر، وتميزت كتاباته بعمق الفكر وغزارة الإنتاج، حيث أصدر 33 كتاباً ورواية، وله تحت الطبع 28 كتب أخرى.
وأشتهر عبدالله خليفة بكتابة عموده اليومي «أفق» بصفحة «قضايا وآراء» بـ«أخبار الخليج»، كما تولّى تحرير الملحق الأدبي والثقافي بالجريدة سنوات طويلة..
البحرين تودع عبدالله خليفة.. أشهر روائي في تاريخها الأدبي والثقافي المعاصر
فقدت البحرين واحداً من أبرز وأشهر مبدعيها في عالم الأدب والثقافة وهو الزميل الروائي والناقد والكاتب الصحفي الكبير عبدالله خليفة، الذي اشتهر لدى قراء «أخبار الخليج» بكتابة عموده اليومي «أفق» في صفحة قضايا وآراء فضلا عن توليه مسئولية تحرير الملحق الثقافي والأدبي لسنوات طويلة منذ البدايات الأولى لصدور جريدة «أخبار الخليج».
وقد عمل الأستاذ عبدالله خليفة في بداية عمله الصحفي لسنوات في قسم التحقيقات وتميزت كتاباته بالجرأة ومعالجة قضايا المجتمع الملحة.
وفي مسيرته الأدبية والفكرية، عرف عن عبدالله خليفة الغزارة في الإنتاج والعمق في الكتابة سواء في المجال الروائي، أو مجالات النقد الأدبي والكتابات البحثية في قضايا الفكر العربي والإسلامي، ومناقشة القضايا الإشكالية والخلافية التي تشغل الوعي العربي قديماً وحديثاً.
وقد استطاع الكاتب الراحل الكبير أن ينحت لنفسه مكانة مرموقة في عالم الأدب والرواية، ليس فقط على مستوى البحرين بحيث كان الروائي الأشهر في حياة البحرين الثقافية، ولكن أيضا في طليعة الروائيين البارزين في منطقة الخليج العربي والعالم العربي عموماً، وكان يحظى بتقدير واحترام الأوساط الأدبية والثقافية في معظم العواصم العربية، وكان اسماً مشرفا للبحرين في عالم الإبداع والإنتاج الأدبي والروائي. وخلال سنواته الأخيرة طور عبدالله خليفة مشروعه الفكري والثقافي ليتجه إلى إجراء بحوث في قضايا الفكر العربي والإسلامي بحثاً عن حلول لمشكلات الوعي العربي الحديث وجذور المشكلات في اتجاهات التفكير العربي ونمط تعامل العقل العربي مع هذه المشكلات.
ويقول الشاعر علي الشرقاوي عن حياة عبدالله خليفة: إن مريم أخت الروائي، كانت تعبّد له طريق الحلم، كل إنسان يتأثر في طفولته بشخصية تؤثر فيه، وتمده بفيتامينات الحيوية التي يحتاجها ليواصل تحقيق الحلم الذي يحلم، وعبدالله خليفة، بالإضافة إلى والدته، كانت هناك اخته مريم التي ربما كانت ترى فيه، شخصية مهمة في المستقبل، ومن خلال اللقاءات السريعة مع عيسى خليفة، أخ الروائي عبدالله خليفة، قال: إن لمريم اختنا الكبرى دوراً كبيراً وبارزاً في تكوين شخصية عبدالله، ومثل رحيلها وهي في أولى مراحل شبابها، إحدى الفواجع التي عاشها عبدالله في رحلته الحياتية.
وقد اختارت مجلة «الحياة الثقافية» التي تصدر من تونس عن وزارة الثقافة، تجربة الكاتب عبدالله خليفة ضمن قائمة أهم الروائيين العرب الذين عبروا في كتاباتهم عما اسمته «أدب البحر» من خلال الرواية. وقال الكاتب عبدالله أبو هيف ضمن دراسة نشرها في العدد الأخير للمجلة تحت عنوان «أدب البحر في الرواية العربية» إن «غالبية روايات خليفة توحي بالدلالات الكامنة في التناص مع البحر». وأضاف في هذا السياق «تصور رواياته الصراع الاجتماعي في البحرين، ومنها إشكاليات العلاقات الاجتماعية والإنسانية في المدن والقرى الساحلية».
وقد رأى في سياق الدراسة أن الروايات العربية التي يمكن إدراجها ضمن أدب البحر، قد توزعت إلى نوعين، الأول «عبرت فيه مباشرة عن قضايا الوجود ضمن فضاء البحر في الزمكانية» والثاني «نحت إلى التعبير الدلالي عن المنظورات الفكرية لدى تسمية البحر في العتبات النصية كالعنوانات والمداخلات والمفاتيح».
واتخذ الكاتب من ضمن مسرد طويل ضم عشرات الروايات 12 تجربة منها من تونس ومصر والبحرين لوضعها موضع الفحص والنظر، وقد ضمت إلى جانب رواية خليفة الموسومة «أغنية الماء والنار»، روايات كل من: حنا مينه، جبرا إبراهيم جبرا، صادق النيهوم، محمد عز الدين التازي، محمد صالح الجابري، جميل عطية إبراهيم، حيدر حيدر، محمد جبريل، محمد عزيزة، عبدالواحد براهم، وأخيراً سيد البحراوي.
في سياق ذي صلة، قال بشأن تجربة الكاتب «روايات عبدالله خليفة قصيرة نسبياً، مما يجعلها أقرب إلى تقديم شريحة حياتية مقتطعة من عملية الصراع الاجتماعي». وأضاف في هذا السياق تصور رواية «أغنية الماء والنار»، التباين الطبقي الحاد قبل النفط في الخليج، وتبين المآل المسدود لاندحار الفوارق الاجتماعية، وتنحاز بعد ذلك للكثرة الكاثرة من المساكين والفقراء ومعذبي الأرض».
وتابع أبوهيف «إنها تعبر عن الصراع الاجتماعي على أطراف مدينة في بيئة شعبية، هي قرية أو مدينة صغيرة ساحلية». ورأى أن «الكاتب استطاع أن يقدم في روايته وصفاً مختزلاً للصراع الاجتماعي في قرية بحرينية قبل اكتشاف النفط، وقد نجح إلى حد ما في اكتناه هذا الصراع في سرد شاعري مفعم بالحرارة وحماسة الانتماء إلى مساكين الأرض» وفق تعبيره.
ويقول الناقد فيصل عبدالحسن: إن رواية الينابيع للروائي عبدالله خليفة رواية متشعبة الموضوعات، غنية بالفلكلور البحريني والخليجي، وهي أيضا تنهل من التأريخ السياسي للبحرين، وتقرأ اجتماعيا واقتصاديا التحولات الديموغرافية في البلاد عبر امتلاك الأراضي ووسائل الثروة والسلطة. ابتداء من امتلاك سفن البحث عن اللؤلؤ، في زمن ازدهار هذه التجارة في البحرين ودول الخليج العربي، وحتى أفولها بسبب اللؤلؤ المزيف الذي جاء من اليابان، وانتشر في أسواق الزينة، وأفقد اللؤلؤ الحقيقي سوقه وقيمته الأولى.
وكذلك أرخت الرواية لظهور ثروة النفط والغاز في البحرين، مما مهد لتحولات سياسية واجتماعية مهمة في المجتمع البحريني. أدت بدورها إلى تغييرات اجتماعية جذرية في بنيات المجتمع وطرائق معيشته، ونفسية غيرت سلوكه وتطلعاته نحو العالم ونظرته الى التقدم العلمي، وطبيعة الحياة وتقدمها في المجتمعات الأكثر تطوراً وغنى.

البحرين تودّع عبدالله خليفة.. أحد كبار كتّابها المبدعين

عبدالله خليفة في عيون الأدباء والكتاب في البحرين

فوجئ محبو الأديب والكاتب، القاص و الروائي عبدالله خليفة بنبأ وفاته، وكان السؤال على شفاه كل مثقف إن المبدعين لا يرحلون.
عمر من الإبداع تجاوز اكثر من 40 عاماً عاشه المبدع عبدالله خليفة كاتبا للقصة القصيرة والرواية ومنخرطاً في التحليل السياسي، إنه صاحب مشروع ثقافي رائد وكبير، رحل بعد صراع مع المرض قارب العامين، رحل وهو بمعمر 66 عاماً قضاها في ابداع متواصل.
وقد اثار رحيله حزنا كبيرا لدى محبيه، الذين استطلعنا آراءهم فكانت كالتالي:
يرى الروائي والكاتب السينمائي أمين صالح: إن رحيل عبدالله خليفة يعد خسارة كبيرة، لفقد الساحة الأدبية كاتباً مخلصاً للقصة والرواية في مكانة وثراء عبدالله خليفة الذي انتج طوال خمسة عقود الكثير من القصص والروايات التي لقيت اصداء طيبة ضمن الأوساط النقدية المحلية والعربية.
إنه رحيل مبكر لكاتب لم يكف عن العطاء حتى اللحظة الأخيرة.
الناقد فهد حسن يرى أن بدية علاقته بالمرحوم الكاتب متعدد المشارب بنشيد البحر، ثم توالى التواصل بين ما يكتبه وبيني من دون معرفة شخصية، ولكن مع النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي وفي أثناء إعدادي لبحث عن نجيب محفوظ جاء لقاؤنا الأول في إحدى مقاهي ساحل النادي البحري، وكان معي آنذاك المرحوم عبدعلي الحمالي، ومن تلك اللحظة بدأت العلاقة الأدبية الاجتماعية تنشأ، حتى وصلت إلى طلبه مني النشر في الصفحات الثقافية بجريدة أخبار الخليج، وبالفعل أول من شجعني على ولوج دهليز الكتابة النقدية نشرا هو المرحوم عبدالله خليفة، وقد نشر لي أول مقالة في الملحق كانت عن المكان في قصص رأس العروسة للكاتب محمد عبدالملك.
رحل عبدالله خليفة الانسان والباحث والناقد والروائي والقاص والصحفي، ليترك لنا تركة ضخمة من النتاج واجب علينا على أقل تقدير أن نحفظه قراءة ونقدا وتحليلا.
الدكتورة القاصة والناقدة منيرة الفاضل ترى في رحيل عبدالله خليفة أنها فوجئت بهذا الخبر المحزن، معتبرة رحيل عبدالله خليفة خسارة كبيرة للساحة الثقافية في البحرين، معتبرة ان عبدالله خليفة قد عبر في كتاباته بصدق فاصحا عن آرائه بجرأة الكاتب القوي في مواقفه عاكساً حباً جماً والتصاقاً شديداً بأرض هذا الوطن.
وقد حاول قدر الإمكان أن يرى الخيط الرفيع الفاصل في المتضارب من الأمور بقلبه السخي، متمنية أن يحصل الراحل الباقي على التأبين الرسمي الذي يستحقه وعلينا جميعاً الدفع من أجل تحقيقه.
الكاتب القاص حسن بوحسن يبدي مشاعره في الرحيل قائلاً: مع تسلل أول خيوط شمس يوم الثلاثاء 21 أكتوبر 2014 وما أنتجته من ضوء ودفء وبشارة خير لبداية حياة جديدة واشتعال يوم آخر من الزمن والعمر المتبقي، تماهى إلى سمعنا على حين غرة خبر مفجع ونبأ مؤلم للروح والعقل وللقلب والجسد حتى انتشر بين الأصدقاء والمحبين وبسرعة الضوء معلنا ومؤكدا ترنح قامة السرد البحرينية حيث رحيل الأديب الكبير عبدالله خليفة البوفلاسة.
ولا نملك حقيقة مع كل ما تركه فينا فراقه من حزن ولوعة وفراغ في المساحة التي نستريح عليها معا إلا أن نقول وداعا يا أديبنا الكبير، وداعا يا سيد السرد في آخر يوم لإنسان أحب الناس فأحبوه.
المسرحي والكاتب يوسف الحمدان يقول: لو كان للصديق الكاتب المبدع عبدالله خليفه اسم آخر لكان الكتابة في أبعد وأقصى تجلياتها، لذا سيظل عبدالله خليفة حيا ما ظلت الكتابة، وما ظلت كتبه، إنه في حالة توحد وتماهٍ مع الكتابة في همها وحلمها، فهي أقرب اصدقائه، بل هي قلبه وروحه.
عبدالله خليفة لم يكن الكاتب فحسب، إنما المفكر في كل ما يكتب لذا هو عصي على الكتابة ذاتها ووحدها، لأنه يكتب برأسه. وينقب في بحور الفكر ليعيد صياغتها وقراءتها بفكره.
إن فقدك ايها الصديق الغالي صعب ومرير.. فبرحيلك سيتعذر علينا لوقت ليس بقليل استنهاض المشاكس العنيد في أرواحنا وطاقتنا.. ولكن لنا أسوة فيما كتبت وأبدعت فيه أدبا وفكرا..
ويرى القاص الروائي أحمد المؤذن في رحيل عبدالله خليفة:
ليس هذا وقت الكلام المنمق من على المنصات الخطابية، لكن أبسط ما يمكن أن يقال وسط هذا الحدث الجلل منذ لحظة سماعنا خبر رحيل الروائي والكاتب البحريني، عبدالله خليفة البوفلاسة، لا يسعنا سوى أن نقول: لترقد روحك بسلام يا عبدالله، ها قد رميت كل أوجاعك في مدن النفط، وقد صادقت أهلها وتقاسمت معهم تلك الأفراح المتلاشية وحملت زوادتك تمضي عنا بلا وداع!
لكن عزاءنا فيك أن إبداعك باقٍ.
أما الكاتب بدر عبدالملك فيقول في رحيل عبدالله خليفة: ها أنذا أخسر صديقاً ورفيقاً عزيزاً آخر بعد فقدي لزوجتي في عام مشؤوم 2014.
ويضيف بدر: إن عبدالله كان خصماً ومتراساً ضد الأفكار الظلامية التي شكلت له العدو اللدود الأول في معاركه القلمية، وهو تاريخ ملتزم بحركة التنوير والتقدم وازدهار البحرين.
وفي جانب آخر يقول الكاتب سلمان الحايكي في رحيل عبدالله: لا يمكن أن تحقق الموضوعية في كلمات الرثاء لأنه ليس للرثاء مكاناً تجاه الأدباء والكتاب والشعراء والمبدعين والذين يقدمون الخدمات الإنسانية سواء بالقلم أو العرق أو الجهد وبالتالي يكون الزميل المناضل عبدالله خليفة واحداً من هؤلاء.
المناضل الكاتب عبدالله خليفة الذي اتسع في الكتابة وتوسع فيها بدءا بالطريق الوعر باسم مستعار ونشر العديد من القصص القصيرة في صحيفة الأضواء وعدد من المجلات الدورية والأسبوعية حتى تمكن من إثبات قدراته الفنية الفذة ثم نشر في بعض أرجاء الوطن العربي عامة والمنطقة الخليجية خاصة. كان يركز في كتاباته على الطبقة العاملة.
عانى الراحل التجارب المريرة في حياته وكل ذلك كان جزءًا من أسباب تفوقه في الكتابة الإبداعية والحضور الدائم في المشهد الثقافي العربي لما يمتلكه من إرهاصات وخبرات على أعلى المستويات.
أما الناقد جعفر حسن فيقول في رحيل عبدالله خليفة: ها هو يترك معبده الذي طوى عليه جناحاه منذ بوادر الكتابة الاولى، وترك الكلمات التي صاغ بها عذابات اهل الجزر ليذوب هو ذاته في ترابها إلى الابد، يترجل الفارس ويترك الرواية بعد ان اشبعها عطاء واوقد لها واولم من سهد الكلمات وعذابات البحر والبر، وانتجع صاخبا حادا صوب التاريخ، ليترك التاريخ ويندغم رغما عنا في جغرافيا الذاكرة، وداعا عبدالله.
الناقد زكريا رضي يقول: رحل عبدالله خليفة. هجر شخوصه وأمكنته وارتأى أن يكون خلف النص. أن يحتجب ليقرأ مسرودا ومحكيا بعد أن كان حاكيا وراويا. وطوال تجربته الممتدة به في حقبها وتحولاتها ظل عبدالله خليفة وفيا لعالمه الروائي، ووفيا أيضا لمبانيه المادية العتيدة. وكان بحق راوي الريف -إن جاز لنا التعبير- ولم يشأ أن يفارق عالم الكادحين والبسطاء. ومع معماره الروائي الشاهق الذي شيده روائيا فضلا عن إنتاجه الفكري والبحثي.
مطلوب اليوم أكثر من أي يوم آخر، أن يحتفى بهذا الأديب احتفاء يليق به ويليق بإبداعه، ولا أقل من تخصيص جائزة وطنية كبرى تكون باسمه تحت عنوان (جائزة عبدالله خليفة للإبداع الروائي) واستلهام أعماله مسرحيا ودراميا ولا سيما في أعماله الروائية التاريخية، التي بمعالجة درامية يسيرة وشيء من التعديل يمكن تحويلها إلى دراما تاريخية متكاملة تعكس جانبا من تاريخنا وتراثنا الإسلامي.
الكاتب عبيدلي العبيدلي قال: لا شك أن تغييب الموت لأديبنا الراحل يجرد البحرين من شخصية تموضعت في تاريخ البحرين المعاصر في ثلاث خانات الأولى هي خانة السياسة، حيث شكل الرفيق الراحل مع رفاقه رافدا مهما من روافد الحركة السياسية البحرينية أما الخانة الثانية كونه أديبا، حيث شكل قلم فقيدنا الراحل ثروة أدبية آن الأوان لأن تؤرخ، كي تأخذ مكانها الصحيح على أرفف مكتبة الإبداع البحرينية.
إلى جانب كتاباته الإبداعية والقصصية كان هناك عموده اليومي الذي كان يطل علينا كل صباح من نافذة لا نستطيع إلا أن نراها اليوم مغلقة.
والخانة الثالثة هي عبدالله علي خليفة الإنسان، حيث كان مرهفا في شعوره، رقيقا في علاقاته وهذا ينعكس في كتاباته.
في كلمات مختصرة فقدنا انسانا وسنفتقد قلما.
شوقي العلوي قال: فقدت البحرين وطنا وشعبا ، مناضلا وطنيا صلبا هو الأخ والرفيق المناضل عبدالله خليفة، عرفته رفيقا منذ وقت مبكر كنا نختلف هنا وهناك في السياسة والأيديولوجيا، لكن الوطن كان يجمعنا، نتناقش ونتحاور ونختلف، لكن الوطن بقى جامعنا.
كان مثالا للصلابة في مواقفه الوطنية لا يساوم عليها، عرفته صلبا، ظل مؤمنا بوطنه وبأفكاره، لم تزعزعه مصاعب الحياة وحفرياتها.
ستظل أيها الرفيق حاضرا في عقولنا وقلوبنا وفي تاريخنا الوطني.
ـــ أحد رموز الفكر العقلاني
عبدالله الايوبي

برحيل الزميل الأستاذ عبدالله خليفة فقدت الساحة الأدبية والفكرية في البحرين واحداً من الأقلام التقدمية التي غرست في تربة هذا الوطن على مدى عدة عقود بذور الفكر العقلاني الباحث دوما عن الحقيقة دون أن يتراجع أمام انفلات الظلامية فكان الراحل علما علمانيا سيبقى حاضرا.
ـــ الوحدة الوطنية تجلت في يوم وفاة عبدالله خليفة
عيسى علي خليفة البوفلاسة

تجلت الوحدة الوطنية في يوم وفاة عبدالله خليفة في أسمى معانيها وصورها فقد حضرت لوداعه شخصيات من كل الطوائف والتيارات السياسية، عبدالله كان جامعا لكل هؤلاء ومحل تقديرهم.
ظلت ابداعاته مستمرة حتى آخر يوم في حياته فنحن لدينا من كتاباته المجلد الثالث للاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية وكتاب «الوعي العربي المبكر» وهو مدقق وجاهز ولكنه مازال في الأدراج بالإضافة إلى 10 روايات أخرى لم تنشر بعد.
ـــ تكريم متأخر
إبراهيم بشمي

ربما جاء تكريم الأستاذ الكبير عبدالله علي خليفة من قبل أسرة الأدباء والكتاب والمقرر الشهر المقبل تكريما متأخرا، حيث كان وجوده في البحرين كرجل أخلص للكتابة والفكر، ظل يكتب متواصلا حتى اللحظة الأخيرة في ظل الظروف الفكرية والسياسية بالمنطقة، وهو ما يحمل شجاعة كبيرة. الكلمات في حقه قليلة، أعتقد أنه ترك لنا حجما كبيرا من الأعمال الفكرية والثقافية والسياسية والأدبية مما يدعونا إلى العمل على جمع هذا الإنتاج، وإصداره في مجموعات كاملة. الأخ عبدالله خليفة كانت لديه حياة سياسية ونضالية في تاريخ البحرين المعاصر، يجعلنا نفخر لدوره ومواقفه، ولم يأخذ حقه الحقيقي في توثيق أعماله مع من ساهموا في البناء الفوقي والسياسي والفكري للبحرين، والأن أعطتنا وفاة الأخ عبدالله مؤشرات لضرورة الاهتمام بفئات وعناصر كثيرة ساهمت بهدوء وبصمت في مختلف المجالات، ويجب علينا أن نهتم بهؤلاء وأن نحرص على تكريمهم.
الأخ عبدالله خليفة استطاع خلال الفترة الزمنية أن ينتج مجموعة كبيرة ومتميزة من الأعمال الأدبية التي تستحق أن يعقد حولها ورش عمل ومنتديات فكرية لمناقشة أعماله والاضافات التي أضافها إلى الحياة السياسية والفكرية في البحرين سواء من قبل المعاصرين له أو أسرة الأدباء والكتاب أو وزارة الثقافة وهذا أبسط شيء نعطيه لذكراه.
ـــ دور مشهود في معركة التنوير
السيد زهره

رحم الله الكاتب الكبير والزميل العزيز الأستاذ عبدالله خليفة.. قدّم إسهامات هائلة إلى الثقافة البحرينية والعربية بأعماله الروائية وكتاباته النقدية المتميزة، وبدوره في العمل الوطني. لعب دورا مشهودا في معركة التنوير والتقدم الفكري والسياسي التي تخوضها البحرين والدول العربية. ستبقى أعماله وأفكاره واسهاماته الوطنية مرشدا لأجيال من الوطنيين البحرينيين الحالمين بغد أفضل ووطن أجمل.
ـــ رحيل مثقف مناضل
د. موسى سعيد

مُنيت الساحة الأدبية بخسارة كبيرة برحيل الكاتب والروائي عبدالله خليفة، الذي أغنى المكتبة، ليست البحرينية فقط، بل والعربية، بأعماله الأدبية الرائعة والمتميزة. وشارك بجدارة في تطور العمل الروائي إضافة إلى الدراسات المعمقة في الفكر والثقافة.
عاش الراحل حياة مليئة بالعمل والنضال، ووهب حياته للدفاع عن حقوق الفقراء والعمال والكادحين والذين وجدوا مساحة كبيرة فيما تركه من أثر أدبي كبير.
عرفت الراحل منكبّا دوما على تطوير إمكانياته وقدراته لخدمة القضايا التي وهب لها نفسه، كان قارئاً جيدا، كان لا يترك كتاباً من يده إلا ليغُنْي النقاش في مسألة ما، ويترك هذا ليشجع رفيقاً على تنمية موهبته الفنية.
رحل عبدالله في وقت نحن في أشد الحاجة إلى أمثاله.
ـــ صاحب البوصلة السياسية الصائبة
عبدالمنعم إبراهيم

كان الروائي والكاتب الصحفي عبدالله خليفة دائم الحضور في مسيرتي الصحفية منذ البدايات الأولى لعملنا في «أخبار الخليج» في المبنى القديم وحتى السنوات الأخيرة، وكان عبدالله يتمتع بالحماس للكتابة عن الواقع البحريني اليومي المعاش، وقد تميز بتواصله مع الناس البسطاء واهتمامه بالحديث عن همومهم ومشكلاتهم.
وقد حدثت نقلة نوعية كبيرة في اهتماماته وكتاباته عندما بدأ يكتب عموداً يومياً في «أخبار الخليج» حيث تبلورت في كتاباته ملامح مشروع سياسي وفكري يدعم المشروع الإصلاحي في البلاد، وعبر عن رؤية سياسية وطنية سليمة؛ حيث كان ينتقد الأصوات النشاز بين الكتاب والأقلام التي لم تتعامل بواقعية وعقلانية مع تحولات الواقع السياسي في البحرين.
لقد كان رحمه الله يتمتع ببوصلة سياسية صائبة تعبر عن قضايا الوطن بحس ووعي وطني سليم نأمل أن يكون مثالاً يحتذى لكثيرين من الأدباء والمثقفين في بلادنا، وهو ما لمسناه في كتاباته اليومية في «أخبار الخليج».
له كان انسانا رائعا، نعزي الساحة الأدبية البحرينية والعربية، مات وترك روايات وأعمالا فكرية تتعدى الـ 35 منتجا أدبيا وفكريا، وعلمت أن هناك 10 روايات أخرى مازالت تحت الطبع.
ـــ عفيف قنوع زاهد
عباس هلال

رحم الله عبدالله، ورحم كل مشاعل الحركة الوطنية في البحرين.
كان مناضلا وكاتبا ومثقفا عضويا غزير الثقافة والمعرفة، كان صاحب رأي ومنهج، خرج من معطف تشيخوف وتأثر بلوكاش والحركة الأدبية اليسارية في مصر ولبنان والدول الاشتراكية. كان عفيفا قنوعا زاهدا في مظاهر الحياة الحديثة والشكليات، عزيز النفس قوي الشكيمة والعزيمة، لديه راحة البال وسكينة القلب. رحمه الله.
ـــ فخر للإبداع والثقافة في البحرين
ـــ كاتب ذو مبادئ
محمد خليل

الزميل الراحل عبدالله خليفة مثقف واعٍ يتميز بفكر ثاقب ورؤية شاملة تجسدت بصور صادقة في كتاباته الرصينة الجادة وأعماله الأدبية. وعلى ذلك عاش وفيّاً لما يعتقده من مبادئ، مقدِّما مثالا نادرا للمثقف صاحب الموقف والمتصالح مع نفسه.
ـــ كاتب مشغول برسالته
لطفي نصر

عبدالله خليفة فوق أنه كان صحفيا وأديبا وكاتبا مبدعا.. فقد كان دمث الخلق.. جم الأدب.. خفيض الصوت.. على مسافة واحدة من جميع الزملاء.. مشغول ومهموم برسالته.. لا وقت عنده لآفات العصر.. فلا نميمة.. ولا حقد أو ضغينة.. محبا ومحترما للجميع.. رحمه الله وطيب الله ثراه.
ـــ كاتب نادر بين المثقفين
انور عبدالرحمن

كان الأستاذ عبدالله خليفة من الكتاب القلائل أو ربما الوحيد الذي كان ينتمي إلى المدرسة الفكرية العقلانية، ولم يتغير ولم ينجرف مطلقا نتيجة المتغيرات الأيديولوجية والعقائدية، والتي تسببت في تغيير عقول وتفكير عدد من العقائديين السابقين.
بل نستطيع أن نقول إن الأستاذ عبدالله خليفة كانت له مدرسته الخاصة بحيث كان يقيم الصراعات الفكرية العربية والإسلامية من دون أي انحياز، وفوق هذا كله لم يكن له أي رغبة في تبوّء أي منصب أو كرسي. وهذا شيء نادر بين العقائديين والمثقفين. وبالنسبة إلينا في «أخبار الخليج» كان عبدالله خليفة قلما مفعماً بالفكر والثقافة الانتقائية العالية؛ حيث كان يفيد القارئ ليس فقط بالمعلومات والآراء الفكرية، بل كان يقوم بتشريح خبايا الأفكار التي تلاعبت بالمسرح السياسي في العالم العربي قديماً وحديثاً.
ــــ مثقف يتميز بالمرونة الفكرية
عبدالمالك سالمان

لم يكن الأستاذ عبدالله خليفة كاتباً وروائياً متميزاً في مسيرة الإبداع والأدب البحريني وحسب، ولكن كان أيضاً نموذجاً للباحثين عن محاولة علاج مشكلات العقل العربي منذ مطلع التاريخ الإسلامي وحتى يومنا هذا.
وفي هذا الإطار فقد كانت له رؤاه واجتهاداته الفكرية في محاولة نقد الواقع العربي والبحث عن جذور المشكلات في الوعي العربي، والسعي إلى تقديم رؤى وحلول بهدف دعم حركة التنوير والتقدم الفكري في الوعي العربي المعاصر قد يختلف أو يتفق معها الكثيرون، لكنها تظل اجتهاداً يحظى بالاحترام؛ لأنه حاول الانتصار دوماً لقيم العقلانية والتفكير العلمي الحديث وتنمية القراءة النقدية للواقع العربي والإسلامي.
وبصفتي كنت مسئول مباشراً عن نشر مقالاته اليومية في صفحة «قضايا وآراء» بجريدة «أخبار الخليج» وعمود «أفق» فإنني أشهد له بأنه كان كاتبا ومثقفاً يتميز بالمرونة الفكرية وسعة الأفق، وكان يتفهم باستمرار ظروف النشر، فلم يعترض يوماً على تعديل فقرة أو حذف سطر أو تغيير بضع كلمات في مقال له، أو حتى حجب مقال عن النشر إذا اقتضت الضرورة وكان دائما يقول: أنتم أعلم بظروف النشر مني.
ـــ مدافع عن حرية التعبير
حسين صالح

بين الأفكار التنويرية عاش الراحل عبدالله خليفة مناضلا للدفاع عن حرية الرأي والتعبير، مؤمنا بأفكاره، معبرا عنها من خلال مقاله «أفق» في «أخبار الخليج»، الذي كان بمثابة نافذة ينقلنا فيها الفقيد إلى عالمه الفكري.
ترافقنا سويا لسنوات حيث كنت أتولى إخراج الصفحات الثقافية التي يقدمها، وشاركته في إخراج ملحق ثقافي، واقتربت منه، وعرفت الأستاذ عبدالله خليفة الإنسان الذي ينأى بنفسه عن المظاهر الخارجية، حينما رسمت له العديد من الرسوم التعبيرية لمجموعات قصصية قدمها ضمن انتاجاته الأدبية الغزيرة التي أثرت المكتبة الثقافية البحرينية والخليجية والعربية.

رحيل عَرَّاب الرواية البحرينية عبدالله خليفة
اشتغل على التاريخ والعذاب الإنساني بامتياز


الوسط – جعفر الجمري
22 أكتوبر 2014
غيَّب الموت الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة (مواليد العام 1948)، مُشكِّلاً عبر عقود، تراثاً ونتاجاً متنوعاً في تناولاته، توزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث والتناول النقدي، والتحليل السياسي.
وقد ووري جثمانه الثرى ، بمقبرة المنامة، ليُسدل الستار على حياة «أديب البحر» والباحث التاريخي والمناضل في صفوف الحركة التقدمية الذي يوصف بأنه أحد ألمع الكتاب البحرينيين.
بين قصص «لحن الشتاء» والاتجاهات المثالية… ينابيع وضباب ودهشة ساحر
الأسرة الثقافية في البحرين تودع «أديب البحر» الروائي والباحث عبدالله خليفة
ودعت الأسرة الثقافية والفكرية في مملكة البحرين (21 أكتوبر / تشرين الأول 2014)، بمقبرة المنامة الروائي والباحث عبدالله خليفة إلى مثواه الأخير، ليسدل الستار على حياة «أديب البحر» والباحث التاريخي والمناضل في صفوف الحركة التقدمية الذي يوصف بأنه أحد ألمع الكتاب البحرينيين والعرب الذي أخصلوا لتجربتهم الروائية والفكرية، وبحثه التاريخي ودراساته ونضاله.
نعي ورثاء على وسائل التواصل
وحال انتشار خبر وفاة خليفة صباح (الثلثاء) بدأت عبارات النعي والرثاء على وسائل التواصل الاجتماعي وأولها حساب التغريد (تويتر)، فغرد الكاتب الكويتي أحمد الديين ناقلًا عبارته من حساب الصور (الإنستغرام): «رحيل الرفيق الكاتب والروائي التقدمي البحريني عبدالله خليفة عن دنيانا… هو أحد قادة جبهة التحرير الوطني في منتصف الستينيات والسبعينيات»، كما نشر رئيس تحرير الوسط منصور الجمري خبر الوفاة منقولًا عبر رابط لخبر نشرته صحيفة الوسط (أون لاين)، فيما وصف الكاتب حسن مدن في تغريدته الراحل بأنه الروائي والباحث في قضايا الفكر والمناضل في صفوف الحركة التقدمية البحرينية… لروحه السلام، وتوالت التغريدات الراثية من كتاب وإعلاميين ومثقفين، في الوقت الذي نعى فيه المنبر التقدمي الراحل مذيلًا تغريدة حساب الجمعية بوقت التشييع في مقبرة المنامة والتعازي في جامع أبي بكر الصديق بالحورة ، وكتب عضو المكتب السياسي ورئيس اللجنة الإعلامية في المنبر الديمقراطي التقدمي فاضل الحليبي: «خبر حزين… رحيل الأديب الكبير عبدالله خليفة… رحيله المبكر خسارة كبيرة للحركة الأدبية والإعلامية في البحرين».
ـــ ابن الطبقة الكادحة
وبذل الراحل جهودًا واضحةً في القضايا الفكرية والأدبية اتسم بعضها بدرجة (الحدة) في الأطروحات والآراء لاسيما في البحث التاريخي والفلسفي والقضايا ذات الطابع التراثي والفكري في مراحل الأمة الإسلامية، لكن كل من عرفه، لاسيما منذ فترة الطفولة من أنداده ومنهم الشاعر والأديب علي الشرقاوي، يعرفون أنه ابن الطبقة الكادحة عاش في منطقة (اللينات) بشرق القضيبية في مساحة بيوت العمال التي بُنيت بعد حريق القضيبية الشهر الذي التهم بيوت العريش في العام 1954، وقد ذكر الشرقاوي في مقال بعنوان :» عبدالله خليفة… الروائي المنحاز لمعذبي الأرض» لمحة من تلك الفترة :»عبدالله ابن العامل وابن حي العمال، ابن الطبقة الكادحة وواحد من حي الكادحين، ربما ليس صدفة أن يكون أحد المهمومين بحق الطبقة العاملة أو البرولتاريا، فهو عاش وترعرع على عرق والده وهو يحاول أن يجلب اللقمة الكريمة لأبنائه، وليس صدفة أن يكون أصحابه وأصدقاؤه الذين يلعب «الدامة» معهم هم من حي العمال والذين يعيشون نفس المنطقة ويعانون نفس المعاناة، وإن كان يسكن مع عائلته في بيت من طين، إلا أن هذا البيت أيضاً محاصر بمجموعة من بيوت السعف والأكواخ الخشبية للذين لم يحصلوا مثل غيرهم على بيوت الطين المعدودة بأصابع اليدين والقدمين. من هنا فإذا كانت كتابة عبدالله خليفة عن المعدمين والمسحوقين، فهي تعبير مباشر عن الحياة التي عاشها، وعن أجواء الأحياء الفقيرة التي تشبه الحي الذي كبر بين ملاعبه والبحر القريب منه وبيوت السعف العديدة التي انتقلت من غرب منطقة الحريق إلى شرقها».
ـــ من لحن الشتاء إلى دهشة الساحر
والأديب الروائي المناضل الراحل عضو أسرة الأدباء والكتاب، من مواليد البحرين في العام 1948، ومنذ أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، دخل عالم الكتابة ليتحف المكتبة البحرينية والخليجية والعربية بالعديد من الإصدارات منها المجموعة القصصية الأولى التي صدرت في العام 1975 بعنوان :»لحن الشتاء»، وسطع نجم الراحل عبر إصداراته في حقبة الثمانينيات، فمنذ العام 1981 حتى العام 1988 صدرت له مجموعتان قصصيتان هما «الرمل والياسمين» و»يوم قائض»، وأربع روايات هي: اللآلي، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار .
وتوالت الإصدارات في حقبة التسعينيات برواية «امرأة» في العام 1990 من إصدارات اتحاد الكتاب العرب، وأصدرت دار الحوار في العام 1992 رواية «الضباب»، وبعدها أصدر المركز الثقافي العربي في العام 1994 روايتان هما «سهرة» و «نشيد البحر»، وأصدر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في العام 1996 رواية «الينابيع»، وكان لدار الحوار إصدار لرواية أخرى في العام 1997 هي «دهشة الساحر» وله العديد من الأبحاث والمقالات والمشاركات ومنها الإصدار المهم «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» في العام 2005.
وأخضع العديد من الباحثين والمهتمين والكتاب تجربة الراحل في الكتابة كمحاور أساسية لأبحاثهم ومقالاتهم لما تميزت به من مضامين وأبعاد ثرية في المجالات الاجتماعية والفكرية والمعيشية.
غيَّب الموت الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة، عن عمر ناهز السادسة والستين عاماً (مواليد العام 1948)، مُشكّلاً عبر عقود، تراثاً ونتاجاً متنوعاً في تناولاته، توزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث والتناول النقدي، والتحليل السياسي، وإن ظل وفياً ومثابراً – ضمن خط عريض يمكن الوقوف عليه – على رصد العذابات الإنسانية، وإضاءاته لحال التناقضات التي كثيراً ما تكون الطبقات موضوعها، وهو الأثير عنده، حتى في مشروعه الروائي الذي لم يكتفِ بالجانب التاريخي منه، من دون أن يتجاوزه كنص في «السِيَر»، بل عالجه وتناوله في ما يشبه الحنين الذي تمكّن منه إلى الاشتراكية في بعدها الإنساني والأخلاقي، تلك التي ذوت وانحسرت، بعد حصارها من الرأسمالية المتوحِّشة التي كثيراً ما ندَّد بها وتناولها؛ وخصوصاً في مقالاته التي اشتغل من خلالها على تفكيك وقراءة المجتمع البحريني خصوصاً، والعربي عموماً، وتركيزه على «موضوعات الطبقات».
وبالنظر إلى نتاج ضخم، وعميق في جانب كبير منه، وخصوصاً في جانب الرواية، لا يمكن إلا أن يُنظر إليه باعتباره عرَّاب الرواية البحرينية، وتطور أشكالها ومضامينها وأساليبها على امتداد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
كان هاجس التاريخ مسيطراً عليه، واتضح ذلك في الكثير من أعماله الروائية، ولعل التقاط روايته «الينابيع»، بأجزائها الثلاثة، تقرّبنا إلى محاولاته فهم الحاضر المتحول والمتوتر والمتشنج في البحرين، باللجوء إلى محاولة فهم سياقات التاريخ، عبر أبطاله، وخصوصاً البطل الرئيس في الرواية المذكورة «عوَّاد».
الرواية تلك فيها ما يشبه تتبّع ما يتجاوز القرن من التحولات التي شهدتها البحرين. وبأجزائها الثلاثة التي حمل كل منها عنواناً مستقلاً: «الصوت»، «الماء الأسود»، و «الفيضان»، وما يتبع ذلك من تقسيمات للفصول في كل منها، سيطرت فيها لغة الشعر على الكثير من مساحات السرد.
لا متسع وقت يتيح لنا الإحاطة بذلك الكم من أعمال خليفة، التي امتاز جزء كبير منها بالنوعية في المعالجات، والأساليب المتجدّدة، والسرد الذي يذهب في رتابته حيناً، وسلاسته حيناً آخر.
وفي استحضار ربما لبعض أعماله الأولى، وتحديداً العام 1975، مع مجموعته القصصية «لحن الشتاء»، وصولاً إلى أعمال مثل: «يوم قائظ»، «سهرة»، «سيد الضريح»، «جنون النخيل»، «الرمل والياسمين»، «دهشة الساحر»، وفي الرواية، «نشيد البحر»، «الضباب»، «أغنية الماء والنار»، «الهيرات»، «القرصان والمدينة»، «اللآلئ»، «الأقلف»، «رأس الحسين»، «ساعة ظهور الأرواح»، «محمد ثائراً»، و «ذهب مع النفط»، «عمر بن الخطاب شهيداً»، «عثمان بن عفان شهيداً»، «علي بن أبي طالب شهيداً»، وغيرها من الروايات، سنقف على منحيين، الأول متمثلاً في معالجاته للتاريخ عبر رجالاته، من دون أن ينأى عن اللحظة الراهنة فيما يشبه الإدانة للحاضر، ومتلمّساً ضوءاً ما في نفقه توجّهاً إلى المستقبل.
والثاني، اشتغاله على البحر، ليس باعتباره حيّزاً ومكاناً، بل باعتبار وعاء العذاب والمكابدات والصراع الذي عاشه إنسان هذا الجزء من العالم، وخصوصاً بلده البحرين، ويمكن الوقوف على أكثر من شاهد هنا، عبر قائمة من القصص القصيرة والروايات التي تناولت تلك الثيمة.
لم تنفصل معالجاته لمكابدة الإنسان مع البحر، مع المكابدات التي لها بدايات من دون أن تلوح لها نهايات على اليابسة، ضمن ممارسات استبدادية ووحشية، ترهنه إلى الذين يملكون السطوة والقوة، وهم يمتصون عناءه وثمرة جهده الذي يتم حرمانه منه، مضافاً إليه تكريسه ونفيه إلى ما دون الهامش.
لم يصدر ذلك الانحياز إلى الشقاء والعذاب الإنساني من خلال أبطاله في الروايات والقصص، فقط عن اتكاء وقناعة أيديولوجية ظل وفياً لها، وعمّق فهمه لها بما أصدر من أبحاث ومقالات مطولة، وحتى معالجات نقدية صدرت، بقدر ما تصدر أيضاً عن المعايشة والمعاينة، وإن خفّت وطأة وحشيتها ولكنها لم تنتهِ أو تفقد حيويتها وقناعتها بانتهاء ضغط وثقل ممارستها.
سنجد ذلك أيضاً في رواية «ذهب مع النفط»، بلغتها السردية. بالأنا التي تستثير الضمير لا «الأنا» التي حذّر منها وأشبعها تعرية وهجاء حادّاً. صوت الداخل حين يترع بالمعاناة، يكشفه خليفة، يقوله ويتمثله: «الفردُ الوحيدُ حين يُسحق، يُداسُ كحشرةٍ، ويقاومُ في هذا الوجودِ الممزقِ المتلاشي، يفقدُ رجولتَهُ وأبوتَهُ، هل يزول تماماً؟ هل يبقى فيه عرقٌ ينبضُ؟ بل حين يفقدُ كرامتَهُ، ويبيعُ كلمتَهُ، هل يتلاشى كلياً»؟!
وفي الاتجاه الفكري والفلسفي، كان له حضوره المتميز، جنباً إلى جنب مع مشروعه القصصي والروائي، وكأن كل تجربة تستمد رصانتها وقدرتها على تعميق وإنضاج أدواتها من ذلك التعدد والانفتاح، والانكباب على البحث، وليس ذلك وحده، بل الإضافة إلى ما يبحث فيه ويتحرّاه، في انتظام عجيب، وطاقة لم تعرف الكلل، مع نفَس عميق، ودرْبة تأتَّت له عبر الوفاء لانفتاحه على الفكر الإنساني بكل تبايناته واختلافه والصراعات التي نشأت فيه أو على هامشه. ولعل الشاهد هنا في عمله الضخم بأجزائه الثلاثة «الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية»؛ إذ صدر الجزءان الأول والثاني في 600 صفحة، وفيه يتناول المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، فيما يتناول الجزء الثالث تشكّل الفلسفة العربية عند الكبار ممن مثّلوها في تلك الفترة الزمنية، من الفارابي حتى ابن رشد.
أما اشتغالاته النقدية فلم تخلُ من الجِدَّة والتتبّع والتفكيك، وترسيخ نظر نقدي، في فترات عانت الساحة هنا، والمنطقة عموماً من انحسار، باستثناء الجِدَّة من جانب الأكاديميين هنا، وعلى رأسهم البروفيسور إبراهيم غلوم، والراحل محمد البنكي، والأكاديمي نادر كاظم وآخرين، وربما لسنا بمنأى عن عدد من تلك الدراسات النقدية والفكرية، ومنها: «الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي»، الصادر في العام 2005، و «نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية»، الصادر في العام 2007، و «نماذج روائية من الخليج والجزيرة العربية»، الصادرة في العام 2008.
وعلى تماس مع الموضوعات تلك، وعودة إلى المشروع الروائي، لم تكن رواية «الأقلف»، بمنأى عن طبيعة المعالجات التي عُرف بها واشتغل عليها، في تناولها موضوع التطرف الديني، ومحاولة البحث عن الخلاص، في بيئة/ مجتمع، عالم كثيراً ما ينساق ويركن إلى حياة القطيع!
ربما لزمن طويل، ستحتاج الساحة الثقافية والإبداعية هنا، إلى تذكّر أن القاص والروائي والباحث عبدالله خليفة، ظل وفياً لطاقته وقدراته وتنوعها، مثلما ظل وفياً لعذابات الإنسان الذي انحاز إليه وإلى عذاباته. وإنْ ظلت الإضاءات والقراءات والتناولات النقدية لأعماله شحيحة ويسيرة، وتكاد لا تُذكر – على الأقل في بلده – بات علينا، نحن الذين اعتدنا هنا وفي بقية الأقطار العربية، انتظار موت كبير وناشط وفاعل في حياتنا كي نبدأ درس النعي.
ولا ضيْر في مثل هذا التذكير: للجهات الرسمية خصوصاً، تلك المعنية بالثقافة، استكتاب نقّاد وباحثين يكشفون عن كمّ الجهد الذي بذله الراحل في صمت، ومداومته على نشر أعماله أولاً بأول، قراءة وتحليلاً وتناولاً منهجياً لتلك الأعمال، والعمل على نشر ما لم يتمكن من دفعه إلى المطابع ودور النشر التي احتفت به في أكثر من بقعة وبلد، من مصر إلى الجزائر، وغيرها من البلدان العربية.
لاشك أن رحيله يشكّل خسارة كبيرة، وفراغاً أكبر، يمكن تدارك شيء منه بالتصدّي لنشر مشروعات لديه أتم بعضاً منها، لاشك أنه وضعها على قائمة التأجيل.

البحرين توّدع عبدالله خليفة قبل «لحن الشتاء»

الأيام – سكينة الطواش
22 أكتوبر 2014
لم يمهل الأجل الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة من أن يشهد «لحن الشتاء» لهذا العام والذي هو عنوان أول كتبه، فرحل عن هذه الدنيا بعد أزمة صحّية ألمت به وسط ذهول وصدمة من قبل الشارع الادبي والثقافي البحريني، رحل العملاق الروائي قبل ان تحتفي به «أسرته» أسرة الأدباء والكتّاب حيث كان من المقرر أن يتم الاحتفاء به في شهر ديسمبر 2014 . بالإضافة لطرح روايته الأخيرة «خليج الأرواح الضائعة»، ولكن لم يمهله الأجل حتى تلك اللحظة. عبدالله خليفة ترك برحيله فراغا كبيرا في قلب الصحافة البحرينية وفي الروح التجديدية للرواية البحرينية. «الأيام» التقت مجموعة من الكتّاب والأدباء البحرينيين الذين عاصروا الكاتب الراحل فتحدثوا عن تجربته وأثرها في المشهد الثقافي البحريني. تحدث رئيس أسرة الأدباء والكتّاب ابراهيم بن هندي عن الراحل فقال «الاستاذ عبدالله خليفة خسارة كبيرة على مستوى المشهد الثقافي بشكل عام والادبي بشكل خاص وذلك على مستوى النقد والفكر الثقافي وعلى مستوى الابداع الروائي، فنحن في أسرة الأدباء والكتّاب حظينا بكثير من العطاء من قبل الراحل على المستوى الاداري والعمل الثقافي، فكان دائما موجودا في الأوقات التي نحتاجه، فكان يتحمل أي مسؤولية توكل إليه سواء في تحرير بعض الأعداد لمجلة «كلمات». وأضاف »إن غيابه بالنسبة لنا يعد خسارة كبيرة جدا، خاصة أنه في المرحلة الأخيرة تنوع في عطائه على مستوى الابداع الادبي والفكري، كما أن له كماً كبيراً من الانتاج الفكري والادبي ولم يأخذ حقه من النقد، فأرجو تسليط الضوء على هذه التجربة الغزيرة التي تمثل أحد اعمدة المشهد الادبي في البحرين. وعبر الكاتب البحريني د. محمد الخزاعي عن تفاجئه بوفاة القاص والاديب عبدالله علي خليفة فقال «عرفت الراحل منذ أن كان طالبا في معهد المعلمين، ولم تكن مواهبه الأدبية قد برزت حينها، ولكنه عندما خاض تجربة العمل كصحفي في صحيفة اخبار الخليج بدأت تلك المواهب بالظهور من خلال كتاباته الصحفية المتّزنة والرزينة والجادة، أما عن نتاجه الادبية فقد كتب عدّة روايات يمكن أن تعتبر ظاهرة في البحرين وعلماً من اعلام الرواية، وخاصة في ما يتعلق عن كتاباته الروائية التاريخية، حيث كتب عن جميع الخلفاء الراشدين روايات أدبية جميلة تذكرنا بعباس العقاد الى حد ما، له توجهات فكرية واضحة جدا التي قد لا تتوافر في الكثير من الكتّاب».

أما الكاتب والمؤرخ البحريني منصور سرحان فتطرق إلى نبذة عن حياة الراحل من ناحية تاريخية وقال «يعد الراحل عبدالله خليفة أحد كبار كتابة الرواية في البحرين وهو باحث معروف وصاحب مشروع فكري تمثل في عنوان «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية»، حيث قام بقراءة جديدة للوعي الديني والفكري في المنطقة العربية، بالإضافة إلى ذلك فهو قاص وقد كتب العديد من القصص القصيرة الهادفة، وكتب الكثير من المقالات والدراسات التي نشرت في الصحف العربية والمحلية، وانتشرت مقالاته في شتى المواقع العربية وقد تميز بعموده «أفق» الذي يكتبه في جريدة أخبار الخليج حيث تدل مقالاته على فكر متنور محاولا نشر ثقافة التسامح في معظم مقالاته. وأضاف «والراحل عضو فاعل في اتحاد كتّاب العرب وشارك في العديد من الندوات المتعلقة بالقصة والرواية، وحصد بعض الجوائز عن بعض أعماله الادبية، وقد بلغ مجموع الكتب التي ألفّها من قصة ورواية وفكر وفلسلفة زهاء تسع وعشرين عنوان كتاب كان أولها «لحن الشتاء» الصادر عن 1975 واخرها رواية بعنوان «عنترة يعود إلى الجزيرة» التي نشرها عام 2011 وبهذا نقول بفقده خسرت البحرين احد ابنائها البررة وكتابها الكبار».

أدباء وكتاب خليجيون وعرب عبروا عن حزنهم البالغ لرحيل الباحث والروائي عبد الله خليفة..

الأيام 25-10-2014
لم نكن نتوقع أن يمر خبر رحيل الكاتب والروائي عبدالله خليفة بكل هذا الهدوء والبرود، لا نعرف كيف نصف ما حدث، لكن الذي نعرفه جيداً، بأن كثير من المثقفين والأدباء كانت مشاعرهم باردة حد قسوة الصقيع إلا البعض، اعتذر بعضهم و راغ البعض الآخر، ربما اعتدنا الموت، وربما هي القسوة، التي لا تفرق بين الإختلاف في المواقف و الرؤى ووجهات النظر الثقافية وحتى السياسي منها والإجتماعي، وبين القيمة الإنسانية المدفونة تحت طبقة سميكة في دواخلنا، لتجعلنا عدائيين بشكل يجب علينا أن نرثي فيه أنفسنا. تنقل الروائي خليفة هنا وهناك، متمترساً بشجاعة المقاتل العنيد، كان وحدة في مجابهة مرض لعين هو «السرطان» أدرك بأنه لن يربح معركته مع المرض، لكنه أدرك أيضاً بأن الكتابة وحدها بإمكانها أن تحرره من الوجع، لهذا كانت صديقه الأخير. فهو الروائي الوحيد، الذي لم يحظى من رفقاء الدرب والأدب بدموع وفيرة، ولا حتى «بنعي» من بضع كلمات يليق بإرثه الكتابي والإبداعي من قبل الكيانات والمؤسسات الثقافية في الداخل البحريني، فقد أكتفت أسرة الأدباء والكتاب بمسج يخبر بالوفاة، في الوقت الذي أصدر فيه اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بيان نعي للروائي خليفة، متحدثاً عن تلك الخسارة التي تكبدها الأدب البحريني والخليجي والعربي، بفقد واحداً من رموزه الكبيرة في مجال البحث والدراسة والكتابة الإبداعية قصةً وروايةً، مخلفاً وراءه إرثاً مهماً ساعد في لفت الأنظار إلى التجربة الأدبية في منطقة الخليج، ووضعها في صلب التجربة الأدبية العربية. وأضاف البيان إن أدباء وكتاب الإمارات يشعرون ببالغ الأسى لرحيل شخص عرفوه عن قرب، وعرفوا مناقبه الشخصية، إلى جانب كتاباته البحثية والإبداعية، فقد كان للراحل مساهماته الكثيرة في الساحة الثقافية الإماراتية، وحل ضيفاً على اتحاد الكتاب في غير مناسبة، وترك أثراً طيباً في النفوس. ليتوجهوا ببرقية تعزية إلى رئيس مجلس إدارة أسرة أدباء البحرين عبروا فيها باسم أعضاء الاتحاد جميعاً عن حزنهم البالغ لرحيل الباحث والروائي الكبير عبد الله خليفة، داعين للفقيد بالرحمة، ولأهله بالصبر الجميل. على أثر ذلك البيان وبحسب مصدر خاص برؤى، تحدث أحد المسرحيين لرئيس مجلس إدارة أسرة الأدباء، لافتاً أيه للموقف البارد اتجاه رحيل الروائي خليفة، ولضرورة الاستعجال في أصدر بيان تنعى من خلاله أسرة الأدباء والكتاب والمؤسسات الثقافية الأهلية فقيدها، فكان الرد: أنت أقترحت لتقم بالأمر، متناسياً – يقول المصدر – أن الروائي خليفة أحد أعضاء الأدباء والكتاب، لهذا قرر هذا المسرحي بعد التشاور مع اللجنة العليا لمهرجان الصواري العاشر للشباب، أن يسجلوا بيان النعي بطريقتهم، من خلال وقفة حدادا على روح الروائي خليفة. وبين بيان النعي ووقفة الحداد، رأى قسم آخر بأن تصريح الشاعر إبراهيم بو هندي للأيام، عن الراحل وخسارة المشهد الثقافي له، كان بمثابة البيان وهذا يكفي، كما إنه أشار في تصريحه لأكثر من بيان النعي وهو الاحتفاء المقرر عقده في ديسمبر المقبل، بتجربة الروائي عبدالله، احتفاء مقرر له أن يستقطب عدد كبير من الباحثين والنقاد للحديث عن تجربة خليفة، إلى جانب حفل تدشين روايته التي لم تنشر بعد والتي هي بعنوان «خليج الأرواح الضائعة»، ولكن غيابه سيدفعنا – والكلام هنا لرئيس الادباء – ان نواصل في مشروع الاحتفاء به وكنا نتمنى ان يتواجد في هذا الحفل ولكن هذا ما شاءه الله.

نقاد وروائيون: عبدالله خليفة الأب الروحي للرواية البحرينية
طالبوا بجائزة باسمه أسوة بجوائز الأدباء العرب

الوطن كتب – جعفر الديري: 22 أكتوبر 2014

ليس الأمر خطباً جللاً وحسب؛ بل ألماً لا يطاق، وحسرة لن تريم عن قلوب الكثيرين من عشاق قلمه. عبدالله خليفة.. فارس الرواية البحرينية وناقدها، يترجل، بعد تاريخ مضيء مشرق، عاش فيه مثالاً للمثقف الكبير، ذي الرأي الحر، والفكر المستنير.
عاش عبدالله خليفة مثالاً لوحده في عنفوان المبدع وشدة اعتزازه بنفسه. لم يترك شيئاً وراءه سوى ما كتب. عاش عاكفاً على مشروعه الأدبي والنقدي، هازئاً بالمتزلفين ومدعي الثقافة، رافعاً رأسه عالياً وسط مهطعي الرؤوس، مولياً شطره ناحية الخلود!.
تعتبر تجربة الراحل عبدالله خليفة علامة فارقة في مجمل حركة إنتاج الرواية خليجياً وعربياً، وبحسب نقاد وروائيين بحرينيين، استطلعت «الوطن» آراءهم، فإن ميراث «الأب الروحي للرواية البحرينية»، جزء من ذاكرة الوطن الثقافية علينا أن نحافظ عليه.
ويرى النقاد والروائيون أن عبدالله خليفة ذاكرة تسجيلية حمل هم الأرض والوطن والبسطاء، وانتهج الأسلوب الواقعي ولم يجنح للفانتازيا أو الإغراق في الخيال، وتجربته مجال خصب لم يكتشف بعد على صعيد الدراسات النقدية، حيث تميزت أعماله بالجهود الفكرية والبحوث التاريخية والفلسفية.
يقول الروائي عبدالعزيز الموسوي: شخصياً لم أتقاطع مع الكاتب والباحث والروائي إلا مؤخراً رغم معرفتي به من خلال المقالات بشكل خاص وكتاباته في الجانب السردي بشكل عام. حصل ذلك في مسابقة متكأ المفتوحة للقصة القصيرة «درع قاص البحرين الأول» حيث حرص المرحوم على المشاركة في المسابقة وكانت هذه المشاركة ذات دلالات كبيرة، أهمها أن عبدالله خليفة وبكل هذا الثراء الفكري والقامة التي لم يبرزها أحد سوى جهده ومثابرته كان إنساناً متواضعاً يحرص على دعم الكوادر التطوعية وما كانت مشاركته إلا تشجيعاً للقائمين قبل أن تكون تشجيعاً وتحفيزاً للمشاركين.
ويضيف: لا أجد تقديراً أكبر لهذا المجتهد من أن تعمل وزارة الثقافة على تجميع كل نتاجه الأدبي والفكري. وسيكون من العرفان لكاتب الرواية البحرينية الأكثر إنتاجاً أن تخصص جائزة باسمه للأعمال السردية المتميزة تخليداً لذكراه وتقديراً لمشواره الحافل. وحسبنا أن الكلمة باقية وتُبقي صاحبها أبداً. وأود وبصدق أن أعزّي أهل وذوي الراحل لعظيم فقدهم وأسأل الله أن يلهمهم الصبر والسلوان ويتقبل فقيدهم بواسع رحمته وجميل مغفرته.
ـــ خسارة وأية خسارة
ويرى الروائي أحمد المؤذن أن رحيل قامة كبيرة مثل عبد الله خليفة خسارة واضحة للساحة الثقافية المحلية والعربية، والخوف أن ننفعل بشحنات عاطفية وقتية و ندبج الكلمات والاحتفالات التأبينية وبعدها ننسى الرجل وكأنه لم يكن ؟! هناك دول تبجل كتابها وتطلق أسماءهم على الميادين والمكتبات والمراكز الثقافية، أما نحن العرب فلنا وضع مختلف، حيث تصير ذاكرتنا الثقافية مليئة بثقوب النسيان ولا ننصف مثقفينا !!….
ويضيف: إن عبد الله خليفة اسم لامع ومن الصعب نسيانه لكونه قامة أدبية أسهمت في رفع اسم البحرين وغنى ساحتها الثقافية، عتبي فقط على الجهات الثقافية في البحرين، قصرت في تقدير عطاء الراحل وهو في الفترة الأخيرة كما كثير من الكتاب، يختار العزلة ويبتعد عن الأضواء، لكنه متوقد العطاء وغزير الإنتاج ولا يضاهيه أحد في ذلك، لذا أرى أن الساحة الثقافية في البحرين مطالبة بتخليد ذكرى عبد الله خليفة ، وأجد أنه من الممكن أن يطلق اسمه على مكتبة عامة أو تطلق باسمه جائزة في السرد أو الرواية، هذا أبسط ما يمكن أن نقدمه.
ويتابع المؤذن: قرأت العديد من إصداراته، ساعة ظهور الأرواح، القرصان والمدينة، جنون النخيل و هناك كتب أخرى أجلت قراءتها.
لقد كتب الراحل في العديد من المجالات وقدم الكثير في المجال الصحافي، استمتعت بتذوق أدبه وأعتبر نفسي تلميذاً عند عبد الله خليفة، حينما كان يوجهني في الكتابة القصصية ويهديني كتبه. سنفتقده كثيراً، ولكن أدبه سيبقى كميراث قيم علينا أن نحافظ عليه لكونه جزءاً من ذاكرة الوطن الثقافية.
ـــ علامة فارقة
أما الناقد زكريا رضي، فيعد رحيل الروائي عبدالله خليفة خسارة لا تعوض للجسم الأدبي البحريني ، وهو ذاكرة تسجيلية وطنية حمل هم الأرض والوطن والبسطاء من الناس وبقي وفياً لمنهجه سواء على صعيد البحث أم على صعيد الرواية حيث انتهج الأسلوب الواقعي في الرواية ولم يجنح للفانتازيا أو الإغراق في الخيال كما لم يجنح للغرابة والغموض ولذلك قلت إنه بحق راو بذاكرة تسجيلية تقترب من حياة البسطاء، من الناس كما تقترب من التحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها الخليج العربي والبحرين إبان الطفرة النفطية.
ويضيف رضي: إن عبدالله خليفة علامة فارقة في تاريخ الرواية البحرينية وفي مجمل حركة إنتاج الرواية على الصعيد الخليجي والعربي، وأشعر أن هذا الروائي ظلم ولم يعط حقه من الحضور الإقليمي والعربي ولم ينصف حتى على مستوى الجوائز الأدبية الإقليمية والعربية وتجربته مجال خصب لم يكتشف بعد على صعيد الدراسات النقدية مع وجود جهود بحثية بحرينية اشتغلت على عالم عبدالله خليفة وحاولت سبره واكتشافه.
ويطالب رضي كجزء من إعادة اكتشاف هذا الأديب أن تخصص جائزة أدبية باسمه أسوة بجوائز الأدباء العرب ولا أقل من جائزة تعنون باسمه تكون في الإبداع الروائي والنقدي، وتضمين قصص هذا الأديب مناهجنا التعليمية للغة العربية لكي يتعرف الطلبة على تاريخ أدباء البحرين وتجاربهم، ولكي تتصل ذاكرة الأجيال بالذاكرة الوطنية للكتاب والأدباء البحرينيين وهذا أقل ما يمكن. كما أطلب من كتاب السيناريو والدراما البحرينيين المحترفين الاشتغال على قصص وروايات عبدالله خليفة وتحويلها درامياً أو مسرحتها لما تزخر به أعماله الأدبية من روح وطنية وبنكهة بحرينية أصيلة.
ويضيف رضي: شخصياً شدتني تجربة الروائي عبدالله خليفة في الرواية التاريخية والتي أصدر منها راس الحسين ومحمد ثائراً وعمر بن الخطاب شهيداً وكذلك عثمان بن عفان شهيداً وعلي بن أبي طالب شهيداً.
إن هذا المشروع لوحده في كتابة الرواية التاريخية يعد نقلة نوعية في تجربة عبدالله خليفة حاول من خلالها استلهام التراث واستنطاقه من خلال الرواية ومع ما رافق هذه الأعمال الروائية من مشكلات إلا أن كلامنا في الكتابة الإبداعية ذاتها بمعزل عن مرجعيتها الأيديولجية وأتمنى أن تتاح الفرصة للباحثين المتخصصين لقراءة هذه الأعمال ونقدها…. عزائي أولاً وأخيراً لوطني البحرين وعزائي ثانياً للمبدعين والكتاب البحرينيين بهذا الفقد الأليم لكاتب لم يتوقف حبره إلا بموته.
ـــ الفخر لنا
ويرى الروائي رسول درويش، أنه إذا كانت بعض الدول تتغنى بأهراماتها الأدبية التي تعتبرها مرجعاً أدبياً شامخاً، فإننا لا شك نفخر ونعتز بالأب الروحي للرواية البحرينية الراحل عبدالله خليفة، فبالإضافة إلى عطاءاته الأدبية المتنوعة فإنه أبدع في شتى مجالاتها، تميّز الراحل في الأدب الروائي فكانت اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، الماء والنار وغيرها، كانت اللّبنات الأساسية في الرواية البحرينية، وجاءت القصة في سياق متوازٍ لتعبر عن الحس الأدبي الذي يحمله الراحل، أبدع قلمُه حين كتب الشتاء، الرمل والياسمين، قائظ … وغيرها، لذلك كله، فإنّ ما خلّفه الراحل من أدبٍ سيبقيه طويلاً في الذاكرة ولن تستطيع رياح الزمن أن تمحو ذكره.
ويقترح درويش على وزارة الثقافة أن تُخلد ذكره بإقامة مسابقة في الرواية العربية تحمل اسمه، سواء كانت للرواية البحرينية أو العربية، وكذلك يمكن لفعالية «كلنا نقرأ» السنوية والمنبثقة عن وزارة الثقافة، يمكنها أن تضع الراحل ضمن جدول أعمالها على غرار أمسية د. غازي القصيبي التي أقيمت قبل بضعة أسابيع.
وفيما يخص أعمال عبدالله خليفة فإنها تميزت عن سواها بالجهود الفكرية والبحوث التاريخية والفلسفية، التي قام بتحليلها وإسقاطها على الواقع المعيش، لذلك كله تجد أن أعماله تركز في المعدمين والمهمشين وهي البيئة التي تربى الراحل فيها، ولا ننسى تأثره بالبحر وصراعاته الاجتماعية في البحرين خصوصاً قبل ثورة النفط، وتعتبر رواية الينابيع (1996) واحدة من أروع ما كتب الراحل.

رحيل “عبدالله خليفة” أحد أهم الكتاب المخلصين لتجربتهم الفكرية

البـــلاد
22 أكتوبر 2014
خسرت البحرين علامة مضيئة من علامات الفكر والثقافة برحيل الكاتب عبدالله خليفة الذي يعتبر من أهم الكتّاب والمفكرين والروائيين البحرينيين من خلال أعوام قدم فيها أفكاره وأطروحاته عبر كتاباته الأدبية في مؤلفاته سواء رواياته أو قصصه القصيرة أو دراساته النقدية أو عموده الصحافي اليومي.
استطاع الراحل أن يقدم لنا أعمالاً مهمة، تحتاج إلى القراءة المتأنية، والبحث الجاد، سواء في الروايات التي كتبها، التاريخية منها، أو تلك التي تتكلم عن الحداثة الاجتماعية والتاريخ الحديث، أو تلك الدراسات الفكرية التي يساهم عبرها في رفد الفكر الحديث، وأثرى ثقافيا ووطنيا ليس فقط المكتبة البحرينية وإنما المكتبة العربية برمتها بأعماله كافة بالرغم من الاعتراضات!
للمفكر مؤلفات كثيرة، منها مجموعة قصص قصيرة: لحن الشتاء والرمل والياسمين، يوم قائض، دهشة الساحر، جنون النخيل، وسيد الضريح، ومجموعة من الروايات: اللآلئ والقرصان، المدينة والهيرات، وأغنية الماء والنار، والضباب ونشيد البحر والينابيع والأقلف وساعة ظهور الأشباح ورأس الحسين، وله من الدراسات النقدية الفكرية والأدبية مثل: الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي.. والاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية والإسلامية (أربعة أجزاء) ونجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية وغيرها.
موضوع الرواية في الخليج موضوع كبير، في رأي عبدالله خليفة، الذي سبق أن نشر دراستين عن هذه الرواية: الرواية بين الكويت والإمارات، والرواية الخليجية بين التبلور والتفكك. في هاتين الدراستين يمسح التجارب خلال العقود الأولى منذ الستينات. ويطرح أسباباً عدة تجعل الرواية نوعاً لم يتجذر في الأرض بعد”.
ومن هذه الأسباب: ضعف الفئات الوسطى والبيئة الحاضنة للحداثة، وضعف حضور المنتجين، وبدائية الوعي، والهزال الأدبي للصحافة وغيرها. لهذا، فإن اتصال الرواية الخليجية بالجذور العميقة للواقع لا تزال في تصوره، في حاجة إلى وقت موضوعي. ويشير إلى أن تحديات الرواية في الخليج تكمن “في تحليل الواقع بجرأة وتعرية التناقضات الاجتماعية العميقة، ومنع العربة الخليجية من الانزلاق نحو الهاوية”.

كاتب العمال وحكايا الغواصين يترجل: الموت يخطف الروائي عبدالله خليفة

مرآة البحرين (خاص): كتب: احمد البوسطة
توفي (الاثنين 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2014) الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة، بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر ناهز الـ 66 عاما، أصدر خلالها أكثر من 55 مؤلفا ما بين قصة ورواية.
ولد في العام 1948 في القضيبية بالعاصمة المنامة، ودرس في مدرستها الابتدائية، بعدها درس في مدرسة الحورة وهناك برز خليفة كناشط طلابي مهتم بالقضايا الوطنية.
قاد في مارس/ آذار 1965 مع مجموعة من رفاقه انتفاضة مارس التي شقت طريقها نحو مدرسة المنامة الثانوية للبنين، وخرجت أمواج بشرية تندد بسياسات الاستعمار البريطاني في البحرين، قبل أن تعتدي عليهم قوات المرتزقة.
في العام 1966 تعرف خليفة على مجموعة في جبهة التحرير البحرانية، وانضم بعد نقاشات واسعة إلى خلايا تنتمي إلى منطقة القضيبية والحورة ورأس الرمان والفاضل والعوضية.
بدأت السلطات في العام نفسه وحتى العام 1968 أكبر هجمة أمنية على خلايا الجبهة وكوادرها، ومنها صعد إلى اللجنة القيادية للجبهة البحرانية وكان طالبا في الثانوية ثم في معهد المعلمين.
في العام 1975، وبعد سنوات من التحاقه بسلك التعليم كتب عبدالله خليفة في تحقيق لأحد الصحافيين عن مساوئ التعليم، وأطلق على التعليم في البحرين مصطلح “التعليم الاستعماري”.
كانت الحكومة تفتعل المزيد من الأزمات السياسية والاجتماعية لحل البرلمان، فطلبت من خليفة ورفاقه الاعتذار عن ما جاء على لسانهم، الأمر الذي رفضوه ما دفعها لإقالتهم جميعا.
قبل أن يعرف بنفسه على مستوى الكتابة، نشر خليفة العديد من المقالات والقصص القصيرة بأسماء مستعارة، وفي ذات السنة(1975) التي تم فصله فيها من التدريس غادر إلى الجزائر للمشاركة في مؤتمر الأدباء والكتاب العرب.
اعتقلته السلطات بعد عودته من الجزائر، وبعد أن قامت بمداهمة منزله والعبث بمحتوياته عمدت إلى حرق مكتبته المكونة من نحو 3 آلاف كتاب أمام عينه، وتم سجنه لست سنوات قضاها بين عسكر وجو وجزيرة جدة.
كان أحد المؤسسين لأسرة الأدباء، وبقي يميل إلى الحراك الثقافي والأدبي والكتابة بعد الإفراج عنه في العام 1981، وبعد أن تحول النظام لملاحقة الإسلاميين الشيعة بعد الثورة الإسلامية في إيران.
على الرغم من موقفه المعارض لثورة 14 فبراير إلا أن خليفة احتفظ بانتقادتها الحادة ، وقد منعته أخبار الخليج يونيو/ حزيران 2014 من الكتابة قبل أن يعاود بعد أسبوعين بسبب مقال هاجم فيه العائلة الحاكمة.
وقال خليفة في المقال الذي منعته أخبار الخليج من النشر “البحرين متصدعة بين دولة القبيلة ودولة الناس المقموعة”.

تعزية الجبهة بوفاة المناضل عبدالله خليفة


تنعي “الجبهة” المناضل اليساري التقدمي والكاتب والروائي الكبير الرفيق الجبهوي “عبدالله خليفة” ، الذي وافاه الأجل المحتوم صباح هذا اليوم ، الثلاثاء 21 أكتوبر / تشرين الأول 2014 ، بعد صراع مع المرض ، عن عمر 66 عاما تعزي الجبهة ، بكثير من الحزن والأسى، أخيه وأهله ورفاقه وأصدقائه وقرائه
لهم جميع ولنا الصبر والسلوان
وللرفيق الراحل المجد والخلود
جبهة التحرير الوطني – البحرين
المنامة / البحرين

الأديب البحريني عبد الله خليفة.. في ذمة الله
اتحاد الكتاب العرب في سورية

غيَّب الموت الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة الذي شكل عبر عقود، تراثاً ونتاجاً متنوعاً في تناولاته، توزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث والتناول النقدي، والتحليل السياسي، وبذلك يُسدل الستار على حياة «أديب البحر» والباحث التاريخي والمناضل في صفوف الحركة التقدمية الذي يوصف بأنه أحد ألمع الكتاب البحرينيين.
وتفقد الساحة الإبداعية الخليجية والعربية، بوفاة عبدالله خليفة، إحدى القامات الأدبية الهامة، فالكاتب الراحل طويل الباع ومتميز العطاء في عوالم الرواية والكتابة، وأمد المكتبة العربية، خلال سنوات عطائه الدؤوب، بمؤلفات مهمة، كما تميز بمسيرة حياته اللافتة. فهو لم يستسلم للصعاب والعقبات، وبقي دائما نصير الأدب والفكر.
وينحدر الأديب الراحل من أسرة بسيطة في العاصمة المنامة، التي ولد فيها عام 1948 .
لم يتخلف عبدالله خليفة، في مراحل لاحقة من حياته، عن الانضواء في الحراك المناهض للاستعمار في بلاده، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتابع هذا جنباً إلى جنب مع إبداعه في مجال الفكر.
نال عبدالله خليفة جوائز عديدة منها: جائزة أسرة الأدباء والكتاب للقصة القصيرة. وقد بلغ مجموع الكتب التي ألفّها من قصة ورواية وفكر وفلسفة زهاء 29 عنواناً كان أولها (لحن الشتاء) الصادر عام 1975 وآخرها رواية بعنوان (عنترة يعود إلى الجزيرة) عام 2011 وبهذا تكون بفقده قد خسرت البحرين احد أبنائها البررة وكتابها الكبار.
يتقدم رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية وأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد بالتعزية لأسرة الفقيد ولأسرة الأدباء في البحرين، ويعبرون عن حزنهم البالغ لرحيل الفقيد الكبير، داعين له بالرحمة والمغفرة ولأهله بالصبر الجميل.

الروائي البحريني عبدالله خليفة يترجل بعد مسيرة حافلة بالعطاء

أبوظبي في 21 أكتوبر /وام/ غيب الموت، الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة، بعد صراع طويل مع المرض. إذ شيع بعد العصر إلى مثواه الأخير، في مقبرة المنامة
وتفقد الساحة الإبداعية الخليجية والعربية، بوفاة عبدالله خليفة، إحدى القامات المهمة في هذا الحقل. فالكاتب الراحل طويل الباع ومتميز العطاء في عوالم الرواية والكتابة، وأمد المكتبة العربية، خلال سنوات عطائه الدؤوب، بمؤلفات مهمة. كما تميز بمسيرة حياته اللافتة. فهو لم يستسلم للصعاب والعقبات، وبقي دائما نصير الأدب والفكر.
كان عبدالله خليفة في الفترة الأخيرة، مواظباً على الكتابة الصحافية.
وقدم روايات وقصصاً عديدة بينها: الضباب والينابيع، في صحيفة «أخبار الخليج». وينحدر الأديب الراحل من أسرة بسيطة في منطقة «القضيبية» في العاصمة المنامة، حيث ولد هناك في العام 1948. وكان والده يعمل في شركة بابكو للنفط.
إذ بدأ خليفة حياته في مدرسة القضيبية الابتدائية. وعرف عنه في البداية، عدم حبه للدراسة. ولكن إصرار والده لعب دورا كبيرا في جعله ينتظم، ويداوم في تلقي العلم. فراح يتفوق. واتجه إلى قراءة الكتب بتوجيه من زملائه الطلبة المتفوقين.
ـــ إبداع متنوع
لم يتخلف عبدالله خليفة، في مراحل لاحقة من حياته، عن الانضواء في الحراك المناهض للاستعمار في بلاده، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتابع هذا جنبا الى جنب مع إبداعه في مجال الفكر. كذلك فإنه واكب عطاءاته وأعماله كافة، بكتابات بالصحف.
ونال جوائز عديدة، بينها: جائزة أسرة الأدباء والكتاب للقصة القصيرة. وهو ما دعاه، وعقب ان كان يكتب بأسماء مستعارة، إلى تكريس نفسه في الساحة الإعلامية والأدبية، باسمه الحقيقي، إضافة إلى ذلك كان يكتب مقالات ودراسات سياسية واجتماعية عن تاريخ البحرين وتطور القصة القصيرة.
وداوم الأديب الراحل على المشاركة في الفعاليات الثقافية والفكرية العربية، كلما سنحت له الفرصة. وكان قد حضر فعاليات مؤتمر الأدباء والكتاب العرب في الجزائر عام 1975، والتقى هناك شخصيات بارزة، مثل الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين.
ـــ رمز كبير
نعى اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الروائي والكاتب البحريني عبد الله خليفة، وقال الاتحاد في بيان له: «خسر الأدب البحريني والخليجي والعربي واحدا من رموزه الكبيرة في مجال البحث والدراسة والكتابة الإبداعية، قصة ورواية، مخلفاً وراءه إرثاً مهماً ساعد في لفت الأنظار إلى التجربة الأدبية في منطقة الخليج، ووضعها في صلب التجربة الأدبية العربية».
ووجه حبيب الصايغ رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، برقية تعزية إلى الشاعر إبراهيم بو هندي رئيس مجلس إدارة أسرة أدباء البحرين، عبر فيها، باسمه وباسم أعضاء الاتحاد جميعا، عن حزنه البالغ لرحيل الباحث والروائي الكبير عبد الله خليفة.. داعيا للفقيد بالرحمة، ولأهله بالصبر الجميل. وام وكالة انباء الامارات

اتحاد كتاب الإمارات ينعى الروائي البحريني عبد الله خليفة.

أبوظبي في 21 أكتوبر /وام/ نعى اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الروائي والكاتب البحريني عبد الله خليفة الذي وافاه الأجل صباح اليوم وقال ” لقد خسر الأدب البحريني والخليجي والعربي واحدا من رموزه الكبيرة في مجال البحث والدراسة والكتابة الإبداعية قصة ورواية، مخلفا وراءه إرثا مهما ساعد في لفت الأنظار إلى التجربة الأدبية في منطقة الخليج، ووضعها في صلب التجربة الأدبية العربية.
وأضاف الاتحاد في بيان له أن أدباء وكتاب الإمارات يشعرون ببالغ الأسى لرحيل شخص عرفوه عن قرب، وعرفوا مناقبه الشخصية، إلى جانب كتاباته البحثية والإبداعية، فقد كان للراحل مساهماته الكثيرة في الساحة الثقافية الإماراتية، وحل ضيفا على اتحاد الكتاب في غير مناسبة، وترك أثرا طيبا في النفوس.
وقال البيان ” إننا نتقدم إلى أسرة الراحل وزملائنا في أسرة أدباء البحرين بخالص عزائنا داعين المولى عز وجل أن يتغمد الراحل بواسع رحمته، ,ان يلهم أهله وأصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان “.
ووجه حبيب الصايغ رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات برقية تعزية إلى الشاعر إبراهيم بو هندي رئيس مجلس إدارة أسرة أدباء البحرين عبر فيها باسمه وباسم أعضاء الاتحاد جميعا عن حزنه البالغ لرحيل الباحث والروائي الكبير عبد الله خليفة.. داعيا للفقيد بالرحمة، ولأهله بالصبر الجميل.
وقال الصايغ في البرقية: ” لقد كان الفقيد صديقا لنا، جمعنا به عمل مشترك منذ البواكير الأولى للحركة الأدبية في الإمارات، ورحيله ليس خسارة لأدب البحرين فقط بل لأدب الإمارات والخليج وللأدب العربي عموما، وذلك لما تحمله تجربته من قيمة عالية على مستوى الفكر والرؤية والموقف والأداة الفنية الجمالية المرهفة” .
وام/ /ش/ع ا و

الأديب عبد الله خليفة.. رحيل مفاجئ وحزن خليجي عميق

وكالة انباء الشعر- محمد السيد
ترك رحيل الأديب والمفكر البحريني عبد الله خليفة، أثراً كبيرا من الحزن على الساحة الثقافية الخليجية، فقد غصت مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات بالمآت من المشاعر والمواقف الحزينة، الني عبرت في مجملها عن الصدمة لهذا الرحيل المفاجئ لقامة أدبية وثقافية، بعد مسيرة عطاء أدبية وفكرية حافلة، أثرى فيها الأدب البحريني والخليجي بنحو 25 مؤلفا . ويأتي هذا الرحيل المفاجئ أمس، بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر ناهز الـ 66 عاما.

رابطة الصحافة البحرينية: رحيل خليفة خسارة كبيرة للحركة الثقافية والأدبية

فقد نعت رابطة الصحافة البحرينية الروائي الأديب والمفكر خليفة. وأعتبرت رحيل عبدالله خليفة خسارة كبيرة للحركة الثقافية والأدبية في البحرين والخليج. وقالت بأن الفقيد أمد الساحة الثقافية بأكثر من 25 مؤلفاً ما بين القصة والرواية والفكر النقدي، إضافة إلى إسهاماته المنتظمة في الكتابة إلى الصحافة الورقية والإلكترونية كموقع “الحوار المتمدن”، وكذلك صحيفة “أخبار الخليج” التي أشرف على صفحتها الثقافية لغاية وفاته، كما واظب على كتابة عمود يومي فيها. ولد عبدالله خليفة في العام 1948 في القضيبية بالعاصمة المنامة، ودرس في معهد المعلمين قبل أن يتم فصله مع عدد من رفاقه بسبب مقال نشره تحت عنوان “تعليم استعماري”، وكان عبارة عن تحقيق عن التعليم تطرق فيه إلى المشكلات العميقة داخله. انضم في العام 1966 إلى جبهة التحرير الوطني البحرانية، أول تنظيم يساري في منطقة الخليج، واعتقل مع من اعتقلوا بعد حل الحياة البرلمانية 1975، وصودرت كتبه التي تقدر بـ 3 آلاف كتاب أحرقت أمام عينيه، إلى أن أطلق سراحه في العام 1981 بعد أن قضى في السجن 6 سنوات.
قبل أن يعرّف بنفسه على مستوى الكتابة، نشر خليفة العديد من المقالات والقصص القصيرة بأسماء مستعارة، وكان أحد اعضاء أسرة الأدباء والكتاب. يُعتبر كاتباً غزير الإنتاج، وقد صدرت له العديد من الأعمال، ومنعت السلطات العديد من مؤلفاته، وكانت آخرها رواية “عمر بن الخطاب شهيداً” التي أصدرها في العام 2007.
من أعماله الأدبية والفكرية الأخرى: إضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى.
أوقف عن كتابة عموده في صحيفة “أخبار الخليج” يوليو/ تموز الماضي 2014 لأسبوعين بسبب مقال  كتبه تحت عنوان “تناقضاتُ الدولةِ الطائفية.. البحرين نموذجاً” انتقد فيه العائلة الحاكمة التي رأى أن “عنفها وبذخها يزداد بسبب تاريخها العنيف”. كما قامت جمعية “الأصالة” الإسلامية، التي تمثل التيار السلفي في البحرين، بتكفيره في أغسطس/ آب الماضي 2014 على إثر مقال له قدم فيه رؤية مغايرة لقصة النبي نوح.

كتاب الامارات: الأدب الخليجي والعربي خسر واحدًا من رموزه الكبيرة

فيما قال اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، بأن الأدب البحريني والخليجي والعربي، خسر واحدًا من رموزه الكبيرة في مجال البحث والدراسة والكتابة الإبداعية قصةً وروايةً، مخلفًا وراءه إرثًا مهمًا ساعد في لفت الأنظار إلى التجربة الأدبية في منطقة الخليج، ووضعها في صلب التجربة الأدبية العربية. وأضاف الاتحاد في بيان له، إن أدباء وكتاب الإمارات يشعرون ببالغ الأسى لرحيل شخص عرفوه عن قرب، وعرفوا مناقبه الشخصية، إلى جانب كتاباته البحثية والإبداعية، فقد كان للراحل مساهماته الكثيرة في الساحة الثقافية الإماراتية، وحل ضيفًا على اتحاد الكتاب في غير مناسبة، وترك أثرًا طيبًا في النفوس. وختم البيان بالقول: إننا نتقدم إلى أسرة الراحل، وإلى زملائنا في أسرة أدباء البحرين بخالص عزائنا، داعين المولى عز وجل أن يتغمد الراحل بواسع رحمته، أن يلهم أهله وأصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان.
حبيب الصايغ يعزي
حبيب الصايغ رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وجه برقية تعزية إلى رئيس مجلس إدارة أسرة أدباء البحرين عبر فيها باسمه وباسم أعضاء الاتحاد جميعًا عن حزنه البالغ لرحيل الباحث والروائي الكبير عبد الله خليفة، داعيًا للفقيد بالرحمة، ولأهله بالصبر الجميل. وقال الصايغ في البرقية: لقد كان الفقيد صديقًا لنا، جمعنا به عمل مشترك منذ البواكير الأولى للحركة الأدبية في الإمارات، ورحيله ليس خسارة لأدب البحرين فقط بل لأدب الإمارات والخليج وللأدب العربي عمومًا، وذلك لما تحمله تجربته من قيمة عالية على مستوى الفكر والرؤية والموقف والأداة الفنية الجمالية المرهفة.
الفقيد في سطور
ولد عبدالله خليفة في العام 1948 في القضيبية بالعاصمة المنامة، ودرس في معهد المعلمين قبل أن يتم فصله مع عدد من رفاقه بسبب مقال نشره تحت عنوان “تعليم استعماري”، وكان عبارة عن تحقيق عن التعليم تطرق فيه إلى المشكلات العميقة داخله. انضم في العام 1966 إلى جبهة التحرير الوطني البحرانية، أول تنظيم يساري في منطقة الخليج، واعتقل مع من اعتقلوا بعد حل الحياة البرلمانية 1975، وصودرت كتبه التي تقدر بـ 3 آلاف كتاب أحرقت أمام عينيه، إلى أن أطلق سراحه في العام 1981 بعد أن قضى في السجن 6 سنوات.

رحيل عبدالله خليفة… أسس للرواية الخليجية وكتب عن رموزها


الحياة اللندنية
24 أكتوبر/ تشرين الأول 2014
ودّع الوسط الثقافي الخليجي والعربي، القاص والروائي والناقد البحريني عبدالله خليفة، الذي وافته المنية الثلثاء الماضي. وكان الراحل رفد المكتبة الخليجية بنتاج غزير ومتنوع، استلهم مضامينه من مفردات بيئته وموروثه المحلي والعربي، مشتغلاً على الأبعاد الإنسانية والتاريخيّة والفلسفيّة والعقائدية، أدباً وبحثاً وفكراً ونقداً.
في وداع الكاتب، أكّدت وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، أن الكلمة تبقى، وأن المبدع لا يموت ما بقيت كلماته. وقالت: «نصافح كفّ عبدالله خليفة من خلال كل نتاجه الإبداعي، نفتقد الجسد، وتبقى الأفكار والكلمات يحملها الورق والأثير أبداً»، فيما شهدت الأوساط الثقافية والإعلامية البحرينية والخليجية ردود أفعال تناسبت وما يمثله الكاتب من قيمة فكرية وأدبية استثنائية، إضافة إلى تاريخه الإبداعي والإعلامي.
عبدالله خليفة كاتب بحريني له نتاجات بحثية وأدبية، ولد في البحرين عام 1948. كتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر الستينيات، له مساهمات متنوعة في النقد الأدبي، وهو عضو أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، وعضو جمعية القصة والرواية، صدر له أكثر من 15 عملاً، تنوعت بين القصة والرواية، والدراسات الفلسفية والنقدية. اختير عبدالله خليفة، رفقة حنا مينة وجبرا إبراهيم جبرا، وحيدر حيدر وغيرهم، ضمن قائمة أهم الروائيين العرب الذين عبروا في كتاباتهم عما سمي ««أدب البحر» من خلال الرواية.
ولطالما نظر الروائي والناقد الراحل إلى موضوع الرواية في الخليج، باعتباره موضوعاً كبيراً، وهو الذي سبق له نشر دراستين عن هذه الرواية: «الرواية بين الكويت والإمارات»، و«الرواية الخليجية بين التبلور والتفكك». في هاتين الدراستين يمسح التجارب خلال العقود الأولى منذ الستينات. ويطرح أسباباً عدة «تجعل الرواية نوعاً لم يتجذر في الأرض بعدُ»، ومن هذه الأسباب: ضعف الفئات الوسطى والبيئة الحاضنة للحداثة، وضعف حضور المنتجين، وبدائية الوعي، والهزال الأدبي للصحافة وغيرها. لهذا، فإن اتصال الرواية الخليجية بالجذور العميقة للواقع ماتزال في تصوره، في حاجة إلى وقت موضوعي. ويشير إلى أن تحديات الرواية في الخليج تكمن «في تحليل الواقع بجرأة، وتعرية التناقضات الاجتماعية العميقة، ومنع العربة الخليجية من الانزلاق نحو الهاوية».
يلفت الروائي والباحث البحريني، الذي أصدر عدداً من الروايات، ونشر عشرات المقالات في مواضيع وشؤون فكرية وثقافية وسياسية، إلى أن جيل الكتابة الروائية في الخليج لم يظهر إلا بعد إنجاز الثورات الوطنية في النصف الثاني من القرن الـ20، «من هنا، فإن معظم نتاجاته الروائية متجهة إلى قضايا اجتماعية تنموية، وقضايا التعسف الحكومي (الوطني)، وجسّد اختلاف الرؤى في طرق التنمية والتعبير عن معاناة النماذج الشعبية المسحوقة غالباً».
ويوضح صاحب «ذهب مع النفط»، في حوار سابق مع «الحياة»، أن الرؤية الكلية لقضية الثورة الوطنية تغدو مسألة صعبة في رواية متأخرة في النشأة، «ولأجيال إبداعية جثمت طويلاً في جنس القصة القصيرة، وهي غير قادرة إلا في شكل نادر على القيام بعمليات التعميمات الفنية الروائية، من حيث عمق المجاز، والقدرة على نمذجة الشخوص والأحداث، ورؤية المراحل التاريخية بشفافية ترميزية. لهذا، فإنها تجثم في الاجتماعي الآني العابر، وتتوجه في معالجاتها النادرة لمسائل الثورة الوطنية إلى الرومانسية الوطنية، أو التسجيلية الفوتوغرافية للتاريخ». إن الآني العابر ينظر إليه، كما يقول خليفة، على أنه حلقة منقطعة عن السيرورة التاريخية، «لهذا، يُقحم الآيديولوجي التبشيري أو الانعكاسي، فإما أن تغدو الرواية هتافاً وطنياً حماسياً مجلجلاً بالوطن والعروبة والإسلام والقادة، وإما أن تغدو تسجيلاً نقدياً فضائحياً… أو تسجيلاً لقادة النهضة العربية وتدخلات القوى الاستعمارية». يعتقد عبدالله خليفة بوجود نمو حلزوني يخرق الواقع والقوى المضادة، «وهذا ما يصل إليه عادة الدارسون الموضوعيون». ويعزو اختصار بعض الكتاب الكبار في مؤلف واحد، إلى أن هذا الكتاب، «ربما كان يمثل أهم خصائصه وقوة تجاربه. أو أن الكاتب لا يمثل علاقة عميقة بمجتمعه وعصره».
يختلف عبدالله خليفة مع الآراء التي تؤكد أن البلدان، التي اعتبرت «هوامش» في الماضي أصبحت اليوم «مراكز»، في إشارة إلى بعض دول الخليج التي تتبنى مشاريع ثقافية كبرى تلفت الأنظار إليها في هذا الخصوص، ويقول إن هذه الدول تهتم بالترويج، «ولكن من دون إنتاج مهم». وفي رأيه لا تتطور المجتمعات من دون إنتاج ضارب في الأرض، وبالتالي تتحول هذه إلى عروض، «بدلاً من تحريك الرواية في المناهج والصحافة وشبكات الإعلام الجماهيرية. ولهذا فمن الصعب أن يتمكن كاتب واحد، من نشر رواية مسلسلة في صحيفة خليجية ويحصل على أي مقابل».

عبدالله خليفة.. رحلة متواصلة مع الوطن والفكر والأدب


الاتحاد أبوظبي
22 أكتوبر 2014
ساسي جبيل (أبوظبي)
غيّب الموت الروائي والمفكر البحريني الكبير عبدالله خليفة، عن عمر يناهز 66 عاماً، بعد صراع مع المرض جعله يلزم بيته منعزلا عن العالم في الفترة الأخيرة. ويعتبر خليفة من الروائيين العرب الذين قدموا العديد من الإضافات للفكر والثقافة العربية، ومن الذين تميزوا بجرأة طرحهم واستقصائهم للمحاور والملفات الكبرى التي شغلت وتشغل الدارسين العرب، محاولا الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي أرهقت الأذهان بطريقته الخاصة التي تجلى كثير منها في سرده البديع وفكره الثاقب الذي مثل به شخصية استثنائية ذات توجه مختلف عن كثير من مجايليه.
وعانى عبدالله خليفة الكثير من وراء بحوثه وكتاباته الجريئة، من ذلك تكفيره من طرف بعض الجهات الأصولية.
وقد رد خليفة على الاتهامات التي وجهت إليه، بالقول: «قمت خلال الفترة الأخيرة، وربما حتى سنوات بنشر تنوير ثقافي يتطرق إلى جذور المنطقة الاجتماعية والثقافية، وكان هذا يتضمن درس الظاهرات المختلفة، ولا شك أن ذلك يصدم بعض القراء الذين لم يقرأوا أشياء كثيرة في تراث المنطقة الأسطوري والتاريخي، وهي معارف موجودة في مئات الكتب المنشورة والموجودة في المكتبات، وبدا لهم أن يخرج ذلك في الصحف اليومية أمراً غريباً في حين أن كتب درس الأديان وتراث المنطقة تعج بها الأرفف». ومنعت روايته «عمر بن الخطاب شهيدا» من السوق فقال حينها: إن الرواية هي عمل أدبي حول دور الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الفتوحات وإقامة عدالة إسلامية والدفاع عن الناس وخاصة الفقراء وأن الشخصية الرئيسة، أي البطل في الرواية هي عمر بن الخطاب كما هو معروف في التاريخ، وتشخيص الصحابة شيء قديم جرى في كتب السيرة والروايات المعاصرة كما فعل الكاتب أحمد علي باكثير قبل أجيال عندما كتب عن سيرة عمر عدة أجزاء بشكل قصصي». وعرف خليفة بأنه من المناصرين للانفتاح والنقد والعقلانية والحوار وتفهم الآخرين ووجهات نظرهم من أجل جدل مجد يحقق الإضافة المطلوبة ومن خلال مناقشة القضايا التي تناولتها الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية، فالأمر ليس سوى حوار وبحث مشترك ومساهمة في التنوير مع احترام العقائد من دون غلق لحريات البحث. وقد تعرض عبدالله خليفة للسجن والنفي، وفقد شعلة من الحماس والاستعداد والتضحية من أجل الخلاص من قبضة الاستعمار ومن أجل الحرية والديمقراطية.
خرج خليفة من القضيبية هذه المنطقة التي تخرج الكثير من العناصر المتفوقة على جميع المستويات، وسرعان ما أصبح رمزا حيويا من رموز النضال، أعطى لبلده على مدار أربعين عاما الكثير من جهده وفكره.
ولد عبدالله علي خليفة البوفلاسة في العام 1948، وكان مسقط رأسه القضيبية «بيوت العمال» لأسرة بسيطة، إذ كان والده يعمل في شركة بابكو.
تميز خليفة بنشاطه الفكري والأدبي وكان يكتب في الصحافة بأسماء مستعارة، وفاز بجائزة أسرة الأدباء والكتاب للقصة القصيرة، ما دعاه إلى تكريس نفسه باسمه الحقيقي، إضافة إلى ذلك كان يكتب مقالات ودراسات سياسية واجتماعية عن تاريخ البحرين وتطور القصة القصيرة.
تأثر خليفة في طفولته بشخصية والدته وأخته الكبرى مريم التي فقدها مبكرا وربما كانت ترى فيه شخصية مهمة في المستقبل، وكان لها دور كبير وبارز في تكوين وتشكيل شخصيته، ومثّل رحيلها وهي في أولى مراحل شبابها، إحدى الفواجع التي عاشها الكاتب في رحلته الحياتية.
ويعتبر عبدالله من أهم الروائيين العرب الذين عبروا في كتاباتهم عن «أدب البحر» من خلال الرواية، فغالبية رواياته توحي بالدلالات الكامنة في التناص مع البحر، بالإضافة إلى تصويرها للصراع الاجتماعي في البحرين، ومنها إشكاليات العلاقات الاجتماعية والإنسانية في المدن والقرى الساحلية.
ويتميز خليفة بكتابة رواية قصيرة نسبياً، تصور البحرين كقارة كبيرة للإبداع والفولكلور، وهذا ما تجلى في روايته «الينابيع»، كما يعتمد الكاتب كثيرا على «المونولوج» في أعماله أي الصوت الداخلي لأشخاص القصة أو الرواية،
ولم يشتغل خليفة بكتابة الرواية التاريخية فقط، إنما يحاول إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر مغايرة لما سبق من أطروحات سواء تلك التي طرحها الدكتور حسين مروة في النزعات المادية أو الطيب تزيني، محاولاً أن يطرح رؤيته الخاصة به حول هذه القضية.
ورافقت هذه الأفكار تحليلات معمقة في جذور المنطقة، وأديانها، وتداخلاتها مع الإسلام، لكن داخل البني الاجتماعية الجديدة التي أسسها العرب المسلمون، والتي أخذت تعيش ظروفاً وتأثيرات جديدة على جميع الواجهات.
وقد تجسد كل ذلك من خلال مدونته الروائية والفكرية مبثوثا فيها بشكل واع عبر قراءات ملموسة للأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية، والتراكمات الفكرية، ومن خلال كشف حراك الطبقات والسكان وتحولات الأديان، ونشوء المدن المتأسية على التكوين القبلي، وكيفية إعادة تشكيل الإرث السابق، وكيفية رؤيته من خلال القوى المتصارعة المتعددة.
«اغتصاب كوكب» آخر ما كتب الراحل
كانت «اغتصاب كوكب» هي آخر ما صدر للروائي الراحل، توزعت على ثمانية فصول، وتتشابك فيها أحداث علاقة معقدة بين رجل يُدعى «سيد عمران» وصديقة أخيه «إسماعيل» الأرملة «كوكب» التي تقرأُ، كتباً غريبةً.وتبدأ أحداث الرواية حين تطلب أم سيد عمران منه أن يوصل كوكب بسيارته إلى بيتها في وقت متأخر من الليل، ولأنه مولع بها فقد توهم بأنها تحسد زوجته على رجولته يحاول اغتصابها، لكن عسكرياً ماراً في الطريق يكتشف الأمر، ويتصل بالشرطة، ويمنع الرجل من الهروب.
وقد صدرت الرواية خلال يوليو عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، وجاءت في (118) صفحة من القطع المتوسط.

شهادات أدباء وكتّاب بحرينيين وخليجيين عن الراحل

صوت عقلاني مستنير
تحدث عدد من الأدباء البحرينيين والخليجيين، عن سيرة الراحل عبدالله خليفة الفكرية والأدبية، فقدموا شهادات ثمّنت جهوده الشخصية والتراث الثري الذي تركه وراءه لأجيال من القراء والمبدعين.
وهنا شهادات هؤلاء في الراحل:
قال إبراهيم بوهندي رئيس أسرة الكتاب البحرينيين: يعتبر عبدالله خليفة من القامات الأدبية البحرينية والعربية المهمة التي استطاعت طوال مسيرتها أن تقدم الكثير للساحة الأدبية والفكرية في الوقت الذي بتنا فيه في أمس الحاجة لقراءة مختلفة لتراثنا وتاريخنا الحضاري الذي بقي رهين قراءات أحادية الجانب في الكثير من الأحيان.
وعزى الدكتور علوي الهاشمي الشاعر والجامعي البحريني مملكة البحرين والساحة الأدبية العربية في هذا المصاب الجلل المتمثل في كاتب من أهم كتاب الوطن العربي، قدم الكثير للبحرين والخليج والأمة العربية قاطبة، واستطاع أن يكون صوتاً مختلفاً قدم الكثير واختطفه الموت ليترك لوعة في قلوب كل من عرفوه.
وقال محمد فاضل عبيدلي الإعلامي والباحث البحريني المقيم بالإمارات: وفاة عبدالله خسارة كبيرة للثقافة والفكر في البحرين والمنطقة العربية، فهو ليس روائياً فقط، وإنما اتجه في سنواته الأخيرة إلى الجدل والفكر وله العديد من المقاربات الفلسفية. إننا خسرنا صوتاً عقلانياً مستنيراً كانت له إسهامات كبيرة في الجدل الفكري والفلسفي خصوصا من خلال مقارباته العقلانية وآرائه المستقبلية، فهو من خلال قراءته للتراث والتاريخ العربي حاول جاهدا أن يصوغ مقاربات فكرية تذهب بعيدا عن منطق الثنائيات.
وقال عبدالجليل السعد الباحث في التراث: لم يعرف عبدالله خليفة أنه في مغادرته سيغادرنا روائي وكاتب نادر في تناوله لسيمات كثيرة في إبداع كتابة الرواية، فقد كتب عبدالله الرواية السياسية والرواية التاريخية والرواية الدينية والرواية المحلية في نمط ومزيج واحد لا تستطيع أن تبين خطوط الالتقاء أو التقارب، عدا أن عبدالله كان غزير الإنتاج الأدبي والفكري، وكان غزير المعرفة بالتاريخ العربي والإسلامي مما أهله لتناولهما في أعماله الأدبية.
ورأى الناقد علي الشرقاوي، أن الباحث والكاتب الجاد عبدالله خليفة، في أطروحاته وآرائه وموقفه في بعض القضايا الفكرية والأدبية، خاصة تبدو حادة بالنسبة لمن لا يرى ما يراه، إلا أن الجميع وأنا واحد منهم، أقف مثمناً جهوده الفكرية في الرواية والبحث التاريخي والفلسفي في قضايا التراث الفكري في العهود الإسلامية.
وقال حارب الظاهري الشاعر والقاص الإماراتي: عبدالله خليفة رائد ورمز من رموز الرواية الخليجية والعربية، يمتاز برؤية ثاقبة في الطرح وفكر مستنير مما أكسبه مكانة أدبية أهلته ليقدم للساحة الأدبية في البحرين والوطن العربي الكثير، لقد أدى الرجل دورا كبيرا في خدمة الثقافة والأدب والفكر وساهم في تنميتهم من خلال ما قدمه من مؤلفات تنم عن إطلاع كبير على الحضارة العربية الإسلامية والتراث الإنساني.
وقال عبدالعزيز المسلم الكاتب والباحث في التراث: عرفت البحرين الشقيقة بأنها كانت دائما حاضنة ثقافية متميزة من خلال العديد من الأسماء التي قدمت الكثير للأدب والفنون والفكر العربي عامة، ويمثل عبدالله خليفة أحد الأعمدة الثابتة في الثقافة البحرينية المنفتحة والمجتهدة على الدوام، وقدم خليفة للساحة الثقافية قراءات ومقاربات مختلفة أكدت ولا تزال قدرات خارقة تميز بها الرجل في مجاله، ورسخت أقدامه في دنيا الأدب والإبداع وتجاوزته إلى التنظير.
وقال يوسف الحمدان الإعلامي والكاتب البحريني: لو كان للصديق الكاتب المبدع عبدالله خليفة اسم آخر لكان الكتابة في أبعد وأقصى تجلياتها، لذا سيظل عبدالله خليفة حياً ما ظلت الكتابة، وما ظلت كتبه، إنه في حالة توحد وتماهي مع الكتابة في همها وحلمها، فهي أقرب أصدقائه، بل هي قلبه وروحه. عبدالله خليفة لم يكن الكاتب فحسب، إنما المفكر في كل ما يكتب لذا هو عصيا على الكتابة ذاتها ووحدها، لأنه يكتب برأسه وينقب في بحور الفكر ليعيد صياغتها وقراءتها برأسه، إنه هدير البحر و ذرى الأمواج التي تضطرم بقوة وعنف كلها احتدمت في رأسه، فكرة حفزت وحرضت الكتابة على تجاوز ضفافها وشطآنها والتمرد عليها. إنه يكتب بألف فكرة، لألف كتاب، فهو المنغمر في بحر تتقاسمه أعماق القراءة الشائكة، ورغبة الرؤية اللحوحة لكتابة بحر آخر يطفو ويتسامق عمقاً وأفقاً.

استأنس بالثقافة سبيلاً إلى الحرية
عبدالله خليفة . . الكاتب الموسوعي والصوت الإبداعي الحر


الخليج الإماراتية
23-10-2014
الشارقة – عثمان حسن:
ربما يكون الاستهلال الأنسب أو الأصلح لتلخيص تجربة الروائي والمفكر البحريني الراحل عبدالله خليفة، هو استئناسه بالثقافة سبيلاً إلى الحرية، وعمله الدؤوب والمخلص سواء في أعماله الروائية أو الاجتماعية والإنسانية، لكي يترجم الفكرة التي يؤمن بها إلى فعل، ولتكون كلمة الثقافة مرادفة للحرية قلبا وقالبا، وهو الذي قال يوما “تشكلت الثقافة العربية الحديثة كصوت مثابر وقوي للحرية، فالاستعمار الأجنبي المهيمن من جهة، وقوى وقواعد التخلف والاستغلال المحلي من جهة أخرى، حبست العرب في زنازين الجهل والأمية والتعصب والتجزؤ، ولكي يلعب الأدب دوره التاريخي الفذ، وتتحول الكلمات إلى قبس من شعلة الروح الوثابة كان لا بد من التحرر من الخوف وغمس الحروف العربية في ألوان القرى والمدن ووجوه المعذبين” .
كان الراحل معنيا بالوحدة العربية، ومؤمنا بها أكثر من دون الدمج القسري، لا سيما وأنها كأمة تختلف عن الأمم الغربية وحتى الشرقية، ولها سيرورة خاصة مبنية على تاريخها الملموس، فكانت الامبراطوريات العربية كما أكد دائما ذات أقاليم مستقلة وشهدت وحدة في التنوع وفسيفساء من التعاون والتداخل والصراع، وهي مطالبة باستعادة التداخل والتعاون نحو أشكال سياسية موحدة تنبثق من ذلك النمو القاعدي والديمقراطي وتؤسس لكيان قومي واحد كبير ومتنوع .
من هنا كانت للراحل إطلالات واسعة على عمق المشاكل العربية الاجتماعية والدينية، وكان معنيا بمناقشة الفكرين القومي والديني، حيث كان يرى أن ليس مطلوبا منهما إلغاء العروبة ولا الدين، ولا اللغة، ولا مصالح الأمة الاستراتيجية، بل كان المطلوب والملح بالنسبة إليه هو تجديد أدوات التحليل والتفكير، من أجل تغيير حال الضعف الحالي، وإقفال دكاكين التمزق والمزايدة من أجل خطوط عريضة توحد الأمة، وتدفق العمل في أقدامها المتجمدة وسط كثبان التشوش والتطرف والتذويب .
هذا الأسلوب الذي تبناه الراحل كان موجوداً في عمق أعماله سواء الروائية والنقدية وحتى مقالاته الصحفية اليومية في جريدة (أخبار الخليج)، ومن خلال كتاباته البحثية في قضايا الفكر العربي والإسلامي، ومناقشته لكثير من القضايا الإشكالية والخلافية التي تشغل الوعي العربي قديما وحديثا .
ناقش خليفة في كتاباته الكثير من الرموز التاريخية، مؤمنا بانهيار عقلية الأشكال الجامدة التي تحنط الأشخاص والأفكار، معتبراً أن كل الأديان والمذاهب والفلسفات البشرية ما هي إلا أركان وأزهار قابلة للإشعاع والنمو، فهي بالضرورة صورة عن المبادىء التي كما كان يقول “تعبر عن معاناة الإنسان لاكتشاف حياته القومية وطرق تقدمه في تضاريسه التراثية والاجتماعية” .
كان مشروع عبدالله خليفة مشروعاً نهضوياً بامتياز، وهو يشمل تجديد الفكر والوعي وبالتالي فقد كان مؤمنا بضرورة الثقافة، سبيلاً إلى النهضة الحقيقية والحديثة، هذه النهضة التي عدد بل كان معنيا بذكر مزاياها في التجربة العربية من خلال مفكري عصر النهضة الأوائل، الذين حاولوا أن ينشروا رؤى التقدم والانفتاح الفكري، وأن يحضوا على التصنيع وتشكيل التيارات الفكرية، وقد بذلوا جهودا مضنية عظيمة، ولكن المحصلة النهائية لهذه الآمال كانت محدودة ومخيبة للآمال .
حرص الراحل عبدالله خليفة أن يضمن مجمل هذه القناعات والأفكار في أعماله الأدبية وبالأخص الروائية، وكان مشروعه الإبداعي ملتصقا فكرة ولغة بهموم واقعه الخليجي والعربي، ففي روايته “اللآلىء” التي صدرت في عام 1982 يتأمل خليفة مجتمع ما قبل النفط، ويقارنه بالتطورات الحاصلة بعد اكتشافه، ويربط ذلك كله بأزمة القيم الأصيلة في هذا المجتمع المتغير، حيث تصف هذه الرواية بحسب الكاتب والناقد السوري د . عبدالله أبو هيف معاناة البحارة الباحثين عن اللؤلؤ وخيبة البحث المرير عن لؤلؤة واحدة، والانسحاق تحت وطأة النهم البشري إلى الاستغلال والظلم، وحيث تعد هذه الرواية أغنية للأمل الذي يغمر القلوب الظامئة للحرية والحب وسط مرارة العيش وقسوة الظروف .
في السياق ذاته تصور روايته “أغنية الماء والنار” التي صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق في 1988 التباين الطبقي الحاد قبل النفط في الخليج، وتبين المآل المسدود لاندحار الفوارق الاجتماعية، وهي تنحاز لغالبية من المساكين والفقراء ومعذبي الأرض وهي صورة عن الصراع الاجتماعي على أطراف مدينة في بيئة شعبية هي قرية أو مدينة صغيرة ساحلية .
كتب عن تجربة الراحل الكثير من الرموز الثقافية والفكرية ومنهم الشاعر علي الشعراوي الذي وصفه بأنه واحد من أهم أصحاب المشاريع الأدبية والفكرية الكبيرة والطويلة والمضنية، والتي عمل عليها بجهد الإنسان المخلص لما يقوم به من تحليل وتفسير وتأويل وقال “ربما يختلف البعض مع الروائي والباحث الجاد عبدالله خليفة، في أطروحاته وآرائه ومواقفه في بعض القضايا الفكرية والأدبية، خاصة وأن بعض مواقفه حادة بالنسبة لمن لا يرى ما يراه، إلا أن الجميع وأنا واحد منهم، أقف مثمناً جهوده الفكرية في الرواية والبحث التاريخي والفلسفي في قضايا التراث الفكري في العهود الإسلامية” .
كان الراحل عبدالله خليفة مثقفاً موسوعياً، وكانت له آراء في التشكيل والسينما والمسرح، وكان متابعا حثيثا لهذه الأشكال، ومواظبا على تقديم المشورة وإبداء الرأي، ففي واحدة من كتاباته الرصينة، يتذكر خليفة المسرحي البحريني عبدالله السعداوي الذي يوصف بأنه من القامات الفنية الكبيرة في منطقة الخليج والوطن العربي، حيث يتذكره بعبارات شفيفة ومعبرة حين يقول “تسكع طويلاً على أزقة المدن، وأدمن الجلوس بين المغمورين والمنسيين، ولم ينس الألم وفضيلة التواضع وحب الناس، لذا صار عالميا” ويضيف أنه كان فلاحا يحرث بدأب وصبر في أرض المسرح الوعرة، فمرة يوغل في الضباب، وأخرى في الوضوح المبهر، مرة يغوص في البخور والصنوج والشموع وحشود الألوان وموتيفات الصور المتناثرة، ومرة يجسد عالماً صارخاً بالنزيف .
وكانت للراحل آراء مشابهة في السينما هذه التي كان يعدها وسيلة تثقيفية عظيمة، ومن ذلك مثلا قراءته لواحد من الأفلام الجيدة وهو فيلم “الغرقانة” للمخرج المصري محمد خان الذي يعد فيلمه واحدا من الأفلام العربية النادرة التي تمفصل قضايا الوعي والوجود والمصير، وتجسدها بشفافية فنية وبنائية إبداعية متألقة، تجعل الصورة والفكرة تمتزجان في شكل شعري أخاذ، فيقول الغرقانة لمحمد خان تجسد هذه الفكرة، فهو يجعل الكاميرا السينمائية تزهر وهي تعبر صحراء سيناء وجبالها وشواطئها متغلغلة في شرايين البدو وتضاريسهم الروحية ذات الندوب والظلال آخذة من أساطيرهم الشعبية مادة لكشف الباطن الحارق” .

البحرين تكرم الأديب والمفكر الراحل عبدالله خليفة

المنامة في 25 ديسمبر / بنا / تستعد أسرة الأدباء والكتاب ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي، وبرعاية من دار أخبار الخليج للصحافة والنشر، لتكريم الأديب والمفكر البحريني الراحل عبدالله خليفة، الذي أنجز حضورا مميزا في المشهد الثقافي البحريني بشكل خاص وفي حركة الإبداع الأدبي والفكري العربي بشكل عام، عبر مسيرته الأدبية الغنية كعضو فاعل ومؤثر في أسرة الأدباء والكتاب والأديب المشرف على ملحق جريدة أخبار الخليج الثقافي.
ويشارك في الحفل نخبة من الأدباء والشعراء والمفكرين والرفاق الذين جمعتهم دروب الفكر والأدب وكانت لهم علاقة حميمة بالراحل، حيث يشتمل الحفل على كلمات وأشعار وشهادات وفيلم توثيقي يتضمن شهادات أصدقاء الأديب من إخراج الفنان أحمد الصايغ، و فيلم درامي بعنوان “المتشرد” عن رواية الأقلف من سيناريو وإخراج الأستاذ حمد الشهابي, كما سيتم توزيع آخر رواية كتبها الراحل بعنوان “خليج الأرواح الراحلة”, وكتاب بعنوان “فضاءات السرد في أدب عبدالله خليفة” وتتضمن بحوث ودراسات جديدة حول نتاج الأديب الراحل للدكتورة ضياء الكعبي والدكتورة أنيسة السعدون والدكتورة انتصار البناء، وشهادات للكاتبين كمال الذيب ومحمد المرباطي.
كما سوف يتحدث في الحفل كل من الشاعر القدير علي عبدالله خليفة والدكتور راشد نجم والأستاذ أنور عبد الرحمن رئيس تحرير أخبار الخليج والكاتب إسحاق الشيخ يعقوب و الشاعر علي الستراوي، ويدير الاحتفالية الفنان والمخرج عبدالله يوسف.
وفي الختام سيقدم المحتفلون “وسام الإبداع البحريني” إلى الأديب والمفكر الراحل عبدالله خليفة يتسلمها شقيقه السيد عيسى خليفة، وسوف يقام حفل التكريم يوم الثلاثاء 30 ديسمبر الجاري عند الثامنة مساءً، بمقر مركز عبدالرحمن كانو الثقافي، والدعوة عامة.
وكالة انباء البحرين ع ذ. بنا 1045 جمت 25/12/2014

حضور كثيف في احتفالية تكريم عبدالله خليفة بمركز كانو الثقافي
قالوا في الأديب الراحل: كان ركنا كبيرا في الأدب الخليجي

شهد مركز عبدالرحمن كانو الثقافي مساء أمس أمسية ثقافية وفنية استثنائية لشخص استثنائي، حيث أقيمت احتفالية تكريم الأديب والمفكر الراحل عبدالله خليفة برعاية وتنظيم صحيفة أخبار الخليج وأسرة الأدباء والكتاب، تأكيدا على أن عبدالله خليفة من مبدعي الوعي والتنوير والثقافة الأصيلة الرصينة، وصاحب الإنتاج الأدبي والثقافي الغزير الذي أثرى الأدب البحريني بمؤلفاته، بداية من لحن الشتاء وحتى آخر إصداراته «خليج الأرواح الضائعة».
وقد بدأ الحفل بالوقوف دقيقة حداد على روح الأديب الراحل، ثم ألقى بعدها الشاعر علي عبدالله خليفة رئيس مجلس إدارة مركز عبدالرحمن كانو الثقافي كلمة المركز رحب فيها بالحضور وبالضيوف الكرام القادمين من المملكة العربية السعودية وتونس والأردن والسودان ودولة قطر للاحتفاء بتكريم شخصية أدبية وفكرية بحرينية، قائلا «يعز علينا كثيرا ألا تكون هذه الشخصية بيننا الآن، فلقد سبقتنا يد المنون ونحن نغالب الزمن للحاق بالتكريم والمكرم حاضرا، لكن لا راد لقضاء الله سبحانه وتعالى، يعزينا أن المكرم الراحل كان على علم بما عقدنا العزم عليه».
وأضاف في كلمته «أن فكرة تكريم المبدعين البحرينيين بصفة عامة كانت هاجسا حاضرا لدى أسرة الأدباء ومركز كانو الثقافي، كل على حدة، ينطلق من الواجب الوطني لرد الاعتبار إلى ثقافة البحرين الوطنية المهمشة، وذلك من خلال تكريم شعبي للرموز الإبداعية تشارك به كل فئات المجتمع البحريني الذي كانت همومه وأحلامه مادة حية في إبداعاتهم على مدى عقود.
إننا نكرم في شخص هذا الأديب الراحل النخبة من حملة مشاعل التنوير الذين كرسوا ثقافة الإبداع والتعدد في مجتمع متآلف مسالم, من خصائصه تنوع الأطياف, النخبة المبدعة ذات المواقف الجلية والشجاعة في رفض كل أشكال الإرهاب والتخريب وتقسيم وتأزيم المجتمع فكان عبدالله خليفة الأبرز والأشد ضراوة في الدفاع عن النهج الإصلاحي للمسيرة الوطنية.
ولمرضه العضال ولإحساسنا بأهمية الزمن في اللحاق بالتكريم قبل فوات الأوان تنادى رفاق الراحل للتعجيل بتكريمه فالتقت جهود جميع الأطراف وتوحدت لتنظيم هذه الاحتفالية المشتركة بمعرفته وبالتعاون معه, وقد تشرفنا بمشاركة من رافقوا المكرم في مسيرته النضالية, وقدرنا لأخبار الخليج وللأستاذ أنور عبدالرحمن رئيس التحرير مواقف الدعم والرعاية, شاكرين لإدارة وسائل الإعلام وإدارة تلفزيون البحرين ما تقدما به من مساندة مهمة ولكل المثقفين المتعاونين تحية شكر وتقدير.
للمنجز الأدبي والفكري للأستاذ عبدالله خليفة قيمة رفيعة في ميزان النقد الأدبي إلى جانب جهوده المكثفة في شأن الصحافة الثقافية بالبلاد طيلة سنوات, فتكريم أمثال هؤلاء لا يأتي من باب العاطفة الشخصية أو المجاملة الصداقية, فلقد كنا نلتقي مع المكرم في بعض أفكاره ونختلف معه قطعيا في بعضها.
كانت معاناة الإنسان البحريني البسيط مادة تجربته الشعورية, ومرتكز أعماله الأدبية, اشتغل بالتدريس ثم بالصحافة وعاش تجربة السجن لسنوات وخرج منه أكثر إصرارا على ما كان يعتقد ويؤمن.
كان قارئا نهما وفي جوع دائم إلى المعرفة, تؤرقه هواجس التنوير وكيف يبدد الظلام من حوله, اعتكف خلال سنواته الأخيرة مركزا جهده على الإنتاج الكتابي فأنجز عددا من الروايات لم تزل مخطوطة, وحين داهمه المرض قاومه بتكتم شديد رافضا التصريح به, وتصارع معه بإرادة الإنسان غير المكترث بالنتائج, رافضا لكل محاولاتنا لعلاجه خارج البحرين.
كان الرجل, رحمه الله, ذا شخصية إنسانية فريدة, هادئا.. صموتا.. تمور بداخله الأفكار فينفثها نارا درامية ساخرة متهكمة, كان عصاميا حادا في طروحاته الفكرية ثابتا على مبدأ حدي لا يتنحى عنه قيد أنملة, ومن خلاله يقيس البشر ويحدد علاقاته بهم, فكان ذلك مدعاة إلى أن يساء فهمه وأن تفسر مواقفه على غير ما كان يريد, حتى من قبل أقرب الناس إليه.
إن مسيرتنا الأهلية المشتركة لتكريم المبدعين في البحرين ستستمر بإذن الله وستظل هذه الأرض ولودا تنجب المبدعين جيلا بعد جيل».
ثم ألقى الدكتور راشد نجم النجم الأمين العام لأسرة الأدباء والكتاب كلمة الأسرة قال فيها «يسعدني نيابة عن أسرة الأدباء والكتاب أن أرحب بكم أجمل ترحيب وأرحب كذلك بضيوفنا الكرام من دول الخليج العربي وأصدقاء الراحل العزيز.. في حفل تجمعنا فيه المحبة.. ويدفعنا فيه واجب التكريم لمن أشعلوا شموع حياتهم من أجل إسعادنا.. ولونوا فضاءات حياتنا الثقافية بإبداعاتهم حتى غدوا رموزا يفخر بهم الوطن ونفاخر بهم أمام الأمم.
يشكل الأديب والمفكر الراحل عبدالله خليفة علامة مضيئة في المشهد الثقافي والأدبي المعاصر في مملكة البحرين.. سواء في فضاء السرد حيث تمحورت إبداعاته في كتابة الرواية التي اتسمت بالواقعية وتمثلت شخوص رواياته من نماذج مجتمعية تتحرك بيننا وقد لا نلتفت إليها.. لكنه يلتقطها بعناية مثلما ينتقي تاجر اللؤلؤ نماذج لآلته.. حتى غدى رائدا من رواد الرواية في البحرين, حيث أصدر ما يزيد على عشرين رواية بداية من زاويته «لحن الشتاء» عام 1975 مرورا بروايته «الهيرات» عام 1984 ثم رواية «أغنية الماء والنار» عام 1988 وحتى روايته الأخيرة «خليج الأرواح الضائعة» عام 2015 التي أصدرتها أسرة الأدباء والكتاب بعد رحيله بالتعاون مع مركز عبدالرحمن كانو الثقافي وهيئة شئون الإعلام مرورا بكل الكم الكبير من الروايات والدراسات البحثية, حيث أصدر الراحل مجموعة من الدراسات الواسعة والمهمة التي اتسمت بالعمق والتحليل التاريخي والفلسفي.
ولم يقف قلمه عند حدود كتابة القصة القصيرة والرواية والدراسات بل اتسع فضاء اهتمامه ليشمل عالم الصحافة عندما عمل في صحيفة «أخبار الخليج» فاشتغل على التصدي لقضايا وملفات ساخنة سياسية واجتماعية وأدبية ودينية بهدف دعم الثقافة الوطنية التنويرية التي خلقت له شهرة واسعة, وفي نفس الوقت فتحت أمامه بوابة واسعة لصدامات كثيرة مع شرائح من المثقفين والسياسيين ورجال الدين, ولكن رغم ذلك ظل طوال حياته صامدا على مبدأه ومحترمة أطروحاته رغم الاختلاف المتباين للنقاد والمهتمين حولها.
إن أسرة الأدباء والكتاب تشعر بالكثير من الاعتزاز والامتنان لما اتسمت به روح الشراكة والتعاون مع مركز عبدالرحمن كانو الثقافي خلال مراحل التخطيط والإعداد والتنفيذ لهذا التكريم ليكون بداية مسيرة لن تتوقف في تكريم المبدعين البحرينيين في مجال الأدب والفكر والثقافة وهم أحياء بيننا لإعادة الاعتبار إلى رموزنا الثقافية ودعم ثقافة البحرين الوطنية التنويرية التي اتسمت بروح التسامح والتعددية وقبول الآخر.
إننا نتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من ساند فكرة هذا المشروع بتكريم المبدع الراحل عبدالله خليفة من مؤسسات رسمية نخص منها بالذكر هيئة شئون الإعلام التي تحملت مشكورة تكاليف طباعة ملف الدراسات والرواية وكان الصديق العزيز الأستاذ يوسف محمد مدير وسائل الإعلام بالهيئة نموذجا طيبا للتعاون وتذليل الصعوبات, وكذلك الأخ العزيز الأستاذ نبيل بوهزاع مدير تلفزيون البحرين, ومن مؤسسات أهلية وعلى رأسهم صحيفة «أخبار الخليج» ممثلة في الأخ الأستاذ أنور عبدالرحمن رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير لدعمهم لفكرة التكريم ومساهمتهم ماديا في تحمل تكليف هذا الحفل, وإلى أسرة الراحل العزيز الذين وفروا لنا المعلومات المطلوبة, وإلى جميع من أسهم معا بجهدهم السخي من اللجنة المنظمة لحفل التكريم من أعضاء أسرة الأدباء والكتاب ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي.. وإلى جميع وسائل الإعلام المختلفة ووسائط التواصل الاجتماعي فلهم منا جميعا الشكر والتقدير.
إن هذا ليس حفل تأبين للراحل العزيز ولكنه حفل تكريم لإبداعه ونتاجه الفكري.. فصاحب الكلمة لا يموت أبدا وإن غادر الدنيا جسدا»
عقب ذلك ألقى الأستاذ اسحاق الشيخ كلمة بالنيابة عن رفقاء وأصدقاء الراحل قال فيها «لقد أدرك راحلنا الكبير أن الثقافة في علاقة وطنيتها البحرينية والأممية الإنسانية، وان عليها أن تكون ثقافة تنويرية تدفع بالتحول الاجتماعي، وفي علاقتها الإنسانية بين الناس وفي النضال من اجل تحريك المجتمع البحريني، بهدف تطويره والأخذ به وعيا ثقافيا في الاستنارة، وعلى طريق الحداثة والتحديث، وهو ما أفنى حياته بكرامة نفس وشموخ إنساني لا احد يجاريه، ولا احد يشاطره فيها.
ان الثقافة التنويرية هي ثقافة تلازم حراك المجتمع وتدفع به ضمن قوانين جدل التحول المادي التاريخي وهو ما وعاه جيدا عبدالله خليفة في باكورة نشاطه الذهني, ارتباطا في البناء الفوقي من المجتمع البحريني وفي تكريس ثقافة الاستنارة استهدافا في تغيير أسس البناء التحتي وتشبيع مؤسساته بوعي الثقافة التنويرية.
إن الثقافة التنويرية تشكل حاجة ملحة وضرورة أساسية في تحريك الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع البحريني على طريق التحول إلى غد مجتمع بحريني قادم ناهض, وهو ما كان يؤرق أحلام وآمال رائد ثقافة التنوير والتغيير في مملكة البحرين عبدالله خليفة, الذي كان في طليعة المبتهجين بالمشروع الإصلاحي الذي كان يراه عن حق فاتحة أمل حقيقي على طريق غد مشرق للبحرين, ولقد رن قطرات حياته حبا وجدانيا معنى بحب البحرين وكان بحرينيا خالص الشفافية في بحرينيته, وكان يسابق الحياة ثقافة مستنيرة من أجل حياة أفضل للبحرينيين وكان يرى أن ثقافة الاستنارة هي الطريق الأجدى من دون منازع في تحريك القيم الثقافية في نسيج المجتمع الفوقي الذي يتعاكس بالضرورة في تغيير ثقافة نسيج المجتمع التحتي نهوضا بالبحرين في ضياء تنويري يعانق فلق ضياء الشمس في الكون.
إن مفهوم الثقافة التنويرية عند عبدالله خليفة مفهوم يرتبط بظواهر المنعطفات التاريخية في حياة الأمم والشعوب وهو ما نراه مكرسا في كتبه وروايته المشغولة بالثقافة التنويرية وأهميتها في حركة التغيير, وكان يرى عن حق أن الثقافة التنويرية هي ثقافة يمكن أن تلعب دور مهما ضد الثقافة الطائفية وتجلياتها الإرهابية بشكليها المضاد والمضاد له, من واقع أن الثقافة التنويرية في مفهوم يساريتها عند عبدالله خليفة هي إنسانية بطبيعتها ضد العنصرية والقبلية والمذهبية الطائفية.
إن الثقافة التنويرية هي ثقافة سلمية مناهضة للإرهاب وتدعو إلى السلم والحوار المدني بين الأطراف, حوار في علمانية الفكر والمنهجية الاجتماعية والسياسية بعيدا عن المذهبية الطائفية وتجلياتها المتطرفة بالعنف والإرهاب, وفي إثارة الفتن الطائفية بين أبناء الوطن الواحد.
ولقد كان الراحل الكبير عبدالله خليفة داعية ثقافة تنويرية وطنية علمانية يتجدد العدل فيها بين أبناء المجتمع الواحد, بعيدا عن المذهبية والطائفية, وكان رحمه الله من الداعين بتحرير المرأة البحرينية ومساواتها في الحقوق والواجبات ودفع الأذى عنها وتكريس إنسانيتها في المجتمع, وأنه من الأهمية بمكان وضع مؤلفات عبدالله خليفة ضمن المناهج التعليمية لأهميتها في تكريس الثقافة الوطنية التنويرية في المدارس التعليمية وتشبيع خصوصيات الناشئة بالثقافة الوطنية التنويرية, كما أنه من الأهمية أيضا وضع اسمه على أحد الشوارع في مملكة البحرين ليكون ذاكرة ثقافية تنويرية وطنية بحرينية لها مكانتها التنويرية في ذاكرة تقادم الأجيال.
شكرا لجريدة «أخبار الخليج» في شخص رئيس تحريرها الأستاذ أنور عبدالرحمن في رعايتها لهذا الحفل الجميل.. شكرا للجنة تكريم الأدباء في البحرين التي دشنت نشاطها في شخص الراحل الثقافي التنويري عبدالله خليفة».
بعد ذلك تم عرض فيلم تسجيلي لشهادات أصدقاء الأديب الراحل أكد فيه الشاعر علي السترواي أن رحيل الأديب عبدالله خليفة هو رحيل للرواية العربية، باعتباره كان ركنا كبيرا في الأدب الخليجي، مضيفا أن الأديب الراحل ارتبط بالعمال والبسطاء وكان يكتب عن المعدومين.
ويقول الأستاذ فهد حسين ان الراحل عبدالله خليفة كان إنسانا لأقصى درجات الإنسانية مع الجميع، أما الأستاذ يوسف حمدان فيقول إن عبدالله خليفة هو الرجل الذي قهر الموت بالكتابة، مضيفا أننا لو قمنا بجمع كل كتاباته ورواياته ومقالاته لوجدناها تضاعف من عمره.
عقب ذلك ألقى الشاعر علي الستراوي قصيدة شعرية بعنوان «عبيد».
ثم قدمت كل من د.ضياء الكعبي، ود.انيسة السعدون، ود.انتصار البناء رؤى بأبحاث حول النتاج الروائي للأديب الراحل.
وعقب ذلك تم عرض فيلم بعنوان «المتشرد» عن رواية «الاقلف» للأديب الراحل.
وفي ختام الحفل تم تقديم «وسام الإبداع البحريني» إلى الأديب والمفكر الراحل عبدالله خليفة، حيث تسلمها نيابة عنه شقيقه السيد عيسى علي خليفة البوفلاسة ، وعقب ذلك تم توزيع آخر رواية صدرت للأديب الراحل عبدالله خليفة بعنوان «خليج الأرواح الضائعة» على الحضور، وأيضا كتاب بعنوان «فضاءات السرد في أدب عبدالله خليفة» الذي يتضمن بحوثا ودراسات وشهادات جديدة حول نتاج الأديب الراحل.

عبدالله خليفة.. المبدع الكبير الذي فقدناه

أنور عبد الرحمن

الحديث عن الأستاذ عبدالله خليفة ليس أمرا سهلا رغم أنه كان زميلا لنا منذ البدايات المبكرة لنشأة «أخبار الخليج»، ورغم أننا كنا نتابع باهتمام كتاباته، لكنه في واقع الأمر كان إنسانا قليل الكلام مع جميع من حوله. كان عبدالله خليفة يطرح أفكاره من خلال قلمه، ولعل معظمكم يعرفه اكثر مني أو ربما على ذات القدر أو المستوى وذلك من خلال كتاباته وإبداعاته.
كان – رحمه الله – ينتمي إلى المدرسة الفكرية العميقة للفكر الماركسي، أو بمعنى آخر لم يكن يؤمن ولا يتقبل الشيوعية الغوغائية، وفي تقديري أنه كان من خلال فكره وأطروحاته أقرب ما يكون إلى المدرسة الماركسية الإنجليزية التي كانت سائدة في جامعتي أكسفورد وكامبريدج فيما بين حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وهي المدرسة التي كان من ابرز رموزها وأعلامها مفكرون من أمثال كيم فيليبي وجورج برنارد شو، وغيرهم من أقطاب النخبة المثقفة التي شغلت أفكار واتجاهات الرأي العام البريطاني في تلك الحقبة.
علمًا أنّ هناك فرقًا شاسعًا بين الماركسيين في كلٍّ من الصين وروسيا وحتى في أمريكا اللاتينية.
وباستثناء الصين كانت المدارس الماركسية تطغى عليها الأيديولوجيا السياسية، في حين هيمنت على التجربة الصينية الاعتبارات الاقتصادية.
ويستطيع المرء أن يقول إن التجربة الماركسية في الصين قد تمّ تفصيلها لتتناسب وتلائم الاحتياجات الاقتصادية والوطنية للمجتمع الصيني. وبالتالي كان على الزعيم التاريخي ماو تسي تونج أن يعيد صياغة الفكر الماركسي بما يتناسب وظروف الصين الاجتماعية والاقتصادية.
ومما لا شك فيه أن الأستاذ عبدالله خليفة كان انتقائيا في قراءاته إلى أبعد الحدود، وقد انعكس ذلك بجلاء على كتاباته.
فهو لم ينجرف مطلقا إلى تقلبات ما يجري في الشارع السياسي من مواقف مرتبكة وأحداث طارئة وكان يفضل الانتظار والتأمل والتفكير بعمق في كل ما يجري قبل أن يدلي بآراء كانت أحيانا تتسم بكثير من الجرأة إلى درجة أنها سببت نوعا من الصدمة لبعض رفقائه ومعاصريه، طارحا أفكارا تدعوهم الى مراجعة فكرهم ومناقشة مسلماتهم.
ويمكن القول إنه عبر ذلك النهج كان يمثل منبرا مختلفا بالمقارنة ببقية الكتّاب المسيسين، فقد كان مدرسة مستقلة بذاتها.
ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نشهد له أنه كان مثقفا عميقا مشغولا بالفكر وتغيير المفاهيم البالية في الوعي الاجتماعي والسياسي، ولم تكن له أي مطامع في منصب أو جاه كما يهفو الى ذلك كثير من المثقفين، بل كان – رحمه الله – سيد نفسه، وكان مثقفا زاهدا في كل هذه الأشياء، وكرّس حياته في معظم سنوات عمره من أجل الفكر والإبداع الثقافي في مجالاته المتنوعة.
وفي المرحلة المتقدمة من سنوات عطائه الإبداعي، نلاحظ أنه كرّس وقتا طويلا لمناقشة مشكلات الوعي التاريخي في تجربة الحضارة العربية الإسلامية.
فحين كتب عن التاريخ الإسلامي، وبالذات بدءا من مرحلة الدولة الأموية اتسمت كتاباته بمنطق العدالة والإنصاف وروح المؤرخ النزيه في نظرته الى تقييم المواقف والتحولات وخاصة في حديثه عن هيمنة الروح القبلية في تسيير شئون الحكم في مرحلة الدولة الأموية، وكان نهجه دقيقا في تشريح المشكلات والعوامل النفسية التي تحكمت في سياسات الدولة الأموية.
فعند تحليله للتاريخ العربي الإسلامي كان معنيا بفهم طبيعة وخلفيات الصراعات السياسية والعوامل التي أدت إلى تغذية أسباب العنف في تلك الحقبة التاريخية، محاولا البحث عن جذور مشكلات الوعي السياسي العربي والإسلامي وكيفية النهوض مجددا مع تفادي مخاطر تكرار الأخطاء التي وقع فيها العرب والمسلمون في تاريخهم القديم، وإن استند بالطبع في كل ذلك إلى قراءة التاريخ من منظور الفكر اليساري عموما، للذين هم خارج سلطة الدولة.
وفي تاريخنا المعاصر، لا بد أن نسجل له مواقفه الجريئة في انتقاد مواقف بعض السياسيين الذين اتهمهم بعدم العقلانية وغياب الموضوعية والاتزان في تفكيرهم السياسي، واعتبر نهجهم يتسم «بالمراهقة السياسية» وعدم إدراكهم أهمية البناء التراكمي في المسار الديمقراطي بعيدا عن القفزات الفجائية في العمل السياسي، وضرورة الابتعاد عن الأطروحات المتصلبة أو الجامدة والمتطرفة غير المواكبة لتحولات العصر والقراءة العميقة للتحولات الاجتماعية في المجتمعات العربية النامية.
ومن هنا نجد نقده الشديد لقوى اليسار والحركات القومية عندما اختار قادتها أن يضعوا أنفسهم تحت المرجعية الدينية وأن يكونوا أتباعا للنظرية الثيوقراطية الطائفية، وحذر مرارا من خطورة ذلك على مستقبل التطور الديمقراطي في بلادنا.
ومع الأسف الشديد، باستثناء الأستاذ عبدالله خليفة لم يستطع أحد غيره من أصحاب الاتجاهات التقدمية والماركسية أن يستدركوا ما استدركه كاتبنا الكبير من حقائق ومعطيات.
وهنا نشير إلى وقائع ما جرى في تجربة تاريخية قريبة حدثت في بلد مجاور، وهو إيران.
ففي سنوات ما قبل الثورة الإيرانية، أي خلال عامي 1977 و1978 نلاحظ أن القوى المعارضة للنظام الملكي أو الشاهنشاهي، سواء من جانب «جبهة ملي» أي الجبهة الوطنية، وهي حزب «مصدق» أو حزب «تودة» الشيوعي الإيراني قد استسلمت لاتجاهات الغضب في الشارع السياسي الإيراني الذي كان يقوده رجال الدين من الملالي بزعامة آية الله الخميني.
فقد كانت القوى المعارضة، سواء حزب مصدق أو حزب تودة، تظن أنه عند إسقاط النظام الملكي أو نظام الشاه فإن التقدميين وحزب تودة سوف يرثون السلطة، لأنهم كانوا يتوهمون أن الملالي ليست لديهم القدرة على إدارة دفّة الحكم، ولكن ما رأوه كان عكس ذلك تمامًا.
فلم يصل هؤلاء إلى السلطة وحسب، ولكن أيضا تمّ التنكيل بهم تماما وإعدام كثير من قادتهم.
ومن هنا يمكن أن نقول إن الأستاذ عبدالله خليفة كان فطنا وقارئا جيدا للتاريخ، فاستخلص هذه الحقائق المريرة من التجربة الإيرانية وما جرى فيها من أهوال وفظائع.
إن تاريخ الفكر والثقافة في البحرين سوف يذكر دائما للأستاذ عبدالله خليفة نجاحه في نقل الرواية والإبداع الأدبي إلى آفاق الثقافة العربية الواسعة، حيث كان يحظى باحترام وتقدير كثير من المثقفين والأدباء العرب في عموم الوطن العربي.
وكما تعرفون فإن عطاء الأستاذ عبدالله خليفة وإبداعه اتسم طوال مسيرته الأدبية والفكرية بالغزارة في الإنتاج والعمق في الكتابة والطرح سواء في المجال الروائي أو مجالات النقد الأدبي وصولا إلى كتاباته البحثية والنقدية العميقة لقضايا الفكر العربي والتاريخ الإسلامي.
لقد نجح عبدالله خليفة في تأليف أكثر من 30 كتابا منشورا ما بين روايات أدبية وكتب نقدية وثقافية وفكرية، وقد علمنا أن هناك 10 كتب أخرى أنجزها وكان على وشك إعدادها للنشر، وهو إنتاج غزير بالنسبة إلى مثقف في منطقة الخليج.
وفي الواقع، نحن في «أخبار الخليج» كنا دائما نقدر قلم وفكر الأستاذ عبدالله خليفة، وكنا نسمح له بأكبر مساحة من حرية التعبير لطرح آرائه وأفكاره لأننا كنا على ثقة من انتمائه إلى المدرسة العقلانية وانحيازه الى النهج التدرجي في التطور والتقدم إلى الأمام.
رحم الله الأستاذ عبدالله خليفة فقد كان واحدا من ألمع المبدعين في تاريخنا المعاصر .

وداعاً صديق الياسمين

محمد عبدالملك

وداعاً صديق الدرب الطويل، ويا له من طريق يا عبدالله قارب النصف قرن، نصف قرن وأنت تحمل أعباءه بين جناحين وتحلق بها بعيداً في آفاق دربك الأدبي، بدأت بأنين البحارة والفقراء والمساكين – الهيرات-، الذين لم يكفك أن تدافع عنهم وتعرض على العالم معاناتهم، منتهياً بكدح العمال في وقت الطفرة الاقتصادية. وطول نصف قرن كان أفقك يتنوع ويتعدد بين النضال الوطني السياسي، والكدح والحفر في القصة والرواية، وبهذا التنوع الثري أمضيت كل حياتك رفيقاً للجميع، متألماً معهم، ومفكراً في قضاياهم، لذا أحبوك في مجالات متنوعة، ومن شرائح متعددة. كنا نتمنى أن يستمر عطاؤك بضع سنين أخرى فمعارك التنوير ما زالت في حاجة إليك. كنت قلماً ذا مبادئ لا تهادن الظلام، سنتذكرك دائماً رفيقاً مخلصاً للأفكار المستنيرة، عقلانياً وثاقباً في النظر إلى التاريخ مصاحباً للمشاريع الحضارية الأكثر فائدة للناس، بهذا استبشرت الأمل بعد عقود من الصبر والكفاح. ولم تكتف برواياتك الكثيرة المتعددة التي وضعت البحرين في مصاف الرواية العربية. عملت بصدق وتفانٍ لتكون الرواية البحرينية في موقع منظور وبارز.
كوكب تنويري مشتعل أنت..
ذكرتنا بفولتير، وطه حسين والعقاد. مفكرُ أنت يشغل بالك عثرات الفكر العربي، كاتب أنت في مقال يومي طابعه الفكر والتحليل، متعدد الخبرات ثقافياً، مسافراً إلى أعماق الروح ولجتها، مسترسلاً في معاناة الناس الذين في القاع، أنت الذي نشأت في بؤرة جغرافية ساخنة بين حي العدامة والقضيبية مع طبقات المضطهدين في الأرض.
صديقي عبدالله سنتذكرك دائماً ونستعيد صوتك الدافئ الهادئ. ولقد عرفتك مناضلا تسهم في الانتفاضة الوطنية التي أشعلتها مع أصحابك أصدقاء الطريق والمحنة والفاجعة. عرفتك صديقاً للكادحين. كنت مفتوناً بسحر الكتابة يشغلك الوطن في محنه وانتفاضاته الكثيرة. لقد اخترت العقلانية منهجاً، ورأيت أن أشكال النضال تتنوع في مختلف المراحل، ولكن الهدف البعيد لا يتغير: مجتمع العدالة والحرية. صقلتك التجارب السياسية المريرة فعرفت أن جوهر النضال في فاعليته ومردوده على الناس، بذلك تركت الشعارات وتوجهت إلى الواقع. أذكرك يا صديق الدرب الوعر والكلمة الصادقة.
عزيزي عبدالله لم تكن عابراً في الطريق، وستبقى مشعلاً يضيء الطرقات المظلمة. ان المعارك التنويرية لم تنته، وأصدقاؤك لن يكلوا عن التنوير. يا صديق الناس، سيرتك عطرة وأنا أرويها والحزن يكبل نفسي على مصابك. فوجئت يا صديقي وفُجعت برحيلك وعطائك في قمة حيويته وبهائه، لذا كان ذهابك سريعاً ومفاجئاً وأنت في قمة عطائك: الكثير من الروايات ومن الدراسات الأدبية النقدية، الكثير من الكتب الفكرية والسياسية. لقد جئت إلى الحياة لتعيش وتكتب وتتعذب، وتسخر من ضعفاء الإيمان. اتصفت يا صديقي بتنوع الإنتاج الروائي من مرحلة «الهيرات» التي تشير إلى تضحيات الغواصين أيام صيد اللؤلؤ، إلى توهجات عمال بابكو، ثم عدت الى التاريخ فغصت فيه باحثاً عن ضوء العدالة، وبريق الحرية. الأسماء التي اخترتها كانت شبيهة بروحك، ومتفائلة مع أملك أن يُنصف الفقراء.
وداعاً صديق القلب.
وداعاً صديق الأفكار النبيلة.
وداعاً صديق الإبداع والخلق.
وداعاً صديق المضطهدين.
وداعاً عاشق الحرية.
وداعاً .. وداعاً.

عبدالله خليفة في ذمّة ثقافة التنوير !

إسحاق يعقوب الشيخ

يفاجؤك دون ان تفاجؤه و يدريك دون ان تدريه و يأخذك دون ان تأخذه أنه لغز كوني لا أحد يدريه .
لقد انتزعه دون ان يستأذن احداً منّا .
و كنا ثلّة من المثقفين تنادينا في لجنة تكريم الادباء و كان الروائي البحريني الكبير عبدالله خليفة قد جعلناه فاتحة نشاطنا الثقافي التكريمي .
دلف عليّ ذات مساء دون موعد كعادته تجاه اصدقائه و هو يقول كل ما اريده من لجنتكم الموقرّة نشر كتبي ولا اريد شيئاً آخر غير ذلك . و كنا سنقيم حفلاً ثقافياً معتبراً يليق بمكانتكم الثقافية و تسليط الاضواء دراسة على أهم كتبكم التنويرية و ان هناك فاصلاً سينمائياً لأحد قصصكم القصيرة يأخذ انتاجه لتقديمه في الاحتفال التكريمي بكم و العمل على الاتصال بجهات الجوائز الادبية لترشيحكم إليها و قد بلغنا شوطاً في هذا المجال على ان يكون الاحتفاء في الشهور القريبة القادمة , و كان يقاطعني بإباء ثقافة و انفة قائلاً لا اريد شيئاً الا نشر كتبي , قلت له لقد تكفلّت وزارة الاعلام مشكورة بنشر بعضها اننا نحتفي بالثقافة البحرينية التنويرية من خلال ما قدمته لها في هذا الخصوص .
إبتسم و قال : شكراً لكم ما تريدون و كان هاجساً يؤرقنا في لجنة تكريم الادباء ان نستعجل احتفائنا بالروائي التنويري الكبير عبدالله خليفة فهو يمر في حالة صحية غير مستقرة و كأننا كنا في سباق مع الموت .
إلا ان الموت سبقنا .
أهناك احداً يمكن ان يسبق الموت (؟) لقد كان الأجل المقيت يتحين خطفه على عجل . أدري ان نوازل الحسرة تأخذ نوازلها الممضة عند اعضاء لجنة تكريم الادباء التي كانت تريد ان تحتفي به و هو بيننا الا ان الرياح كعادتها تجري خلاف اشتهاء السفن عندنا .
عبدالله خليفة قامة ثقافية تنويرية بحرينية وفية ابية شامخة اثرت المكتبة البحرينية و العربية بأكثر من اربعين كتاباً تجسد ثقافة تنويرية تقدمية حداثية في حياتنا الفكرية و الثقافية , عبدالله خليفة ما انصفه احد حتى من الاقربين التقدميين من رفاق دربه ناهيك عن الاوساط الرسمية في مملكة البحرين الفتية .
إلا انه للحقيقة و الواقع : فعندما ذهب فريق من اعضاء لجنة تكريم الادباء لمقابلة رئيس تحرير جريدة اخبار الخليج الاستاذ انور محمد عبدالرحمن في دعم لجنة تكريم الادباء في الاحتفاء و التكريم لعبدالله خليفة كونه احد كتاب اعمدتها المميزين , ابدى رئيس تحرير جريدة اخبار الخليج انور محمد عبدالرحمن ترحيباً شهماً و تقديراً واعياً بتقديم كل ما يدعم لجنة تكريم الادباء مالياً و معنوياً مؤكداً اهمية لجنة تكريم الادباء في لفتتها الكريمة بإفتتاح نشاطها الثقافي في تكريم الروائي التنويري الكبير عبدالله خليفة .
إن مبدئية انسانية ثقافية و فكرية ارتبط بها عبدالله خليفة وطناً بحرينياً من اجل الحرية و الديمقراطية و التعددية و حقوق الانسان و ضد الطائفية و في التسعينات عندما اخذت الطائفية البغيضة تناهض النظام بالعنف و الارهاب و اضرام الحرائق في قلب مؤسسات المجتمع البحريني كان عبدالله خليفة يُدين هذه الاعمال الارهابية الطائفية حتى ان قوى ديمقراطية و قومية و يسارية انخرطت في حريق الارهاب الطائفي و قد اصدر عبدالله خليفة بياناً يندد بالارهاب و يدين رفاق دربه اليساريين الذي انخرط الكثير منهم بجانب الارهاب الطائفي .
وكان يقول عبدالله خليفة لا يعني انه اذا كنا نناهض قانون امن الدولة نهادن الارهاب الطائفي و ننخرط في انشطته و كانت نظرة له ثاقبة الجدلية في تصوراتها التي استهدفت عين الصواب في نهجها السياسي خلاف الكثيرين من رفاق دربه .
عبدالله خليفة ايها الانسان الكبير إن لك منزلة كبيرة في الثقافة البحرينية و العربية ستظل الاجيال تلهج بها على مدى التاريخ .
اليوم الثلاثاء 21 اكتوبر 2014 رحل عن الحياة .
العزاء لأهل عبدالله خليفة و لأصدقائه و مريديه و محبيه .
و عزاء خالص للجنة تكريم الادباء و للثقافة التنويرية في مملكة البحرين .

المنامة وثقافة التألق!
إسحاق يعقوب الشيخ

ان كل عواصم الدنيا في بهاء خصوصية سمة تألقها الثقافي وقد تألقت عاصمة مملكة البحرين (المنامة) تألقا ثقافيا مميزا ليلة تكريم ابنها الوطني البار عبدالله خليفة. وفي الثقافة يختلف المختلفون الا ان الود الثقافي بينهم لا يفسد لهم قضية وكان الاختلاف في وجهات النظر الثقافية تتشكل عند هذا وذاك وهذه وتلك (…) الا ان الوعي الثقافي الوطني للبحرين ما وحدهم في رؤى ومواقف وأدب عبدالله خليفة الذي استوى وتنمط بأدبيات الثقافة الماركسية اللينينية وكان عبدالله خليفة قابضا على جمر الوطن في مسيرة حياته الفكرية والثقافية وكان يمثل روح تمرد الوعي الانساني في حركة اليسار .
ان خصوصية عاصمة ثقافة مملكة البحرين (المنامة) في خصوصية ثقافة وطنية مثقفيها اكانوا من الذين يغردون في سرب اليسار او من الذين يغردون خارج سرب اليسار وكانت الثقافة الوطنية في يسارية واممية الروائي الكبير عبدالله خليفة هي التي وحدتهم وهي التي دعتهم الى تكريمه ليلة 30 ديسمبر 2014. ان الثقافة الوطنية التنويرية هي النقيض الابدي لثقافة الظلام والظلاميين من مرتزقه الطائفية في ثقافة الشيخ عيسى قاسم المكرسة في سياسة جمعية الوفاق الاسلامية ومن والاها في (وعد) و(التقدمي) وفلول البعثيين وكان عبدالله خليفة في وعيه الثقافي الوطني الماركسي الاممي قد ادرك دون غيره مبكرا هذه المخاطر الطائفية وكان في طليعة مناهضيها والمحذرين على الى ابعاد مخاطرها في شق الوحدة الوطنية البحرينية (…) ان من خصائص سمة التألق الثقافي في (المنامة) عاصمة مملكة البحرين ان نرى وعلى مدى سنين طويلة جريدة (اخبار الخليج) تحتضن بدفء عموداً ثقافيا وفكريا ونقدا ادبيا متألقا لعبدالله خليفة وهو يصرخ وطنيا في وجه الظلام والطائفية: بالعلمانية واليسارية الماركسية .
وهذه هي سمة الحرية والديمقراطية في سمة عاصمة البحرين الثقافية (المنامة) وهي سمة تشكل مفخرة الثقافة الانسانية التقدمية المستنيرة في مملكة البحرين وكان بودي ان اصوب شيئا في الكلمة الجميلة التي القاها رئيس تحرير جريد (اخبار الخليج) الاستاذ انور عبدالرحمن: اذ قال لغطا عن الراحل انه ماركسي وليس شيوعيا وانه ليس من الدقة فصل الماركسية عن الشيوعية من واقع ان الماركسية هي النظرية للشيوعية!
ان الاشادة الجميلة بالثقافة التنويرية اليسارية في انشطة عبدالله خليفة الثقافية والادبية والروائية رغم الاختلاف في المواقف والمبادئ ما يشكل هذا الجامع الثقافي الوطني التنويري في السمة الثقافية لعاصمة مملكة البحرين (المنامة).
ولقد كان لموقف الاستاذ انور عبدالرحمن رئيس تحرير جريدة (اخبار الخليج) تجاه راحل الثقافة البحرينية التنويرية عبدالله خليفة: موقف شموخ نبيل وكرم وعي انساني وتقدير وطني تجاه الثقافة التنويرية في ادب عبدالله خليفة اذ انهى كلمته الجميلة في التكريم قائلا: «وفي الواقع نحن في اخبار الخليج كنا دائما نقدر قلم الاستاذ عبدالله خليفة وكنا نسمح له بأكبر مساحة من حرية التعبير لطرح آرائه وافكاره لأننا كنا على ثقة في انتمائه الى المدرسة العقلانية وانحيازه التدريجي في التطور والتقدم الى الامام».
الا اني ازعم ان الاستاذ انور عبدالرحمن يقع في ذات التعابير البغيضة مثل: «الشيوعية الغوغائية» التي تكرسها الادبيات المضادة والتي لا تمت الى الثقافة الوطنية التنويرية بشيء والتي كان يرفع رايتها عبدالله خليفة خفاقة عالية على ارض الوطن .
ان الماركسية هي النقيض الجوهري للاساليب الغوغائية المغرضة ضد الثقافة التنويرية ولم تكن للماركسية مدارس متعددة ترتبط باسم العواصم في بلدان العالم كما يطيب للاستاذ انور عبدالرحمن ان يرى ان عبدالله خليفة ينتمى الى المدرسة الماركسية الانجليزية.
ان خبطا عشوائيا في الماركسية تنامى في كلمة الاستاذ انور عبدالرحمن..
ان المدرسة الماركسية هي ذات ماركسية كارل ماركس التي تنتمي اليها جحافل واسعة من المثقفين والعمال والفلاحين المضطهدين على وجه الارض وكان الراحل الكبير عبدالله خليفة ابنا وطنيا وامميا مخلصا بارا لأفكار كارل ماركس وقد انتمى مبكراً الى جبهة التحرير الوطني في البحرين واعتقل في زمن قانون امن الدولة سيء الصيت وادخل السجن بسبب انتمائه للأفكار الماركسية الشيوعية .
لا كما يرى الاستاذ الفاضل انور عبدالرحمن ان عبدالله خليفة لم ينتمِ الى الافكار الشيوعية التي تغرف افكار انشطتها السياسية الثقافية من الماركسية اللينينية وما كان عبدالله خليفة انتقائيا في قراءة مواقفه السياسية الفكرية كما يرى الاستاذ انور عبدالرحمن فالانتقائية عين الانتهازية .
لقد كان عبدالله خليفة فكرا وقلما وادبا في عين الواقعية الاشتراكية وتجلياتها في الصراع الطبقي ضمن المسارات التاريخية على وجه الارض فالراحل الكبير عبدالله خليفة هو نسيج وحده في تجلياته الابداعية والفكرية ارتباطا ثقافيا واعيا في ثقافة النهج المادي التاريخي الجدلي في الطبيعة والفكر والمجتمع وخلاف ذلك لا يمكن ان يلتئم بحقيقة عبدالله خليفة الفكرية والثقافية والسياسية.

ثمة شخوص، تحفر عميقاً في الذاكرة والروح والوجدان، وتبقى ماثلة شاخصة، بأبعادها الذاتية والإنسانية وعطائها اللامحدود، تعرفت على الكاتب والروائي والمفكر المرحوم عبـــــــدالله خلــــــــيفة لأول مرة في منتصف الستينيات وهو في بدايات تجاربه القصصية الأولى بنادي جدحفص، وبرغم ذلك اليوم المبكر من عمر الحركة الأدبية في البحرين فإنك لا تكاد تجد مقعداً حيث اكتظت القاعة بالحضور.

عبدالله خليفة كما عرفته قامة إنسانية، بقدر ما هو قامة كتابية وفكرية شامخة، وكما عرفت عبدالله في كتاباته القصصية والروائية والفكرية، عرفته أيضا في جانبه الإنساني العميق.. البالغ العمق.. عبدالله غيري لا يكترث لذاته.. لا يكترث بالأنا بقدر اكتراثه بالآخر.. كان لعبدالله أن يكون من أصحاب الثراء والوفرة والنفوذ، حيث كانت الأبواب مفتوحة باتساعها لو أراد، لكن عبدالله أبى إلا أن يكون عبدالله، وآثر أن يكون إنسانا يقبض على الجمر بيد ويواصل رسالته الإنسانية باليد الأخرى. كم كنت أتمنى، لو أن عبدالله قد قيض له أن يكتب تجربته الإبداعية بما حف بها وداخلها من وقائع وأحداث، وما تمخض عنها من حراك ثقافي وأدبي وفكري واجتماعي وسياسي، لكن عبدالله آثر «تواضعاً» أن يكتب هذه التجربة بأبعادها ومعطياتها بعيدا عن أناه المباشرة، حيث جسدها بصورها وأبعادها المختلفة تجسيداً فنياً وموضوعياً في إنسان الوطن البحريني العادي، فمعظم شخوص وأبطال رواياته وقصصه هم من مهمشي الفئات الدنيا أو الوسطى أو هم عصاميون معدمون، ناضلوا وكابدوا وأصروا على تدبر حياتهم وبناء ذواتهم الشخصانية، كما نجده في رواية الأقلف وفي ثلاثيته الينابيع، وفي غيرها من رواياته العديدة، التي تعتبر منجزاً وطنياً إبداعياً، ولعله الوحيد الذي يحسب له كتابة تاريخ البحرين الحديث ‹‹روائياً›› في ثلاثيته ‹‹ينابيع البحرين›› التي ستظل مرجعاً تأصيلياً مهماً لتاريخ البحرين والرواية السردية على السواء.

لقد رفد عبـــــــدالله خلــــــــيفة المكتبة الروائية في البحرين والخليج والمحيط العربي بنهر ثري من العطاء الروائي والدراسات الأدبية والنقدية، وتوج ذلك العطاء بكتابه  الموسوعي القيم ‹‹الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية›› وهو دراسة فكرية موضوعية رصينة في العقل العربي الإسلامي بدء بالزمن الأسطوري حتى العقل واللاعقل الدينيين.

رحم الله عبـــــــدالله خلــــــــيفة الكاتب والإنسان الذي لا يقل عطاؤه الوطني والإبداعي عن عطائه الإنساني، وقد كان غيابه المبكر وهو لم يزل بعد في ريعان العطاء الإبداعي فاجعة مني بها الإبداع التخيلي وخسارة كبرى للساحة الأدبية في البحرين والخليج والمحيط العربي.

الرحمة لعبدالله خليفة
خالد حسن يوسف
كاتب ومدون من الصومال

لا أعرف عبدالله خليفة شخصيا, ولم أعرفه إلى من خلال قراءتي لموقع الحوار المتمدن, والذي منحني وغيري دون اتفاق مسبق, حق النشر دون أي مقابل أو شروط تذكر, كما هو معتاد من قبل المواقع الغير مستقلة, وبالصدفة علمت أن الموقع يُحجب في بعض البلدان, من خلال الحديث مع بعض الأصدقاء.
قرأت للكاتب والمثقف العضوي, عبدالله خليفة, عبر الحوار المتمدن, ونال استحساني الإدراك العميق لهذا الانسان, ولفهمه لصور الثقافات الانسانية, الفلسفات والقيم الدينية, وأدركت أن ذلك لم يأتي من فراغ, بل من عمق تجربة معرفية ونضالية طويلة المدى.
لم أتحصل على الفرصة والمقدرة لقراءة كل الكتابات التي كتبها الأستاذ عبدالله خليفة في الحوار المتمدن, ولكني أطلعت على عدد من محدود من الدراسات والمقالات الطويلة والقصيرة التي كتبها في الحوار المتمدن, كان فعلا كاتبا متميزا ومفكرا قادر على العطاء المستمر, لا يكل عن تقديم مخزون المعرفة الذي تراكم لديه.
وعلمت بالصدفة أنه من عرب البحرين, وأنه كان قد أنضوا في حقل الحياة التنظيمية النضالية والبحث عن المعرفة منذ زمن بعيد, وتفهمت دوره وواقعه لكوني كنت قد أطلعت على التجربة الثقافية والفكرية ونضال اليسار في البحرين, منذ مرحلة مراهقتي بالصدفة, من خلال الصدفة وعبر مطبوعات ثقافية وسياسية تنظيمية كان يجمعها أخي الكبير وبمعنى أدق أبن عمي ومثلي الأعلى, وكانت تتحدث تلك المواد عن واقع البحرين والحركة الثقافية, النقابية ونضال اليسار فيه , منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي, والأستاذ عبدالله خليفة, كان جزء من ذلك الواقع في أرض البحرين.
ودون أي مجاملة ولاسيما لكوني من قوم ليسوا من أهل هذا السلوك, إلى فيما يحفظ الود, يمكنني القول أن الأستاذ عبدالله خليفة, كان يمثل بالنسبة لشخصي من أبرز الكتاب المثقفين, والذين كتبوا في الحوار المتمدن, كان صاحب مصداقية فكرية أستطاعت أن تضع أقدامها بقوة على واقع المجال الثقافي والفكري العربي.
وخلال الشهرين الأخيرين لفت إنتباهي أن الراحل لا زال يكتب بكم كبير وكيفية متميزة وقلت في نفسي أن مثل هذا الإلتزام الفكري ليس مرهق فحسب, بل هو قاتل بالضربة القاضية, أحببت أن أتواصل معه بأي طريقة هو وغيره ممن جذبوني بما قدموه على الحوار المتمدن, وبحكم ظروفي الخاصة, لم تتسنى لي تلك الرغبة في التحقق بعد.
وفجأة في 23 أكتوبر, وقعت عيناي على عدة مقالات لزملاء فهمت من محتواها, أن الأستاذ العزيز عبدالله خليفة, قد غادرنا جسدا, وكان ذلك بالنسبة لي تحديدا مفاجاة اسفرت عن رحيل إنسان تعودت على حضوره الثقافي والفكري المستمر, في موقع ثقافي, فكري إعلامي, أصبحت بجزء منه, ودون مبالغة سألت نفسي, هل يتحمل الحوار المتمدن غياب عبدالله خليفة؟! أعتقد أنه حاضر بيننا في ظل العطاء الفكري والمعرفي الذي تركه لنا.

وداعاً عرّاب الرواية في البحرين
وليد الرجيب
روائي كويتي

رحل عنا الأديب التقدمي البحريني عبد الله خليفة، وبهذا الحدث المؤلم فقدت الحركة الأدبية البحرينية والخليجية والعربية، عَلماً ورائداً من روّاد القصة القصيرة والرواية، إضافة إلى كتاباته النقدية والفكرية العديدة.
يُعتبر الفقيد عبد الله خليفة من رواد القصة القصيرة في البحرين، وهو من جيل الأدباء البحرينيين الذين أسسوا للحركة الأدبية الحديثة في البحرين، الغنية بالأدباء والنتاجات الأدبية رغم صغر حجمها وقلة عدد سكانها، من أمثال محمد عبد الملك وقاسم حداد وأحمد الشملان وعلي الشرقاوي وعلي عبد الله خليفة وفوزية رشيد، وغيرهم من الأسماء اللامعة، وقد خاض معارك فكرية مع زملائه دفاعاً عن الواقعية الاجتماعية ضد الشكلانية في الأدب.
وقد أضافت الحركة الأدبية في البحرين الكثير للحركة الأدبية الخليجية والعربية، بل وصل بعض الأدباء والشعراء منهم إلى الأفق العالمي، ولم يكن عبد الله خليفة وأدباء البحرين بمعزل عن قضايا شعبهم وهموم ناسهم من البسطاء، لأنهم كانوا منهم ومن أوساطهم، بل تعرض العديد ومنهم عبد الله خليفة للسجون، بسبب مواقفهم الوطنية.
رحيل مبكر لأديب وكاتب متدفق الإنتاج وفي أوج عطائه، ولم يكن موته خسارة للأوساط الأدبية فقط، بل كان عبدالله من المناضلين في صفوف الحركة التقدمية، وأحد قادة «جبهة التحرير الوطني البحريني» في منتصف الستينات والسبعينات، وسجن بسبب مواقفه الوطنية في سجون عدة في البحرين مثل سجن «جزيرة جده» وسجن القلعة وسافرة وجو، وتركزت أعماله وكتاباته على المسحوقين والمعدمين، الذين لم يكن غريباً عنهم، فهو ابن الطبقة الكادحة وابن عامل عاش طفولته بشرق القضيبية في بيت من الطين، ولذا جاءت كتاباته من خلال معاناته في الحياة ومعايشته للعمال والمهمشين، فكانت هذه الكتابات نقلاً صادقاً لمعاناة وكدح أبناء حيّه.
نشر أولى مجموعاته القصصية في العام 1975 بعنوان «لحن الشتاء»، ثم اتجه لكتابة الرواية لاحقاً مثل روايته الشهيرة «الهيرات»، ولم يكتف بالأعمال الأدبية ولكنه خاض غمار النقد الأدبي والفلسفة والكتابة التاريخية، مركزاً على الطبقات في المجتمع البحريني من خلال تفكيكه للمجتمع، وهو يعتبر أحد بناة التراث البحريني الأدبي والفكري، كما كتب العديد من المقالات، التي لم تحدْ عن مبادئه الفكرية وهموم شعبه.
وعربياً اُعتبر عرّاب الرواية البحرينية، واختير ضمن قائمة أهم الروائيين العرب الذين عبّروا في كتاباتهم عما سمي بـ«أدب البحر» في الرواية، كما كتب عنه العديد من النقاد والباحثين العرب.
كان الأديب والمناضل الراحل من أوائل من تعرّفت بهم من أدباء البحرين بشكل شخصي في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وارتبطنا بصداقة وثيقة منذ ذلك الحين، وفي بدايات صداقتنا كنت أستغرب من حديّته في النقاش، ثم اكتشفت أن تلك الحدية هي تعبير عن صلابته ودفاعه عن فكره الأيديولوجي ومواقفه الأدبية المنحازة للطبقة العاملة والفقراء والمسحوقين في ظل تعقيدات الواقع البحريني، بينما كان في واقع الأمر دمث الأخلاق وكريماً ووفياً لأصدقائه، ولم يتخل يوماً عن مبادئه الفكرية حتى لحظة وفاته.
رحم الله عبد الله خليفة، ولروحه السلام والخلود.

القلمُ الذي خبا
(مرثية للصديق الراحل ؛ عبدالله خليفة)
الجزء الأول !
حميد خنجي

أخذ الردى يحصد كل خلاني، واحدا أثر آخر – الخيام
جمعتنا صدفةُ الطفولةِ البريئة ونحنُ في بدايات المرحلة الإبتدائية (الصف الثاني الإبتدائي حسب النمط القديم والرابع الإبتدائي حسب النمط المستحدث). تعارفنا وتصادقنا -شيئا فشيئا- فيما بين الفسح المدرسية، وعبر زوايا وساحات مدرسة القضيبية الإبتدائية العامرة سنة 1960! عبد الله؛ من القضيبية القديمة (اللّينات) ومن الطبقة المسحوقة ذاتها، كجُلِّ أبناء ذلك الزمان: صبيّ نحيل في عمرنا ومن الجيل نفسه، خجول، مؤدب، مشغول البال بأمورٍ جديّةٍ لا تناسب صبية من عمرنا! لكنها سنوات الجمر تلك!.. مستهل ستينات القرن الآفل، حيث بدا مجتمعنا وبلدنا الصغير، وكأنه يبحث عن دوره المشروع واستقلاله المأمول. حين كان على موعد لنضالات جماهيرية شاقة من أجل الإستقلال الوطني والعدالة الإجتماعية؛ بشكلٍ باتت فيه البلاد وكأنها حبلى بأعاصير إجتماعية قادمة، بعد أن ورد إلى مسمعنا – مَروية من فم الآباء- عن أحداث الخمسينات السامقات (أضحت لاحقا أشبه بسنوات عجاف، لم تؤتِ أُكلها!)، التي عُرفت باسم : “حركة هيئة الإتحاد الوطني /54-1956 ” ، كأول حزب جماهيري علني وعفوي (اتذكر أحداثها كحلمٍ طفوليّ). هكذا مرت السنوات سريعاً.. حتى إلتقينا معاً، في نشاطٍ ثقافيٍّ جديٍّ، كأعضاءٍ في اللجنة الثقافية في “نادي الولعة الثقافي” في منتصف الستينات. كان العِبِدْ (اسمه المحبب لدي) شعلةً من النشاط، حيث كان يعد اسبوعياً ندواتٍ ثقافية وأدبية متميزة وكأنه أكاديميّ متخصّص، وأنا –غالبا ما- كنتُ أدير الندوات وسجالاتها.. وحيناً كان يساعدنا الصديق المشترك أحمد يوسف (الشّيبة). تيقن لي -وقتئذٍ- أن عبدالله قد برح الفكر القومي التقليدي العاطفي، الذي نشأ عليه تلقائيا، في مرحلة الصّبا. وأضحى الآن – بجهده الذاتيّ – منفتحاً على الفكر الإشتراكي العلمي. [هذا الكلام غير صحيح عبدالله خليفة لم يكن يوماً كذلك لم يكن من القوميون(الناصريون) او حتى من البعثيون فهو ماكسي في التحرير منذ سنة 1966/الاعداد] حدث هذا قبل التحول النوعي في الفكر السائد في بحرين الستينات، الذي تموضع –تباعاً- بعد إنتفاضة مارس سنة 1965 في شرقيّ العاصمة “المنامة”، المحاذية لفريق العوضية: القضيبية -القديمة بَدأً- والجديدة بعد ذلك (أرض مصطفى) .. ثم : الحورة (كانت فيما مضى معقلاً للقوميين العرب).. وهو ما عُرف لاحقا بـ”المثلث الأحمر”، في الأدب السياسي البحريني المعاصر(مثلث العوضية / القضيبية / الحورة)! يبدو أن النشاط السياسي والفكري في البحرين لا يسير على منوالٍ واحد.. بل عبر تعرّجاتٍ مضنيّة. والمُشكل أن النشاط السياسي والثقافي لا يتراكم، ولكنه يتقطع قبل الأمد اللآزم؛ كمشروعٍ لا يكتمل أبداً! (هذا كان رأينا المشرك دائماً). كم كانت الأنشطة البسيطة والمشروعة، المنبثةِ من الأندية الصغيرة (گُلستان/ الاتحاد/ التضامن / النور/ الفجر/ الولعة …) وعشرات من الأندية المتناثرة في مدن البحرين وقراها، المُهتمّة بأمورِ الشأن العام، والمستندة على تصوّر عقلاني؛ وهو أولوية التطور الديمقراطي السلمي للمجتمع البحريني (مشروع الدولة المدنية المؤسّساتية الحديثة)، الذي سيصبّ –لامحالةً- في المصلحة العامة ويحصنه من التراشقات والصراعات غير المحمودة .. وكم كانت المجابهة الرسمية، لتلك الأنشطة التربوية والتعبوية البسيطة، قمعيّة وحادّة (إغلاق الأندية واعتقال ناشطيها)؟!؟
هذا ما حدث لـ ” اسرة الأدباء والكتاب”، التي تعرضت لضغوطٍ رسمية مستمرة، منذ انبثاقها –صُدفة- كمعجزةٍ في نهاية الستينات (راجع الكتاب الجمعي:”سِفر الفقر والثورة” / كأول إصدار من الأسرة سنة 1969)..هنا أيضا كان الراحل عبدالله خليفة أحد فرسان الميدان (هو وصديق عمره ودراسته يوسف يتيم) .. كنا – أنا وبضعةِ أصدقاء – من المهتمين بالأدبِ والثقافة، نحضر الندوات تباعاً.. نساجل ونتداخل (نتفق في شأنٍ ونختلف في شؤون عديدة، من خلال السّجالات، التي كانت تجري فيما بين مريدي ايدلوجيتين متنافستين / التحرير والشعبية!). في ذلك الزمن الأثير والجميل المبجلّل بالإنتماء الوطني فحسب (لم يكن أحدٌ يعرف مذهب وطائفة صديقه ورفيقه أو منافسه الفكري!).. كان زمانٌ آخر، ثريٌّ بمعنى الكلمة!.. خاصة في النصف الأول من السبعينات، حين كان اليسار البحريني يكتسح الساحة السياسية، واستطاع أن يسجّل منجزاً تاريخياً قلّ مثيله في منطقتنا العربية والاسلامية.. من خلال هيمنة العناصر الوطنية الساحقة، في أول برلمان بحريني (كتلتي اليسار والوسط) نهاية 1973! فمن يستطيع أن يصدق، من شباب الجيل الحالي، أن مترشحاً سنّياً فاز في دائرة شيعية مغلقة وأن مترشحاً شيعيّاً فاز في دائرة سنية مغلقة؟! (أي زمان مشرق قد أفلّ، وأي زمان أسود قد أهلّ!) . أضحى عبدالله – وقتئذٍ- سياسي يساري محنّك، وكادراً متقدماً في حزبه! ثم جاء غول التفتيت المجتمعي، ليقضي على الصّيرورة التراكمية كَرّة أخرى، وذلك بإنقلاب الحكم على مشروعهِ، بُعيد الإستقلال (الحياة البرلمانية والدستورية) .. وعدنا القهقري إلى الوراء وعاد مجتمعنا إلى الخلف، لنبدأ من الصفر مرة أخرى
أعتُقل “عبد الله خليفة” مع رفاقه في ضربة أغسطس/ آب الملتهب سنة 1975 ، ودفع ثمن وطنيته وانتمائه الفكري غالياً (في حدود ست سنوات سجن)! غير أنه استفاد من وقته المعزول في القراءة المُركّزة والكتابة المتأنّية، ووضع المشاريع الروائية والتاريخية اللآحقة. بجانب المراجعة الفكرية ضمن عدد محدود من رفاقه، داخل السجن.. غير أن الأجمل أن “عبد الله” ظل وفياً لفكره الأصل، ونجا من موجة اللّبرلة، التي أغرّت الآخرين! ولو أنه أعاد الإعتبار لحركة التاريخ الموضوعية وهو ينآى عن الصَّبينة اليسارية والمواقف الشعبوية الحادة، المترافقة عادة مع حماسِ الصِّبا الأول، مدركاً بعمق سمة المرحلة الضرورية- موضوعياً- للمنظومة الليبرالية في البحرين – القادمة حتماً- بعد أن يأفل التيار الديني، المُهيمن في الوقت الحاضر! متفهماً في الوقت ذاته صعوبة آفاق الفكر اللّيبرالي والحداثي عامة، واشكالية انبثاق البرجوازية الحرة (الضعيفة أصلاً في دنيا العرب وفي التخوم الكليلة)، بسبب بيئةٍ تتّسم بسيادة اقتصاد ريعي خدمي/ غير إنتاجي (استهلاكي كسول). وبهيمنةِ موروثٍ عائليّ / إقطاعيّ / قبليّ، ينطلق من مفهوم الرّاعي والرّعيّة والمكرمات..الخ..!! كنا، عندما نلتقي صدفةً، نتفق في أغلب التحليلات والرؤى والظروف الصعبة، المحيطة ببلدنا الصغير كونه ضحية الجغرافيا والتاريخ! بجانب إدراكنا تدني درجة المرتجى، المأمول من سقف المطالب. ومحدودية الخيارات المتوفرة للحكم، الأمر الذي لا يدركها الكثيرون من النّخب السياسية! وكنا نختلف بالطبع في أمورٍ شتّى (أغلبها نظرية). غير أن همّنا الأكبر، منذ أحداث 2011 الملتبسة، أضحى الإنشطار المجتمعيّ الخطير(بغض النظر عن المسبّبات)! وما كان يؤرقنا –خاصة- تراجع الدور الرائد للانتلجنسيا في البحرين، وتآكل زادها الفكري، الأمر الذي تسبّب في بروزِ مواقف ضبابيّة وعَصبيّة / عاطفيّة، مبنية أساساً على آليةِ الفعلِ وردِّ الفعل، وعلى “لعبةِ كسرِ العظم” الجاريةِ بين قطبيّ الرّحى! ولعل أكثر ما كان يكدرنا هو ارتهان ما بقي من التيار الديمقراطي والعلماني (اليساري والعروبي) لقوى الاسلام السياسي الشيعي؛ المتشنّجة والمنفلتة من عقالها.. متخندقين معا في متراسِ ما يسمى بالمعارضة “المجلجلة”، المتكئة على نظرية “الغلبة”! والأدهى أن هذه المعارضة تنعت “الأغلبية الصامتة” والعريضة، من المكون الآخر من الناس بـ ” الموالاة” / أي السلطويين!! هذا بالطبع مع تفهمنا وتقديرنا للمطاليب المشروعة، التي ترفعها المعارضة هذه – من جهة. وإدراكنا لخطل تكتيك “الهروب إلى الأمام” المتجسد في تهرّب الدولة من الاستحقاقات الضرورية – من جهة أخرى- لرأب الصّدع بين الأفرقاء الأقوياء والتوقيف الفوري للنزيف والانشطار الاجتماعيين واحياء مشروع جديد يخرج البلد من هذا المأزق الخطير؛ بل “المتاهة”- أشبه بالثقب الكونيّ الاسود- التي قد تقضي على الاخضر واليابس، إن تُرك الحبل على الجرار فترة أطول، بلا تدخل فوريّ من أصحاب القرار!.. هذا كان محتوى رأي وهواجس المُفكّر والأديب الكبير؛ الراحل عبد الله خليفة ..

مبدعٌ يستحقّ التكريم
حسين السماهيجي

يعمل الروائي البحريني الكبير الأستاذ عبدالله خليفة، بدأب وصبر، على ترسيخ تجربته الكتابية والإبداعية عمومًا، بما يشكّل حالاً متميزة قلّ نظيرُها من الإخلاص والتفاني، من دون النظر إلى المكاسب الآنية والعاجلة، وبما يحافظ على ذاته المبدعة من الوقوع رهينةً لواقع كان – ولايزال – شديد القسوة تجاه المبدعين الذين يحملون على كهولهم عبئًا شديدًا في خلق حال من التواصل بين المبدع من جانب ومجتمعه من جانبٍ ثانٍ.
هذا المبدع الذي تكرّس في أعماله على قراءة نماذج وشخوص من قاع المجتمع، ينتمي هو – بهمومه وأحلامه الإنسانية تجاه الآخرين – إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة نفسها التي عانت شظف العيش، وأحلام الأفكار. ودفع ضريبة ذلك كله سنواتٍ من عمره في المعتقل، دفاعًا عن آرائه وحريته في الالتزام. ومع خروجه من المعتقل، لم يعرف التراجع عن آرائه وأفكاره، وبقي مُصِراً على الانتماء إلى الهامش الاجتماعي نفسه الذي خرج منه. ولعلّنا من هذه البوابة، بالذّات، نفهم ونقرأ كتاباته عبر عموده اليومي في الزميلة «أخبار الخليج»، وبقية مشروعاته الفكرية التي يعمل عليها ضمن أوراق بحثية عدة قرأناها له، وليس آخرها ورقته التي قدّمها في أمسية أسرة الأدباء والكتّاب بتاريخ 27/12/2004م عن «الحركات التغييرية في التاريخ الإسلامي الأول».
ومع التأمل الجاد في نتاجات عبدالله خليفة، سنجد أنها تصل بين جهده الفكري وجهده الإبداعي عبر ثيمة «الهم الاجتماعي»… ولكن مع ضرورة الالتفات إلى جملة من الملاحظات التي ترد على أوراقه البحثية. ولنأخذ ورقته الأخيرة التي قدمها بأسرة الأدباء مثالاً على ذلك. فقد كانت ورقته وفية لمنهجية تلتزم بالطرح المادي كمعطىً أساسي في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية. وهي منهجية على رغم أهميتها الشديدة في العرض والتناول، فإنها من المتوقع جداً، وقد حدث مثل ذلك كثيراً أن تغفل معطياتٍ أخرى ربما تفوق في أهميتها هذا المعطى، وهي- حتمًا – لن تقلّ عنه أهمية. ولعلّ الأفكار والقِيَم – وعلينا أن نتذكّر إخلاص المبدع «عبدالله خليفة» لأفكاره ونظام القيم الذي ينتمي إليه كان حاسماً في مساره الخاص، ويبقى حاسمًا لآخرين كانوا يشكّلون وجوداً شعبياً مهماً في لحظة تاريخية – تحظى في كثير من الأحيان بأهمية قصوى في كشف جوانب نموّ الحدث التاريخي، وخصوصاً إذا كان ينتمي إلى جبهةٍ معارضة للسلطة، سواء كانت سلطة فكر أو سلطة مال وامتيازات أو حكومة. هذا مع الالتفات إلى أنه لا يمكن إيجاد فاصل حاد بين الأفكار والقيم من جانب وبين سلطة المال أو الحكومة من جانب ثان. فتحدث اشتباكات كثيرة بينهما، لا يمكن أبداً تجاهلها حال تفسير الأحداث والحركات، وتطور الأفكار، ونموّ الشخوص التاريخيين. وهنا، علينا أن نعلم أننا واقعون في نطاق مأزوم بين الواقع والزيف التاريخي. وليس، ثَمَّ، تاريخٌ واحدٌ مستقرٌّ بل تواريخ تتسم بالتناقض الشديد. ويضاف إلى ذلك سؤالٌ أساسيٌّ يتوجّه إلى ضرورة تدقيق استخدام المصطلح. فما المقصود بالحركات التغييرية؟ وما المقصود بالتاريخ الإسلامي الأول؟ وهل لهذا التاريخ الإسلامي الأول أن يتجاوز فترة «الخلافة الراشدة» إلى العصر الأموي ثم العباسي؟… إلخ.
إن طرح مثل هذه القضية، بلحاظ التشعب والتشتت وسعة المساحة التاريخية موضع النظر، سيوقعنا في مأزق التعميم، وتناسي تفاصيل لها خطرها الشديد. وكيف لنا أن ننسى، على سبيل المثال، أنّ الأرستقراطية القرشية متمثلة في الحزب الأموي قد استطاعت تشكيل دولة داخل الدولة، وقد حدث هذا كما يعلم سائر المؤرخين والمهتمين مع تولي معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام خلفًا لأخيه يزيد، أيام الخليفة عمر بن الخطاب. ولعل واقعة لقاء الخليفة واليه عند زيارته للشام تكشف عن خطين متناقضين في الإدارة، من الناحية الظاهرية على الأقل. وكان خطّ الأرستقراطية القرشية بزعامة الحزب الأموي خصوصًا، يعمل بدأب وهدوء لاسترجاع ما كان قد خسره أيام حربه المعلنة ضد النبي محمد (ص)، وقد نجح سياسياً في ذلك نجاحًا معلومًا لذوي الشأن. ثم إن تغلغل الحزب الأموي، وعبر تحالفات شديدة مع أطراف أخرى، قد حصّن نفسَه بنطاق من الأفكار والقيم بدأت باكرًا أيام الخلافة الراشدة، ولم يكن ما حدث أيام الحرب التي شنّت على الإمام علي (ع)، وما بعده، إلا ثمرةً يانعةً تمّ قطفُها بعد جهد جهيد، وعمل مخطط. ولم يأل أقطاب الحزب الأموي جهدًا في مواصلة تعميم هذه الأفكار والقيم، وتنمية شخوص على حساب شخوص أخرى، وطبقات على حساب طبقات مضادة، بما يحافظ على ديمومة حياة الأرستقراطية القرشية بوجوهها المتجددة، وجوهرها المتناسخ.
ويبقى أن كل هذه الملاحظات والإشكالات التي ترد على عمل عبدالله خليفة، لا تقلل من قيمة جهده البحثي، وهو جهدٌ يتسم بالرصانة والحرية في النظر، بعيدًا عن الارتهان لمسلّمات سابقة موروثة ومتعارف عليها. وهو، على أية حال، المبدِع الذي لم يعرف نتاجه تراجعًا ونكوصاً عن مبادئ وقيم وشخوص وحوادث لم ينفصل عنها قط.
إن الروائي والكاتب عبدالله خليفة نموذجٌ للمبدع الحر الذي أنجبته هذه الأرض الطيبة الولود، والمستحق للتكريم. وذلك أدنى ما يمكن أن يقال عن مبدع استمر أكثر من ثلاثة عقود متواصلة قابضًا على جمرة الفكر والإبداع .

وداعًا يا رفيق الدرب
كلمات في رحيل الكاتب والروائي الكبير عبدالله خليفة
جعفر محمد علي

يوم الثلاثاء 21/10/2014 هو يوم حزين ومؤلم في حياتي، كيف لا وأنا فقدت فيه صديقاً عزيزاً حميماً إلى قلبي ورفيق درب قريباً إلى عقلي، سنون طويلة مرت في حياتنا تقاسمنا فيها حلو الحياة ومرها، وتقاسمنها فيها حب النضال والتضحية، لقد كنت يا صديقي إنساناً نقياً صادقاً أميناً محبا للحياة مناضلاً صلباً يروم الصعاب، وقد كنت يا رفيقي روائياً معبراً وأديباً مفعماً ومكافحاً في الحياة.
ولم يجف قلمك إلا سويعات قبل الرحيل، وقد تركت مخزوناً ثقافياً يخلد أسمك في سجلات تاريخ الفكر الإنساني وإبداعات التنوير الأممي. أودعك يا رفيقي الوداع الأخير، أمسك دمعاً فجره قلب حزين، أودعك على مثواك الأخير وذكراك في القلب لا يمحوها قبر صغير. رفيق دربي لقد شاءت الأقدار أن نفتقدك في يوم حزين وزمن صعب وهكذا الحياة الكل يبدأ والكل يسير نحو المسار نفسه، وصبراً جميلاً لعائلتك الكريمة وأصدقائك الذين اقتسموا معك درب الحياة والنضال.

هل حقاَ رحل صاحب القلب الأبيض؟
محمد أبوحسن

رحل عبدالله خليفة بثوبه الأبيض كقلبه الأبيض.. رحل بعد أن عرفناه انسانا لا يساوم على الكلمة حين يختزنها في ذاكرته التي مُلئت بالحروف والمعرفة العلمية الأدبية كجزء من حياته الأدبية الفكرية. والتي أعطى منها الكثير.
رحل عبدالله خليفة ذاك الرجل البسيط في انسانيته وتواضعه لم يفقه معنى المغالات في اتجاهاته العملية حتى في خصوصياته مع زملائه ومحبيه. نعم عرفته أديبا وكاتبا يكتب الحرف بصدق الكلمة.. بصدق المعنى حيث يختزن الألم ليجسد الصورة الحقيقية في حياته التي منها خلق ذلك العطاء الوافر بالوحدانيات سواء كانت رواية أو مقالة أو قصيدة شعر يدندن بها.
كان الأستاذ عبدالله خليفة رجل المهام، حيث أعطى للثقافة سطورا تسجل معانيها صوت المعنى الحقيقي في أوتاره الفنية الأدبية بالتراث البحريني العريق. القصة والرواية.. الوجدانيات في نوعها. كل ذلك كان له دور ومكانة أدبية في بناء تلك الشخصية العامرة بالفكر والأدب والمقالة الأدبية في تاريخ البحرين. حيث اتجاهه النضالي والهمي تجاه هذا البلد.
كانت لشخصية الأديب مكانة تجسد شخصيته في كل محطة من محطات حياته بين الجموع من المعارف الأدبية على الساحة البحرينية تتجلى فيها الصورة النضالية في حياته العلمية والأدبية والمهنية، حيث كان ذلك صراعا من أجل بناء تلك الشخصية. فحين تقرأها عن قرب تراها واضحة أمامك كوضوح الشمس حين تشرق في بعد مداها وحين تقترب منها أكثر تراها واضحة أيضا لتراها عذبة كعذوبة الماء رقراق في تدفقه.
رحل عبدالله خليفة رجلا رائعا بقلبه وروحه محبا لزملائه.. رحمك الله وأسكنك فسيح جنات وألهم أهلك وذويك الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون

عبدالله خليفة .. كي لا يُدفن مرتين !
احمد البوسطة


في الحادي والعشرين من أكتوبر 2014 خسرت الساحة الثقافية والأدبية والسياسية والصحافية , البحرين ومنطقة الخليج عموماً واحداً من أبرز روائييها , كتابها الصحافيين , باحثيها الجادين , مثقفيها النقيين ومبدعيها الذين انحازوا لنصرة المعذبيين على البحر واليابسة , ودفع ضريبة مواقفه وعشقه للحرية والتنوير والانتماء الوطني , هذا الانسان اسمه عبدالله علي خليفة البوفلاسة.
عاش حراً ومات حراً .. مات ولم يملك شيئاً غير مؤلفاته الغزيرة , ولكنه عاش ولم يتملكه أحد أو يجيره , ألف أكثر من 60 مؤلفاً بين رواية ودراسة وبحثاً نقدياً في الأدب , كانت له كتابة يومية للرأي في “الافق ” وتحقيقات صحافية ميدانية وكان مسؤولاً عن تحرير الصفحات الثقافية .. بعد وفاته لا زالت تحت الطبع ثمان روايات جديدة لم تطبع بعد من بينها رواية “رسائل جمال عبدالناصر السرية” ورواية “ابن السيد” وخليج الأرواح الضائعة” بالإضافة إلي الجزء الرابع من سفره الفكري الكبير : “الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية” تحت عنوان ” تطور الفكر العربي الحديث” وكلها تنتظر الولادة .
حتى آخر يوم في حياته كان يقرأ بنهم ويكتب بغزارة , فكانت آخر قراءاته رواية “وجهان لحواء” وجدها شقيقه عيسى بالقرب من وسادته وبين اورقها رشوتات المستشفى وعشرة دنانير , هذه الرواية الأخيرة التي قرأها من تأليف “أمريتا بريتام” واحدة من ضمن سلسلة “إبداعات عالمية” للعدد رقم 326 من هذه الإصدارات التي ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب الكويتي . آخر ما خط به قلمه في دفتر مذكراته كلمات توديعية مؤثرة قال فيها : تأتي الريح وتقذفه بعيداً بين أشجار العصافير وأجنحة النسور .. يمضي مع ورق الشجر المتطاير من الصخور وثلل بشرية خريفية تتساقط في المدن.. يشق طريقه تترامي قراطيس كثيفة له في الأزقة .
في البناية الرثة (…) كلمة غير واضحة . ربما قصد بها “أشاهد” الحمامات , تعيش في الشقوق وتتزاوج ( يتحث عن الشقة العتيقة التي سكنها طيلة 21 عاماً و المبنى المقابل لشقته حيث كانت الشقوق محاكر للحمام)
يخبرنا في أخر كتاباته : ” أخوه يحيط به مثل الشجرة . من أصابعه يظهر الحليب والبيض وأصوات المعادن .(الاواني)
الآله تطلقه في الفضاء .. ومليون دواء , الشارع مغلق.”
( يتحدث عن شقيقه عيسى الذي كان جليسه الوحيد في الشقة العتيقة حتى آخر أيامه ويقوم بخدمته).
كتب الروائي اليساري الراحل عبدالله خليفة هذه الكلمات الأخيرة بخط يده وهو يحتضر قبل يوم أو يومين من رحيله على ما يبدو , واضح من ارتجاف قلمه في يده وتباعد الحروف , لكنه أبي إلا ان يكتب آخر الحروف بوداع حزين يختزل شذرات حياته بالعطاء الأدبي والفكري والنضالي التاريخي الدائم بعد ان أضناه مرض العضال الذي نتشر في جسده ولكنه لم يستسلم له حتى آخر دقيقة من عمره .
هذا الإنسان الرائع والمبدع والنقي الإيديولوجي . بالمناسبة كان عبدالله حين يمتدح شخصاً من رفاقة ومحبيه بم يكن بين الحضور لا يقول “هذا الرجل” بل “هذا الإنسان ” بما فيها من دلالة لا شوفينية ولا قومية ولا أو عقائدية , كان يكتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر الستينات حتى غدت مؤلفاته في النقد الأدبي والرواية وقضايا الفكر أبرز كتاب الخليج
قاطبة غؤارة ومضمونا , لكنه وللأسف لم ينل التكريم اللائق من دولته , ومن يقرأ روايته :”ذهب مع النفط” ويتمعن في سطورها وتحطيم المثقف يعرف السبب , ومن يقرأ رواية :”أغنية الماء والنار” وراية “امرأة” و”الينابيع” ملحمة الملاحم و”لحن الشتاء” إلي أخره…
فقدنا عبدالله الذي كان شعلة نضال وبرفقته تعرف إنه صفحة للبياض الأول وإنساناً يجاهد الوقت والنسيان , فلا تنسوه مثلي!… لك الخلد أيها الرفيق الصديق النقي الطاهر .

عبد الله خليفة وطن للثقافة وثقافة للوطن
يوسف الحمدان

إن الثقافة الوطنية في عالم الكاتب المبدع و المفكر الجسور عبد الله خليفة جزء من مشروع فكري كبير وواسع يجوس أعماق و آفاق محطات و منعطفات و تحولات و صراعات حدثت و تنامت و تداخلت و احتدمت في أرجاء و أصقاع الفكر العربي و الإسلامي القديم و المعاصر
ولعل الرؤية التقدمية المستقلة الثاقبة و الفاحصة و الشاخصة لدى كاتبنا الوطني المفكر عبد الله خليفة في هذه الثقافة المشروع لا يدع مجالا للحديث عن الرأي الانطباعي أو الحديث عن التجربة الإبداعية بمعزل عن مشروعه الفكري أو الوقوف عند سيرته الذاتية بمعطياتها التقليدية الأفقية الناجزة أو الوقوف دون خوض في مختبراتها النضالية و الصراعية الشاقة ، انه يتماهى فيها دون هوادة وكما لو أنه جبل بذات قّدت من فكر منذ الصنيعة الأولى لخلايا وعيه .
و هكذا وعي ثقفن ذاته لا يمكن أن يكون سوى مشروع . و هكذا مشروع لا يمكن أن يكون سوى أنشودة أنغولية تنشد الحرية و تشدو بها.
هو عبد الله خليفة الذي مذ فطنت خلايا ذاكرتنا به و هو المهيأ لحوار ساخن لا يهدأ أواره و هو المعترك في المساجلات و السجالات الفكرية العميقة ، هو المسكون بالهم و الوطن و الحلم و الفرح و الأمل ، هو المنتصر لكرامة الإنسان و كبرياء الفقراء و الكادحين و المسحوقين ، لا يهادن و لا يساوم ولا يجامل ، شامخا باسقا كنخيل بلادنا ، نضرا و إن كان وحيدا كزهرة البيلسان ، تشتد أغصانه و تخضر كلما كابدته معاناته و معاناة شعبه و وطنه ، يمضي على قلق و هو ينافح عن فكره و رأيه كالرمال المتحركة ، فضاؤه الفكري مساحة للجدل و الخلق ، وقته زمن غابوي كثيف للإنتاج و الإبداع .
منذ استباره بحر الرواية و هو لا يكف عن البحث عن اللآلئ المفقودة أو ربما عن فردوسه المفقود ، عبد الله في سعة البحر و في لجته و في عمقه و في كل تفاصيل و تضاعيف و تقاسيم الوطن ، في مدنه و قراه ، في أساطيره و تراثه ، في دهشته الساحرة و المسحورة ، في ينابيعه الظمآنة ، في ألحان شتائه الشجية و في أغانيه المائية و النارية ، في نسائه الباذخات و في نسائه الشامخات الشاهقات ، ما الذي لم يكتبه عبد الله خليفة عن الوطن ؟ لا شك أن المخيلة معتمرة بقصائد لم تنشد بعد ، كأقلفه الثمانيني الذي أثار جموح اللغة و الفكر في الثالثة بعد الألفين ، و كمشاريعه الفكرية التي تنتظر مصداقية شفافية الزمن لتجلو في سماء الفكر العربي ، عبد الله الذي ما أن تغيب عن البال شاردة إلا هو واردها ، عبد الله الذي يرى في الفكر والفكر وحده زاهدا من عمّده بالكرامات و الجوائز و التحافي و التزكيات المرسمنة ، هو القارئ للحياة مثلما هو السابر في الفكر ، حياته ، فيئه ، ظله ، أصدقاء و عمال بسطاء ، و من فكره في حياته يجود و لا يبخل ، و من وحي و من رحيق صحبه و معينه يتجسد رواية أو قصة أو دراسة أو مسرحية او مقالا .
الثقافة المشروع لدى عبد الله خليفة وسط هذا المشغل الحياتي الفكري المركب ليست آنية أو طارئة ، هي أزمنة تتداخل و رؤى تتصارع و مطاليب تتمأسس و تاريخ حافل بالمكائد و الدسائس و النضال و المواجهات العنيفة ، هي قراءة للراهن و المستقبل ، قراءة لم تعقها جدران الزنازين الرطبة و ظلامها الفاتك ، ولم تغوها المغريات .. الثقافة النيرة المتقدمة هي أولى الأولويات الفكرية لدى عبد الله خليفة ، فمن يزعم بأن الثقافة آخر الأولويات في مشاريعنا الوطنية لا يدرك في الشأن السياسي سوى أخماسه و أعشاره ، و لنا في نقيضه أسوة بذخائر عبد الله خليفة الفكرية ، و لو أحصينا نتاج عبد الله خليفة الفكري و الإبداعي كما و نوعا و تميزا لرأينا أنه – عبد الله – لا يزال شابا يافعا فارعا يتحدى الزمن و كما لو أنه يشكله كيفما يشاء ووقتما يشاء .
متى يسترخي عبد الله خليفة ؟ علّ في إلتياذه للفكر شاغلا و منشغلا ينشد اجمل منتجع للاسترخاء .. أو بعبارة أكثر استرخاء يبدو أن عبد الله خليفة لا يسترخي إلا حينما يسترخي شاغلا ومنشغلا .
للثقافة الوطنية جذور و للوطن جذور و لعبد الله خليفة جذور الثقافة و الوطن .
عبد الله خليفة فكر للوطن ووطن يفكر في مساحات الوطن الأوسع
عبد الله خليفة وطن للثقافة و ثقافة للوطن .

حملتك السواعد التي أحبتك
بدر عبدالملك

ننتمي أنا والرفيق عبدالله خليفة إلى جيل 48 وكان قدرنا المدرسي حوش مدرسة القضيبية، حيث هناك ضجيج العصافير الصغيرة التي دخلت فضاء التعليم في مدرسة لتوها فتحت في منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم، ولم يكن ذلك الطفل الشاحب الضامر الأسمر يبدي أي اهتمام مثلنا بالرياضة أبدا، وكنا حينها نسمع عبارات غريبة وغامضة عن هؤلاء سكنة «بيوت اللينات» في القضيبية’ حينها اكتشفت موقع تلك البيوت المتشابهة المصطفة كوحدة سكنية شيدت للشريحة الدنيا والفقيرة كمشروع اسكاني بلونها الاسمنتي وتصميمها البدائي الكئيب فيذكرك بتلك البيوت الروائية في قصص ماركيز وبيت الأشباح، عالم بحريني بسيط جاء من مناطق مختلفة في البحرين جمعتهم تلك البقعة الجديدة من طرف حزام حي القضيبية الواسع المتنوع بتركيبته الاجتماعية والطبقية، فقد كان يفصل تلك «اللينات» من جهة الشمال حي الحورة والتي ستمنحنا ولادة كاتب وقاص وروائي مثل محمد عبدالملك وحي العدامة تلك البقعة من بيوت اعشاش النخيل التي منحتنا موسيقيا كمجيد مرهون وستمنحنا القضيبية المعدمة كاتبا وقاصا وروائيا وباحثا وصحفيا مثل عبدالله خليفة ’ غزير الانتاج ومثير للأسئلة والحوار.
في تلك البيوت الاسكانية الواقفة في وجه زمن عاصف وبيوت كادحين مجاورة لرطوبة بحر مفتوح سيشهد من نافذتها عبدالله حياته القادمة في ذلك الحي، الذي تشده أقدامه في وحدته نحو الشاطئ ليسكن في عزلته نحو مشهد البحر وبوارج الانجليز القريبة ومهبط الطيران البحري هناك لتبدو له الحياة اعجوبة سحرية، بين تلك المسافات المربكة للطفل واليافع بين بيوت الانجليز الانيقة ونحن في طريقنا للمدرسة وبيت سكينير الكبير وصراخ صبية صغار سمر وسود وببياض الثلج هم تلك السحنات الغريبة وبيوت الاثرياء الجدد وبيوت واسعة كبيرة بيضاء للعائلة الحاكمة، التي استوطنت المكان قبل الجميع، وكأنما القضيبية بؤرة تستجمع تركيبة بحرينية جديدة من الاثنيات والأعراق والنسيج الاجتماعي الجديد، حيث ستكون لاحقا في وعي ولا وعي عبدالله خليفة الفضاء الروائي الدائم، فطبول العدامة ورقصها المسائي تصل إلى اذنيه لشارع يفصلهما، ورطوبة البحر تتسلل إلى جدران تلك البيوت النائمة في ملكوت الانتظار والايقاع الرتيب ثم الايقاع المتغير مع رخاء النفط والحداثة. فهل نستغرب من جيله تلك المزاوجة والتداخل والتحولات المجتمعية واللوحة الجديدة لحي القضيبية، الذي كانت مدرسته حاضنا لنا جميعا كمدرسة حكومية في زمن لم تكن فيه تمايزات طبقية حادة تفتت العلاقات الانسانية؟ في تلك التربة الشعبية من بيوت «اللينات» (اللينات من كلمة لاين line الانجليزية لأنها كانت تختلف عن البيوت العشوائية الاخرى بأزقتها، فبيوت اللينات وحدة سكنية متناسقة ومتشابهة وعلى تقابل وتجاور بين تلك الوحدات) وما حولها من مكونات سكنية جديدة، تشربت روح عبدالله خليفة المعاناة المبكرة سيجدها في خياره الايديولوجي الفكري الماركسي والانتماء العقائدي الحزبي لجبهة التحرير الوطني، لفكر كان يومها يدعو للدفاع عن الكادحين والفقراء، وكانت الصدفة التاريخية أن تتلقفه اسماء من الجبهة لتصهره هناك في معمل الزمن والعمل السري والالتصاق الاعمق بفكرة الكتاب والقراءة والتلخيص والولوج لحياة شائكة ومرهقة تستنزف منك طاقاتك الكامنة الابداعية إلا انها من الجانب الآخر تفتح عينيك على وعي مبكر للحياة بكل ما يدور من حولك من صراعات يومية طاحنة من اجل لقمة العيش وحياة كريمة للناس. لهذا وجد الشاب عبدالله خليفة نفسه منخرطا في عمل سياسي لم يكن الا بوابته الاولى لعالم المعرفة الواسع، فوجد في الكتاب والقراءة تعويضا آخر لحرمانه من الفرصة الاكاديمية، ففي ذلك الزمن العصيب المضني كانت بيوت الفقراء بحاجة إلى مساهمتك في تحسين وضع عائلتك»، هذا إن لم تكن مسؤولا مباشرا عنها، فيقف الزمن مرة اخرى حائلا لطموحاتك، ولكن الحياة مدرسة متميزة تصنع من يشاكسها ويصارعها فكان «التعليم الذاتي» self taught اكاديميته الجامعية فذلك المعلم المتعارك لن يجد لا في كراريس المدارس ولا في مناهجها ما يشفي غليله، فكان عليه ان ينهل من الروايات العالمية والعربية والكتب الفكرية والفلسفية التي صارت هاجسه الدائم ومرضه الثقافي المزمن، وعلة جسده النحيف وتساؤلاته الروحية. في ربيع شبابنا في الثانوية خلف بيت عبدالله الخاجة من عام 66- 67 كانت هناك مساحة مدفونة عند البحر وكنا نلتقي ثلاثتنا جابر صليبيخ وعبدالله وأنا، عند تلك الزرقة في أواخر مواسم الامتحان وما قبل العطلة الصيفية حيث منتجعنا البريء لجيوب ناضبة من دريهمات، فكان حديث ثقافة جنينية تتبلور عبره كتب نتبادلها وآراء لا نعرف بعمق فحواها ولا غزارتها، وكيف هي لون البروليتاريا وما شكل البرجوازية اللعينة التي نفكك خطوطها الاولى، لعلنا نجد في حوارنا الشاب مخرجا للتساؤلات ومدخلا للمعرفة المبكرة من تلك الكتب الممنوعة والمسموحة، التي ستدخلنا جحيم التعب. في محطات الزمن المتبدلة لن نلتقي بسهولة وبانتظام تلك الايام المدرسية، كبرت احلامنا وقلقنا وكان على كل واحد منا ان يجد نفسه في مكان ما، فما عاد حوش مدرسة الابتدائية والثانوية يجمعنا، ولا تلك السجون التي اعادتني اليه من غربة المنفى أو تلك الحلقات الحزبية العابرة، التي همسنا بها بعيدا عن عين البوليس السري، وبالرغم من كل تلك الغربة والزمن القاسي كنا دوما نحتفظ بصمت بيننا وباحترام وبمودة خاصة عميقة بالرغم من اختلاف طبائعنا ومزاجنا وتركيبتنا الانسانية وهواياتنا واهتماماتنا المختلفة، فلكل واحد منا طبيعة صدامية ومكابرة ومعاندة، قد لا تلتقي بسهولة في مصب واحد ودائم حتى وإن كنا أبناء رحم مدرسة حزبية وايديولوجية واحدة. يقول نيرودا «عندما كنت اعيش في العزلة بعيدا عن الناس، وسعيا إلى إبراز وحدة شاملة عظيمة للعالم الذي أريد التعبير عنه، كتبت كتابي الاكثر جموحا واتساعا (النشيد الشامل). وقد كان هذا الكتاب تتويجا لمحاولاتي الطموحة. إنه فسيح باتساع قطعة كبيرة من الزمن، وفيه كثير من الظلال والأضواء في الوقت نفسه، لأنني رميت إلى الإحاطة بالفضاء الرحب الذي تتحرك فيه، وتنمو، وتعمل، وتضمحل الحيوات والشعوب، فالشاعر يجب أن يكون، إلى حد ما، مؤرخا لعصره والتاريخ، يجب ألا يكون جوهرا، ولا نقاء، ولا تثقيفا وتهذيبا، وإنما يجب أن يكون وعرا، معفرا، ماطرا، ويوميا.. يجب أن يتضمن البصمات اليائسة للايام التي تكر، وأن يعمل ضيق الإنسان وزفراته» ودون شك ليس الشاعر وحده فتلك زفرات كل المبدعين وانشودتهم في الحياة نحو السعادة الانسانية الخالية من عذابات الارض واستغلال الانسان للانسان. كان عبدالله مثل لوركا مسكونا بطريق قرطبة «قرطبته» في انشودة الفارس «آه كم بعيد هو الطريق ! آه كم جريء هذا المهر ! آه، الموت ينتظرني قبل الوصول إلى قرطبة. قرطبة. نائية ومنعزلة». ومن يحبون طرقات غرناطة واشبيلية وقرطبة عليهم تذكر هواجس لوركا بأن الموت كان يتعقبه كل لحظة، فلم تكن هواجسه عابثة أبدا فقد كانت الفاشية تتربص به لتقتله، في زمن بات القتل متنوع الاشكال والألوان عند الكاتب السياسي. ليس هنا مكان لاستعراض منجزات عبدالله الكاتب فتلك مهمة متروكة للباحثين والنقاد، فأنا معني بجانب وجداني وشخصي وإنساني في هذه المقالة، غير أنني لا بد أن اعرج بكلمة عن مسألة محورية في حياته النضالية فقد كرس جزءا كبيرا من حياته لاجل مبادئه ومنح كل وقته لتلك المبادئ سواء في الانخراط النضالي الذي دفع جزءا باهظا من حياته سجنا وملاحقة أو بتكريس قلمه وذهنه وروحه في الدفاع عن الشعب والطبقة العاملة كواحد من أبناء الشعب الكادح المطحون. لا املك في لحظة وداعك «يا العبد» إلا تلك المرثية الفيتورية لعبدالخالق محجوب لأنكما من بيت واحد بعيد قريب، كنتما مسكونين معا بطريق قرطبة البعيد. حين يأخذك الصمت منا.. فتبدو بعيدا كأنك راية قافلة غرقت في الرمال.. تعشب الكلمات القديمة فينا وتشهق نار القرابين فوق رؤوس الجبال.. وتدور بنا أنت يا وجهنا المختفي خلف ألف سحابة في زوايا الكهوف التي زخرفتها الكآبة. ويجر السؤال، السؤال. وتبدو الإجابة نفس الإجابة.. يرقد الآن عبدالله مكابرا وعنيدا كعادته ولكن تظل روحه ساكنة فينا في البحر والنخيل والامكنة، التي أحبها وكتب لها من كنز روحه، يرحل عبدالله الانسان من الوجود، ويبقى في الحياة من خلال نتاجاته الباقية أبدا، ذلك الكاتب الملتزم بقضايا الانسان والتنوير وطريق التقدم. يموت صاحب «عمود الأفق» ولكن الأفق يظل دوما هو الأمل المنتظر.

عبدالله خليفة مرة أخرى
إسحاق يعقوب الشيخ

أصحيح ان السواعد التي كنت تحبها هي التي حملتك الى مثواك الاخير على اكتافها؟ هل للمتوفى خيار من يحمله الى قبره؟ لا خيار للمتوفى في من احب ومن لم يحب في حمل جثمانه الى مثواه الاخير . وقد يفل البعض عضد الحقيقة ويشوه مكانتها في ادعاءات باطلة ما انزل الله بها من سلطان في علاقة انتماء ما لا علاقة له بمن رحل عن الحياة في الانتفاع بنقائبيته فكراً وثقافة وسياسة . ويتشكل المثل الشعبي (أصرم وحط على البدو) واقعا غب رحيل رائد الثقافة الوطنية التنويرية الروائي الكبير عبدالله خليفة . فالكثيرون يدعون حركة وصل انتماء في حراك الراحل الادبي والثقافي فحتى البعض من المعادين الطائفيين في اتجاه نهج الراحل الثقافي والفكري راحوا يتمترسون خلف مقالاتهم وتغريداتهم كونهم من ذات الطينة وذات العجينة التنويرية التي يتخلق بها الراحل الكبير عبدالله خليفة في نشاطه الادبي والفكري فقد كان الراحل متفانيا ثقافيا وفكريا ضد الطائفية السنية والشيعية على حد سواء . ايمكن ان يكون من طينة بعض طائفيي الطائفة السنية الذين راحوا يردحون ويغردون ويتنادون حول ذكرى رائد الانسانية الثقافية التنويرية الراحل عبدالله خليفة لتأسيس حزب «يساري» ماركسي «لينيني» من الطائفة السنية ليكون حزبا مناوئا طائفيا للمنبر الديمقراطية التقدمي الذي فقد بوصلته اليسارية والماركسية وراح يخوض ذل طائفية شيعية خلف سياسة جمعية الوفاق الاسلامية ذات الاجندة الايرانية . أيمكن ان يكون لمن افنى حياته الوطنية ضد الطائفية والرجعية الايرانية والعربية ضد الاستعمار والصهيونية ان يكون احد المؤسسين لجمعية سياسية تلفعها الطائفية السنية من رأسها الى اخمص قدميها . كأن شيئا طائفيا قبيحا منذورا لمملكة البحرين الفتية فيما وصلت اليه من اتحاد عمالي شيعي واتحاد عمالي سني . وها هم ثلة بائسة من مثقفين سنة يرفعون راية تأسيس جمعية سياسية سنية (…) وما كان الراحل يوما يمكن ان تلتقط من مواقفه ذرة واحدة من الطائفية لا السنية ولا الشيعية وكان شامخا في ثقافة تنويرية ديمقراطية علمانية تدفع في اتجاه دولة مدنية دستورية متساوية الحقوق والواجبات بين ابناء الوطن الواحد . ان انتهازية سياسية طائفية بائسة تريد ان تستثمر شيئا دعائيا لها من مكانة الراحل وتقوم بتوظيفها لأغراض طائفية سياسية ترتبط بالمذهبية السنية وهو ما يرفضه ويدينه راحل الانسانية البحرينية الفذ عبدالله خليفة وانه من الانحدارات الاخلاقية البائسة في محاولة الانتفاع زورا وبهتانا بمكانته الادبية والفكرية والثقافية. أيمكن للمقال الذي كتبه الاستاذ بدر عبدالملك في الملحق الثقافي لجريدة اخبار الخليج الغراء تحت عنوان (حملتك السواعد التي تحبها) لا خلاف ابدا ايها الزميل العزيز في مضمون ما كتبت فهو جميل يليق بالراحل الكبير عبدالله خليفة الا ان العنوان كان ابتهاج تلك الجماعة التي تنوي قيام حزب طائفي سني: انتشت بعنوان المقال حتى الثمالة لان سواعد فريق منها كانت (…) سمها ما شئت تحمل ختلا جثمان الراحل . اتعنيهم (…) أأنت منهم (…) ادري انك ارتفعت متأففا وهجرتهم… اعدت اليهم؟! لا ارجو ولا اريد لنقائك الفكري والادبي ذلك . وستبقى ذاكرة الراحل والاديب الروائي اللامع عبدالله خليفة في ضمير الانسانية البحرينية اليسارية التقدمية ذاكرة شامخة لا يمكن ان تدنسها محاولات الانتهازية الطائفية أو تنال منها . وكانت مواقف الراحل سياسيا وفكريا في عين الجدلية المادية التاريخية وما حاد عنها لحظة واحدة: فيوم كان قانون امن الدولة سيئ الصيت كان يقول: عبدالله خليفة ان تكون ضد قانون امن الدولة.. لا يعني ان تكون مع الارهاب الطائفي.. واذا كان هذا الارهاب الطائفي ضد قانون امن الدولة . علينا ان نتشكل مستقلين نحن اليساريين الماركسيين في انشطتنا وفي نهجنا ومواقفنا ضد قانون امن الدولة وضد الارهاب الطائفي الذي هو ضد قانون أمن الدولة (…) ويوم كان ما يعرف بالعريضة الشعبية كان يقول: علينا الا لا نشرك ما هو وطني وديمقراطي فيما هو ارهابي طائفي (…) الا ان احدا لم يصغ السمع اليه من رفاق دربه الا القلة القليلة.. وتأتي الايام كلها لتضع نقاط ما كان يراه آنذاك عبدالله خليفة على حروف الحقيقة والصواب .
رحم الله عبدالله خليفة في رؤاه ومواقفه السياسية والفكرية فقد كان نجمًا متألق الومض في عين الصواب .

نحو تأبين يليق بمقام عبدالله خليفة
رضي السماك

يا قبرُ إنكَ لو علِمت بِمن ثَوىَ .. فِيك استَطلتَ على القُصُورِ فَخَارا ..
وارَيتَ عبدالله فاسمُ فإنًما .. وارَيتَ يَعْرُبَ سُؤدداً ونزِارا ..
الشيخ جعفر الخطي (ت 1618).


في أربعينية الفقيد المثقف الراحل الكبير عبدالله علي خليفة البوفلاسة، يُقيم رفاقه وأصدقاؤه حفلات تأبينية بهذه المناسبة في المؤسسات الثقافية والسياسية التي ينتمون إليها، مُضيفين بما تجود به قرائحهم من كلمات وقصائد رثائية جديدة. فكعادتنا نحن العرب، سياسيين ومثقفين، فإن مشاعرنا النبيلة الجيّاشة تجاه رموزنا الوطنية والمثقفة المعطاءة، للأسف لا تتفجر ينابيعها بغزارةٍ إلا بعد أن يغادروا دنيانا وليس وهم أحياء بيننا.
تمتد صداقتي بالفقيد الراحل 40 عاماً بالتمام والكمال، منذ تعرفت عليه لأول مرة صيف العام 1974، أثناء دراستي الجامعية في القاهرة، حتى رحيله الفاجع المؤلم في خريف العام الجاري 2014، وأخذت هذه العلاقة تتعزز منذ زيارته للقاهرة خلال ربيع العام 1975، بصحبة الصديقين النائبين الوطنيين السابقين محسن مرهون والمرحوم محمد جابر صباح، وكنا حينئذٍ طلبةً في فورة الحماسة الشبابية المبكرة مأخوذين بنشوة تكلل ملحمة كفاح الشعب الفيتنامي بالانتصار على أميركا، ومزهوين أيضاً بالأداء البرلماني الوطني الرائع الذي تؤديه كتلة الشعب داخل البرلمان عبر تصديها الجسور للفساد والاستبداد، علماً بأن الفقيد لعب مع شقيقه عيسى خليفة والصديق الراحل ناصر الذوادي دوراً محورياً في قيادة الحملة الانتخابية للنائب مرهون في دائرته بمنطقة الحورة والقضيبية المعروفة بانتماء معظم سكانها إلى الطائفة السنية الكريمة إبان الفترة الذهبية للمد الوطني، وكمون وانحسار الطائفية في الوطن.
ومع أن علاقتنا توطدت في البحرين إلا أنها شهدت فترات من الانقطاع القسري، إما بسبب فترة اعتقاله بعد حلّ برلمان 1973، أو بسبب فترتي اعتقالي في أواسط الثمانينيات ثم من أواخر الثمانينيات إلى أوائل التسعينيات، أو أحياناً لأسباب قاهرة خارجة عن إرادتنا. ولا تخلو لقاءاتنا، كالعادة، من حوارات ساخنة، لكنها لا تفسد علاقتنا الحميمة. وكان آخر هذه الحوارات وسط الحشود الجماهيرية الصاخبة، وامتد لساعات طوال على الرصيف الدائري للنصب الأبيض الشامخ الذي يحيطه العشب الأخضر من كل جوانبه ولا تغادره أسراب الحمام طوال ساعات النهار حتى اقتلعت ذلك النصب البرئ العاصفة التي هبت في منتصف مارس/ آذار 2011.
وكان لتلك التداعيات تأثير بالغ على نفسيته وأدّت إلى تدهور صحته سريعاً بعد مداهمة المرض الخبيث جسده النحيل على حين غرة، وظلّ يصارعه بصمود ورباطة جأش حديدية أكثر من عام ونيف، هو الذي عاش وكرّس حياته من أجل سعادة ووحدة شعبه وتحرّره من الاستبداد والاستغلال، ومن أجل حكم نفسه بنفسه، ليرى في سني حياته الثلاث الأخيرة كيف تمكّن الآخرون من شطره إلى شطرين، بل وليرى حتى أعز الناس إليه من رفاقه وأصدقائه وقد اخترقت مناعتهم شظايا ذلك التشطير الطائفي البغيض بهذا القدر أو ذاك، دع عنك من تساقطوا في مستنقع الانتهازية والانتقال إلى صفوف الآخرين بذرائع علمانية واهية.
وُلد الفقيد الراحل عبدالله في أسرة تنحدر من واحدة من أعرق القبائل العربية، ألا وهي قبيلة البوفلاسة، حيث تتوزع أفخاذها وعشائرها وعائلاتها على امتداد الجزيرة العربية. ولأسباب سياسية اضطر جدّه خليفة للهجرة من دبي إلى البحرين في أوائل القرن الماضي، حيث وصلها مبحراً بسفينته وحطّ رحاله في مدينة الحد التي تزوّج فيها وأنجب أباه (علي). وسرعان ما لقي الجدّ حتفه في حادث مأساوي فاجع إثر سقوط خشبة شراع سفينته على رأسه في ظروف غامضة. وكان والده علي لا يتجاوز الأربع سنوات حيث عاش بعدئذٍ يتيم الأب في كنف ورعاية أمه. وما أن شب الوالد حتى التحق للعمل في بابكو وعمره أقل من عشرين عاماً. وبغية تسهيل وصوله اليومي إلى مكان عمله بعوالي اضطر إلى الانتقال للسكن في منطقة القضيبية ، وفي هذه المنطقة وُلد فقيدنا الراحل وتفتحت مداركه منذ نعومة أظفاره على مجتمع هذه المنطقة الذي يعجّ بالتناقضات الطبقية الصارخة: بضعة قصور فخمة منيفة مزوّدة بالكهرباء والماء ومحاطة بالحدائق الغناء الوارفة الظلال وتحرسها قوات الأمن، ويسكنها علية القوم، وليس بعيداً عنها أحزمة من بيوت الصفيح والسعف والأخشاب البالية التي تسكنها جمهرة واسعة من العمال وسائر البؤساء والمعدمين، بلا كهرباء ولا ماء.
وكان الوالد واحداً من سكنة هذه البيوت قبل أن تذهب جميعها في كارثة حريق تم تعويضهم عنها ببيوت إسمنتية أقل بؤساً، وعُرفت ببيوت «اللينات». وفي مناخ هذه البيئة الاجتماعية تشكّل الوعي الفطري الطبقي الأول لفقيدنا الراحل، وتدعّم تثقيفه الذاتي علمياً باطلاعاته المعرفية الأولى واتصاله بمناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية، حيث ارتقى سريعاً إلى صفٍ من صفوفها القيادية وشارك في انتفاضات شعبه.
ولعل عبد الله خليفة من المثقفين الموسوعيين العرب القلائل الذين عبّروا عن آلام ومظلومية الطبقات الفقيرة من عمال وفلاحين وكادحين في مختلف الأجناس الأدبية التي نبغ فيها من قصة ورواية ونقد أدبي بمختلف ألوانه، ومقالة ودراسات سياسية. وظلّ الراحل عصامياً طوال حياته عزيز النفس رغم تعطله عن العمل خلال فترات مختلفة، لعل أقساها غداة خروجه من المعتقل، لكن قلمه لم يعرف أبداً المساومة أو المهادنة، وحتى الصحف التي رثته غداة موته وترك بصمات في تطوير صفحاتها الثقافية لطالما عانى من جحودها وتهرّبها من توظيفه في فترات تعطله عن العمل، فضلاً عن معاناته المريرة الصامتة من توقيف العديد من مقالات عموده اليومي لأسباب جلّها مزاجية التقدير، لا علاقة لها البتة بهامش الرقابة المتاح.
وقد تميز قلمه بالنقد الجريء حتى للفكر والحركة اللتين ينتمي إليهما بما يراه من سلبيات وثغرات تعتور مسيرتهما، ولهذا السبب لم يكن غريباً أن ينفض من حوله الكثير من رفاقه الذين لم يتحملوا صرامة نقده. كما كان محاوراً ناقداً عنيداً يبز بعض المفكرين والأكاديميين العرب الذين يبدون انزعاجاً من نقده لما تمتلكه كتاباته من جرأة وتماسك في أطروحات منطق المجادلة معهم، أياً كان اتفاق المرء أو اختلافه معه فيها.
وعُرف الراحل بغزارة إنتاجه، فمن القصص القصيرة أنجز سبعاً، ومن الأعمال الروائية ما يُقارب عشرين رواية، ومن الدراسات الفلسفية التاريخية والنقدية أنجز خمساً، أهمها «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، وصدرت في مجلدين والمجلد الثالث ينتظر الطبع. وقد استلهم فيها العمل الموسوعي الكبير للمفكر السياسي التراثي اللبناني الراحل حسين مروة. بيد أن الفقيد خليفة ترك وراءه ما يُعادل هذه الأعداد تقريباً في كل تلك المجالات، لكنها لم تزل مخطوطات لم ترَ النور، ذلك أن ما جمعه من بضعة آلاف من الدنانير على مدى عشرين عاماً من كدحه الذهني الصحافي المضني لطبعها تباعاً، لم يدر بخلده البتة أنه سيستنزفها في علاجه خلال رحلة مكابدته للألم وصراعه المرير مع السرطان. وكان آخر السطور المؤثرة التي كتبها في الأيام الأخيرة من حياته وهو على فراش المرض: «يريد لكتبه أن تظهر ورواياته أن تحلق، ولكن لا أحد يساعد، ودور النشر كائنات خرافية مصّاصة للدماء. لماذا يموت ولم يكمل مشروعاته؟».
كان يتألم وهو على فراش المرض، ليس لاستنزاف تركته المالية الشحيحة على علاجه، بقدر ما يتألم لنفادها دون أن يتركها لأخيه ليتولّى طباعتها. وكتب مستشرفاً دنو اللحظات الأخيرة من حياته: «تكلفة العملية زادت على 12 ألف وخمسمئة دينار، تتوقف الأدوية والكشوف حتى يضع دفتره البنكي في يد أخيه ليراه هذا لأول مرة ويسحب منه ويقذف المال في فم المستشفى النهم…».
ولعل من حسن حظ الفقيد وساحتنا الثقافية، أن له شقيقاً يشعر بالمسئولية الوطنية والأخوية العليا بقيمة تركة أخيه العلمية والأدبية، ألا وهو الصديق عيسى خليفة، الذي بادر بُعيد رحيله إلى البحث يومياً لساعات طوال، عمّا خلّفه أخوه من أعمال ومشاريع كتابية لم تُطبع وعكف على توضيبها وتصنيفها وتبويبها تبعاً لموضوعاتها بحكم خبرته المهنية الأرشيفية الطويلة في الصحافة.
ولعل أفضل ما يُقدّم في حفلات تأبين تليق بهذه القامة الثقافية والسياسية التي افتقدناها… هو التداعي لنشر أعماله كافةً بالتعاون مع المؤسسات الثقافية المحلية والخليجية والعربية ودور النشر التي تولّت طباعة أعماله السابقة.

عبدالله خليفة: سيبقى وهجه مشتعلا رغم الرحيل
فوزية رشيد

تصعب الكلمات وتثقل كثيرا أمام فجاءة الموت عامة, وتصعب أكثر خاصة أمام رحيل كاتب وأديب ضجيج فكره يملأ ساحة القضايا والآراء, حتى عدة أيام فقط سبقت مجاورا بأفقه لما تكتبه أنت في الصفحة ذاتها, فلا تستطيع حتى التسليم لما اخترته عنوانا لزاويتك بأنه (عالم يتغير)!
بل الصعوبة تكبر أكثر فأكثر إذا كان يجاورك في عالم الإبداع والثقافة وفي جمع ثقافي هو أسرة الأدباء لسنين طويلة خلت، حيث كان وعيه وإبداعه وإنجازاته المتنوعة تملأ الساحة الثقافية والفكرية بغزارة على مدى العقود الماضية، فماذا إن تخطت المجاورة يوما كل ذلك لتصل إلى ما هو أبعد على مستوى النضال الوطني وعلى المستوى الذاتي الشخصي؟!
حين يتوقف الزمن فجأة عند سماع خبر الرحيل وتستعيد الذاكرة الكثير من المحطات السابقة يدرك المرء فجأة أيضا أن الذاكرة الساكنة بدأت تنطق بدهشة الفجاءة أمام الموت فكيف يتوقف هكذا وهو في أوج اشتعاله الفكري والإبداعي؟! وهل ينطفئ وهج هكذا شخوص, بقي حتى آخر أيامه قبل الرحيل يمد الوعي بثمار فكره، ولا يهتم أن تتفق أو تختلف معه لكأنه كان يطوي صفحة الأيام في صومعته, بتؤدة ومثابرة وحرص وجدية محمولة معا على سفينة أدمنها البحر في العمق، وتتطلع أن تصل إلى عمق العمق، قبل أن ينسل ذلك العمر البخيل في غيابات الزمن بعد أن أقفل بابه إلى الأبد في وجهه في هذه الأرض لتبقى العطاءات والمنجزات وحدها رهينة البقاء وبحسب مدى اهتمام الآخرين!
ها هي الكلمات تثقل مجددا وخاصة لمن عايش الراحل وعرفه عن قرب فترة من الزمن, وزامن معه مكابدات الحياة والحصار والسجن والغربة في مرحلة كانت تتوهج بالروح الوطنية الحقيقية وبالروح الإبداعية الوطنية أيضا.
وهي معايشة قريبة لمكابدات الوعي والكتابة والسياسة والالتزام الوطني واستمرت حتى مشارف التسعينيات.
تثقل الكلمات وتتباطأ أكثر ويلف الصمت زوايا الذاكرة قبل أن تستعيد الصور ذاتها وحقيقتها أمام رهبة الموت في رحلة سنوات العمر الأولى وهي في ربيعها وزخمها قبل أن تتكئ تماما بعد ذلك إلى شجرة الأصدقاء الخريفية ليتساقط منها كل مرة من كانوا يوما قريبين في بعض محطات تلك الرحلة وواحدا بعد الآخر, والسقوط ليس عنوانه هنا الموت فقط وإنما السقوط المعنوي لآخرين وهم بعد على قيد الحياة!
ها هي الكلمات تثقل مجددا خوفا من الوقوع في فخّ الوعي الجاهز لاستدعاء كلمات الرثاء لشخوص أوغلوا يوما في الروح ثم ركنتهم الذاكرة في أحد صناديقها المغلقة بعد انتهاء مسار الدرب معا.
إنه الخوف الطبيعي إذا من استجلاب ذلك الوعي الجاهز لمن رصد النتاج والإنجاز ولم يعايش صاحبه بذات العمق في الرصد، فهنا تأبى الذاكرة الاستسلام لمثل ذلك الاستجلاب ولإعطاء الكلمات الموضوعية والرصينة حول الإنجاز الثقافي والفكري لأنها مع الوقوف أمام الموت والرحيل, هي مشحونة بما هو أكثر، مشحونة بزوايا الظلال الكثيفة كعصافير الهندباء التي ظللت مكابدات صاحب الإنجاز وقد رحل, حين كان يقوم بارتحالاته المختلفة في الوعي والروح والثقافة عاما بعد آخر ويوما بعد يوم، ولسنوات طويلة تعددت أيضا محطاتها وحين كانت الرفقة في سنوات هي الأصعب بذاتها في مسار ذلك الارتحال من أجل الوطن والحياة، فها هنا تصاب الذاكرة بحالة الاستعادة لرفقة التفاصيل قبل رفقة الفكر والثقافة والإبداع والسياسة والنضال الوطني في عمومياتها، مثلما تصاب بالتفاصيل الصغيرة مجددا, وقد كان الاعتقاد أنها في طي النسيان, لتصبح تلك التفاصيل أهم في الذاكرة التي اشتعلت فجأة من أي شيء آخر يعرفه آخرون, لأنها تعبر هنا, عن حجم التجاسر الذاتي على المكابدات اليومية المشتركة في طريق النضال الوطني ومن أجل حفر الوعي لما يرتقي بهذا الوطن في كل المجالات وبوعي وطني نزيه وحقيقي.
ذلك يرصد البعيدون ثماره الناضجة المتجلية في منجزات الفكر والموقف ولكن لا يعرفه بعمق إلا القريبون, حتى ولو لبضع محطات من الرحلة.
تلك مساحة تأمل واسعة إذاً, أنعشتها الذاكرة أمام فجاءة الموت, مساحة تأمل في المعايشات فرحا كانت أو حزنا, وفي ظلال الليل المعتمة حيث كان يتسرب الشعاع واحدا بعد الآخر, ثم يتسلل مجددا من شباك في الزاوية ليبدد أكثر الظلمات حلكة, في سنوات بعينها لتنفتح بوابات الوعي معها ولتبقى الذاكرة بعدها ثرية بالارتحالات الفردية وقد تفرقت سبلها، ولكنها جزء من الذاكرة لا يمكن نسيانه, أو محوه، فتفاصيله قد ضربت في تفاصيل الوطن ذاته ومكابداته قد ارتحلت في عروق الدروب التي سعت وبقيت تسعى لرفعة هذا الوطن وانتشاله – أيا كان الزمان – من غيابات الوعي وغيابات الفكر الوطني الصحيح لينمو بدوره صحيحا, بعيدا عمن ركبوا في كل حين هوادج الانتهازية والأنانية, من يسار وليبراليين وقوميين لم يتوانوا مع الوقت بعدها حتى من ركوب هوادج «ثيوقراطية» تدعو إلى الانفصام عن الوطن بعد أن كانوا رفاق درب نضالي من أجله!
تذبل «الأيقونات البشرية» عادة مع الانكشاف، ولكن من كان مخلصا لوطنه ولوعيه، وملتزما بالنزاهة والصدق تجاههما، يدرك أن عليه اعتزال أجواء البهرج وعلاقات المصالح، ورفض ركوب الهوادج السياسية الانتهازية، التي لا تلتزم بالنزاهة تجاه الوطن، أيا كان المبرّر لديها وأيا كان خداع أو تمويه الخطاب والبيان!
وحين تكون الكتابة والثقافة مدخلا لتطوّر الفكر الذاتي، ولتطوير الوعي العام بتفرعاته الفكرية والثقافية والابداعية، ونضالا يوميا شرسا يصبح الدخول في صومعتها ضرورة، لمن رفض الغثّ، لأن بحثه عن السمين أو العمق، لا الهوادج ليركبها!
هكذا كان عبدالله خليفة باحثا جادا في الوطن وفي الإنسان والمجتمع وفي الوعي وفي التاريخ، (ارتأى) في الوعي الاشتراكي البعد والأفق، اللذين يسعفانه في بحثه الإنساني والأخلاقي والوطني مثلما أخذه مأخذ المسلمات اليقينية، حتى لو سقطت مداميك هذا الفكر، تحت أقدام الرأسمالية المتوحشة، فإن إيمانه بذلك لم يتزعزع وظل راسخا، والذي يهمّنا في ذلك الفكر هو إيمانه من خلال الوعي به، بالانسان، وخاصة الإنسان المطحون والمعذب، وإيمانه الوطني والتزامه به، والذي هو في الحالتين إيمان راسخ في القيم الدينية أصلا وخاصة في الاسلام، ولم يكن قط حكرا على إيديولوجيا وضعية معينة، فإلى جانب توحش الرأسمالية امامها كاشتراكية، فهناك ثغرات كثيرة لافتة مثلا بالإمكان رصدها في الغاية النهائية في هذا الفكر للحياة وللوجود الانساني اللذين حصرهما الوعي الايديولوجي الماركسي في مسارات بعينها، وهذا شرف اختلافنا (منذ البداية) مع هذا الفكر رغم احتسابنا عليه فترة من الزمن، ورغم أهمية وقيمة أدواته في التحليل الاجتماعي والسياسي، وربما كان عاملا مساعدا في تفرّق الدروب بعد ذلك.
رحلة الأديب والكاتب والمفكر عبدالله خليفة رحلة طويلة وثرّة ومكثّفة رغم كل شيء، ولذلك تصعب الكلمات في رصدها كلها، أو اصطياد محطاتها العميقة، بعيدا عن حشرها في متابعة سطحية جاهزة، وخاصة انه بعطائه، أثرى حياتنا الوطنية والفكرية والثقافية والانسانية، سواء بالمواقف أو الكتابة، ولا يهمّ هنا الاختلاف أو الاتفاق مع افكارها، مثلما أثرانا بصدق الالتزام بمبادئ الأخلاقيات الوطنية والضمير الوطني العام، التي افتقدها الكثيرون بعد ذلك.
تصعب الكلمات وتثقل، لأن تجارب ثرَّة ومتنوعة كهذه، الى جانب مسار صاحبها الذاتي الكثيف والمعقد، لا يمكن بسهولة إدراجها في كلام نظري عام حول المنجز والمسار وانتهت المهمّة، وإن هذا الأديب والكاتب كان كذا وكذا.. الخ، وخاصة في ظل شحّ النقد والرصد الجادين اللذين بخلا بحرينيا، على تناول المحطات الشخصية والإبداعية لهذا الكاتب.
قامة عبدالله خليفة وفكره، سواء بما نتفق حوله أو نختلف عليه، هي قامة بزغت بثرائها منذ السبعينيات، وكابدت على المستوى الشخصي كثيرا، لتعطي لهذا الوطن منجزاتها في المجالات المختلفة، لذلك (هو ومنجزاته) يحتاجان الى الكثير من الإسهاب أيضا ومن التمحيص ومن الاستكشاف والاستدلال، الذي يتناسب مع حجم ما تركه من إرث كبير سواء على مستوى نزاهة النضال الشخصي، أو النضال الوطني والسياسي، أو الفكري العام والابداعي، وحيث إن معتركه في كل ذلك أخذ مساحة حياته الواعية كلها تقريبا، مما يجعل من إنجازاته في الظروف الصعبة، إنجازا إنسانيا مهمّا بحدِّ ذاته، وخاصة مع عذابات المرض في السنوات الأخيرة، وإصراره على العطاء رغم ذلك.
الكتابة لدى أديبنا الراحل، كانت رحلة عمر حقيقية، ورحلته مع الفكر والوعي، في إطار ما كان يؤمن به، هي البطل الرئيسي في كل ما كتب باعتباره نضالا فكريا سياسيا، كما قال بنفسه، والغربة المشحونة بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة هي غلافها الهلامي الدائم، وخاصة بعد فقد شقيقته الكبرى في طفولته، وفقد أمه وهو في السجن الى جانب فقدانات أخرى لاحقا، الى جانب معايشته المبكرة للكادحين والفقراء في بيوت العمال، التي تم بناؤها بعد حريق القضيبية عام 1954، فترتا الطفولة والشباب الأول.
الى جانب أيضا الوحدة الكاملة والمتواصلة في صومعة الكتابة، خلال ربع قرن من الزمن حتى رحيله، مما جعلت من (الغربة) ذات مستويات متعددة ومركبة، وخاصة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي الذي كان يؤمن بأيديولوجيته، ذلك جعل من تفرغه الكامل للكتابة ملاذا آمنا، يبث فيه إخلاصه (لوطنه ولوعيه) بعيدا عن سفاسف الحياة التي كان يعتزلها، حتى أصبحت الكتابة وكأنها في (موازاة) معايشة الحياة بحد ذاتها، أو كما يعيشها آخرون، لتحوز الكتابة والارتحال في مجالاتها المختلفة بالانتقاء والايثار، وليبحر معها في مساحات الوعي وأفقها الشاسعة بإصرار فريد على النحت في صخور ذات طبيعة قاسية، والإبحار في البحار العميقة، كمن يحاول ترويض صعوباتها، وكان ذلك سواء بالموقف أو المكابدات الفكرية، لتتساقط ثمار رحلته مع الكتابة، متنوعة وواحدة تلو الأخرى، ما بين قصص قصيرة تبدأ بـ (لحن الشتاء) وتتوالى، وروايات تبدأ بـ (اللآلئ والقرصان والمدينة) وتتوالى، ودراسات نقدية ادبية وتتوالى، وعطاءات فكرية في أربعة أجزاء، هي (الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية والاسلامية)، ولو كان قد أسعفه العمر لأكمل عطاءاته في هذا المجال، وربما هي اليوم مخطوطات موجودة في الأدراج بحاجة إلى النشر الآن، بعد أن بلغت كتبه (الثلاثين كتابا وعنوانا) في المجالات السابقة، إلى جانب الكثير من العمل الصحفي والكتابة اليومية في (أفق) بدا مفتوحا على صرامة فكرية وكانت تشي بالمزيد من الارتحال فيها.
ترك عبدالله خليفة الذي رحل عن دنيانا، بصمة في البحرين الحديثة لا يمحيها الزمان، لأنها بصمة قوية وواضحة ومحفورة في عمق تاريخ هذا الوطن الصغير، ثقافة وإبداعاً ونضالاً خلال نصف قرن مما مضى. وهو كاتب وأديب ومفكر وباحث وصحفي له حكاية خاصة في مسار هذا الوطن، وحالة متفردة في حجم العطاء على مستويات مختلفة، وسماتها العامة هي الصلابة والموقف الوطني والفكر الإنساني، الذي يدعو إلى التطور والتقدم والنهوض، والابتعاد عن ظلامية التطرف الديني، والانتصار للكادحين والمسحوقين، وكل ذلك في إطار إيديولوجية «المنهج الماركسي» الذي آمن به في شبابه واستمر عليه حتى مماته واعتبره مسلمات يقينية لم ينتابه الشك فيها قط، ليدخل به في صلب وعيه بالحياة والوجود، ويتجلى بعمق في كتاباته الفكرية والإبداعية والصحفية، وكل ما جاد به قلمه من التحليل والبحث والرصد، وحتى حين تناوله في رواياته للخلفاء الراشدين، واشتغاله على التاريخ العربي والإسلامي وعذابات البشر من «منطلق طبقي» راسخ، ليشكل منها تجربة غزيرة وثرية، مما جعله في نظر كثيرين، «صاحب مشروع فكري خاص»، يقترب من كتّاب ماركسيين آخرين، تناولوا التاريخ العربي والإسلامي من زاويتهم الفكرية الخاصة أيضاً، والتي حتماً أثرت المكتبة العربية بما ساقته إليها من أفكار وتحليلات رغم الاختلاف.
ولأنه كان محافظاً حتى آخر أيام عمره بمنهجه الفكري هذا وموقفه الوطني المتسامي والنزيه، فإنه لم يتخل قط عن مساره في ذلك رغم حجم المتغيرات والتحولات، ولم يدخل أيضا قط في سياقات سياسية حزبية وفكرية لاحقة، تنجرف بعيداً عن الوطنية أو عن الارتقاء الحقيقي بالوطن والإنسان، وهي السياقات التابعة للظلامية الثيوقراطية، التي دخلها بعض أو كثير ممن كانوا معه أو لاحقاً، في قيادة الحزب الماركسي، الذي كان هو أيضاً أحد قادته في سنوات معينة أثناء العمل السري.
وإذا كان عبدالله خليفة قد اتسم -كما يجمع الكثيرون- بالروح الإبداعية المنحازة إلى المطحونين في إطار طبقي، وهي الروح التي رسمت في الوعي العام من خلال قصصه ورواياته عذابات الطبقات الكادحة والبحارة والفقراء والمضطهدين، فإن تلك الروح الإبداعية كانت مؤطرة أيضا بالقلق الدائم وبالرغبة الملحة في الانتصار لهم، وتطوير العمل من أجل النهوض بهم، في عالم اشتراكي غير طبقي وتفسير التاريخ من خلال ذات الفكر، حتى لو اختلف معه من يختلف حول بوصلة القراءة والرؤية أو المنظار الإيديولوجي المنفرد في التحليل للتاريخ ولعذابات البشر، ولماهية الوجود الإنساني، وشمولية تطلعاته نحو «التطور الروحي» وليس المادي فقط، إلا أنه لا أحد يختلف معه، حول انحيازه ضد الظلم والفساد والفقر وضد الجهل والتطرف الديني أيا كان مصدره وضد الخزعبلات وتهميش العقل، فكل ذلك مساحات مفتوحة للاتفاق، وهي على العموم صلب كل كتاباته في الجوهر.
إذا اتفقنا على أن رحلته الفكرية والإبداعية والنضالية والوطنية، هي رحلة طويلة وكبيرة وواسعة، استغرقت تفاصيل عمره كلها كما قلنا، فإنها اليوم لا بد أن تأخذ مكانها تحت الضوء، حتى لو بناء على عادتنا العربية في تكريم الشخوص ذوي العطاء المتنوع بعد رحيلها!
وسواء من «أسرة الأدباء والكتّاب» وهي بصدد الاحتفاء به وبتجربته في ديسمبر القادم، أو من وزارة الثقافة، والوزيرة المتفهمة والمعطاءة بدورها (الشيخة مي) فإن هذه التجربة الغزيرة بحاجة اليوم إلى وقفة متأنية، والعمل على مشروعه الفكري والثقافي والأدبي، وتمحيصه بدراسات عميقة ومتأنية، قادرة على استجلاء هذا الإرث الكبير لأديب متنوع العطاءات، سخر حياته كله لإنضاجها، ولتصبح بجدارة علاقة مهمة في مسار التاريخ البحريني الحديث ثقافيا وإبداعياً ووطنياً، وخاصة أنه كان ينجز بصمت، بعيداً عن الانخراط أو البحث عن شهرة زائفة ركبها الكثيرون، أو وصولية تتطلع إلى البروز والظهور والمناصب، بل كانت النزاهة الذاتية والمجتمعية والوطنية، هي دأبه الأصيل، حتى آخر أيامه، مما يُلقي على عاتق الجميع، والنقاد والدارسين أيضاً، مسئولية أن يحظى نتاجه الزاخر بالاهتمام الذي يليق به، وأن يأخذ هو المكانة الصحيحة التي تليق برحلته وعطاءاته المختلفة، بعد أن تم تجاهل حفرياته المتنوعة في الوعي البحريني، على مستوى النقد والاحتفاء محليا، رغم ما تحظى به تلك الحفريات الإبداعية والفكرية من اهتمام واحتفاء خارج البحرين!
إنها الفرصة المواتية لرد بعض الجميل، لمن نذر نفسه حقيقة وليس مجازاً، لهذا الوطن ولإيقاظ مكامن الوعي فيه، مجسداً بذلك نموذجاً مضيئا لحب الوطن والإنسان بعيداً عن أية مصلحة مهما كانت.
ونترك الكثير من التفاصيل لنسردها، إن أسعفنا العمر، في مذكراتنا الخاصة.

البحر يموج في أغلب أعماله
علامة روائية خليجية محورها الإنسان والمكان
غالية خوجة
ناقدة أدبية من سوريا

“نرصد في كتاباته الشخوص والتحولات والمسكوت عنه اجتماعياً”
” ورد اسمه في قائمة أهم الروائيين العرب الذين تناولوا أدب البحر”
“عكس علاقة شخصياته بالمكان والزمان والآخر”
“تميزت أعماله بالتكثيف وشعرية الدلالة والبنية”

(خليفة) عانى الكثير على صعيد حياته الشخصية، والسيرية، تلك التي يتسرب بعضها من لا وعيه إلى نصوصه، ليرصد العديد من الحالات والشخوص والتحولات، قابضاً بإشارية على المسكوت عنه الاجتماعي والنفسي، كاشفاً عن ذاكرة الموج والنار والسفر والأبواب والجدران المغلقة والظلم المستشري، والظلام المهيمن في العقول والأمكنة على مرّ الأزمنة، وأحال بضوء من الأبجدية الحياة إلى منصة يتفاعل فيها (الضباب) مع (محمد العوّاد) مع (المرأة) مع (فيّ) و(كوكب) ومع بقية شخوصه الإنسانية والرمزية والخرافية، ومحيطها وأحداثها وتراجيديتها المتصارعة، ونشيد بحرها الذي يعبر من الرمال إلى الموانئ دون شواطئ نفسية، تمنح الإنسان لحظةً مستقرة، أو مرساة تضعه بهدوء في مكان ما قابل للتأمل، أو للرحيل.
لم يتخلّ عبدالله خليفة عن الصحافة، والعمل فيها، ظل حتى لحظة وفاته يكتب العمود الصحافي في الجريدة التي يعمل فيها مشرفاً على القسم الثقافي (صحيفة أخبار الخليج)، كما أنه كان مفكراً وناقداً، كثير النتاج والنشر إلكترونياً وورقياً، ويرى الكلمة بأبعاد إضافية، تماماً، كما كان يرى الحياة موجات عاديات غاديات، ولذلك ورد اسمه ضمن قائمة أهم الروائيين العرب الذين عبروا في كتاباتهم عن (أدب البحر/ روائياً)، مع عدد آخر من الروائيين، منهم: حنا مينه، جبرا إبراهيم جبرا، حيدر حيدر.
إذاً، هو البحر بدلالاته الواسعة، وحركته التي لا تمكث ولا ترحل، يموج في أغلب أعمال خليفة، لا سيما وهي تبرز في أجزاء (الينابيع: الصوت/ الماء الأسود/ الفيضان)، الساردة بشعرية ورومانسية وتأريخية وفلكلورية لمرحلة هامة من مراحل البحرين، وحياتها بين السفن واللؤلؤ ومحاربة الاستعمار البريطاني، وانعكاساتها على حياة الشخوص وعلاقتهم بالمكان والزمان والذات والآخر، وما تختزنه الشخوص من دلالات أخرى، تذكّرنا بالموروث الإنساني العالمي، فمثلاً (محمد العواد) المتمرد على الأب والعائلة والتقاليد يُضمر بمفهوم ما الابن الميثولوجي المتمرد على أبيه في موروث الشعوب كالإلياذة والأوديسا، وما أضمرته عرافة دلفي، وتظهر آلة (العود) الوترية الموسيقية بدل (قيثارة هوميروس)، الآلة الوترية الموسيقية، وتجوب الأغاني والمخيلة والذات أمكان كثيرة، منها: المنامة، المحرق، دمشق، دلهي، عابرة الأسوار، منجزة الأسوار، حاكية عن (التحولات) منذ اللؤلؤ، والوقوف ضد الجنرال ميجر، وصولاً إلى مرحلة اكتشاف النفط، ثم الرفاهية، ولا تخلو مسافة الفضاء المكتوب من الدرامية الوجدانية الخيالية والواقعية بين (العواد) و(فيّ) و(مي)، كما لا تخلو شخصياتها من اللجوء إلى التأمل، ومن زاوية رؤيوية أخرى، لا تخلو أعماله من البنية الشعرية المتسارعة المشتبكة مع إيقاعات السرد المتقاطع مع الحكاية، الهارب إلى أطياف متفاوتة، تتجول في الأعماق وكأنها موجات تائهات، لتصطدم بالواقع، مما يُشعر المتلقي بأنه أمام أناس حقيقيين، فيصاحب (الهبل) و(الخبل) و(الجنون)، وتارة أخرى، يرافق كائنات تجمع المفارقات النفسية والاجتماعية، وتظهر بطريقة ممسوسة لا حقيقية ولا وهمية، مثل شخصية (ياسين كافود) في رواية (تماثيل): (كان ياسين كافود غريباً، وظهر، فجأة، إلينا، وكأنه ممسوس، صحيح أنه كان طفلاً نزقاً، كثير الحب للأكل وسرقة البيض والكعك من الدكاكين، لكن، أن يظهر، بغتة، هادئاً، صامتاً، وينزوي عند الشاطئ، ويتوارى في غرفته، ويدمن القراءة، فهذه كلها كانت علامات لدينا على الخبل). ولا يخلو أسلوبه من السخرية المثقفة الموظفة بهدف نقدي، تراجيدي يضمر الكوميدي، ومنها وصية المسؤول في العمل: (دعك من كل هذه السوالف، وركز على قبض المعاش آخر الشهر وكفى بالله حسيباً)، ثم يتابع خليفة الوصف الكاريكاتيري لشخصية هذا المسؤول: (ثم طوى بشته تحت ساعده وخرج مثل طائر الفينيق)، ولربما، لو لم يكن الوصف عميقاً، وذا دلالة أسطورية، موظفة بطريقة لا بدّ منها، لكان الوصف عادياً جداً، لكن حضوره برمزية وتشبيه ودلالات (طائر الفينيق) منحت الجملة الروائية قوتها، “وفلاشباكيتها” وحركتها.
وتتوالى الأحداث عبر فصول التماثيل الـ(42)، ضمن بنيات حكائية متنوعة، سيرية، وحوارية، ومونولوجية، وكاريكاتيرية، وناقدة، وهازئة، ولكنها جميعها تشير، وبوضوح، إلى البنية الجوانية الذاتية والمجتمعية، وما فيها من فساد أخلاقي واجتماعي ونفسي، وبالمقابل، بما فيها من طموحات وأحلام ومحاولة للارتقاء، وظهور بعض الظواهر الجديدة ابتداءً من (1950م)، لا سيما بعد تحوّل البحرين إلى المباني البرجية، مستقطبة الأيادي المهاجرة إليها بهدف العمل، متوقفة عند التناقضات الظاهرة والباطنة للشخوص، وتحولها السلبي السالب، حيث يتحول (كافود) من مؤلف ثائر على الفاسد إلى سارق للآثار، وصاحب مؤسسة إعلامية ودار نشر، تزيف وسائلها تبعاً لأهدافها، وتتناسل الأحداث، متواصلة، منقطعة، وكأنها حكاية داخل حكاية، ضمن تداخُلٍ فني يعكس الحساسية الجديدة للمقول والمكتوب، ليشدّ الفضول القارئ بجاذبية وتشويقية، تعتمد على (المونولوج) المتحول إلى (ديالوج)، فتتحاور أرواح الشخوص مع ذواتها، ومحيطها الموضوعي، والقارئ الذي لا ينفصل عن الاشتراك في كتابة الرواية، لا سيما وأن حياة (كافود) تبدو غير منتهية، لأسباب عديدة، منها: مساهمة القارئ في إنجازها، وثانياً، رغبة من المؤلف بتركه النهاية مفتوحة لأنها سيرة شخص لا تنتهي، قابلة للتجسيد في كل زمان ومكان، ومنها: تعدّد الخاتمة، وإحالتها إلى ذاكرة القارئ وبداية الرواية.
تستوقفنا روايته (عنترة يعود إلى الجزيرة) لما فيها من ترائيات لعودة الجاهلية والقبلية والظلامية الجاهلة المستترة بالدين، وكأنه كان يرى ويشير وينذر.
ولا بدّ من أن نشير إلى رأيه النقدي في الرواية الخليجية التي رآها غير متجذرة في الأرض بعدُ كما يجب، لأسباب عديدة، أهمها الوعي الروائي الإبداعي لا كمية النشر، إضافة إلى حاجة المنتوج إلى كل من: القراء، الوسائل الإعلامية المهتمة، والنقد الموضوعي.
ومثلماً موجات البحر متسلسلة وليست هي في الآن ذاته، كونها تتحرك، تتبدل، تتناثر، تغور في الأعماق ثم تميل مع المدّ والجزر، كذلك، كانت أسلوبيته التي تتميز بتشابكيتها مع الذاكرة الخرافية، الواقعية، الإنسانية، الحلمية، واللغوية ذات الأبعاد الجمالية المختلفة.

عبدالله خليفة .. الانتساب لشرف الكلمة
هدى المطاوعة

وداعا المفكر البحريني الوطني الصديق عبدالله خليفة..
المفكر البحريني عبدالله خليفة وهو في قمة إبداعه وتألقه الفكري. الاستاذ الكاتب والروائي المناضل عبدالله خليفة أمضى اكثر من خمسين عاما من التجربة الروائية والأدبية التي توثق للإنسان البحريني كفاحه من اجل لقمة العيش. وانه ليحز في النفس ان الجهات المعنية بالهم الثقافي بالبحرين او بالخليج او بالعالم العربي لم تنتبه أو لم تهتم بتكريم هذا الكاتب المبدع المتفاني لقيمه ومبادئه التي تصب في حب الوطن والدفاع عن كرامة الانسان وحريته بصرف النظر عن اصله وفصله، لدرجة ان القليلين يعرفون ان هذا الكاتب هو ابن عائلة بحرينية عريقة هي عائلة البوفلاسة, لانه كان يفضل ان يحترم لفكره وكتاباته، لا لأصله وفصلة, وهكذا اكتسب أسمه المجرد شرف لا يستطيع ان يمنحه إياه آي انتساب آخر عدى الانتساب لشرف الكلمة، والانتساب لوطن اكتسب مواطنيه الصدارة لدى شعوب العالم لدماثة خلقهم للتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الوطن كما فعل عبدالله خليفة . للأسف الشديد ان عبدالله خليفة انسحب في السنوات الاخيرة عن الأضواء مكتفيا بالانكباب على الكتابة والبحث وتسجيل التجربة الانسانية للإنسان المكافح في البحرين وفي الخليج. رحيل عبدالله خليفة لم يكن مفاجئا، فقد هيئنا نحن أصدقاءه لهذا الرحيل بانسحابه بيننا، وبالرغم من ذلك، تكرم بالاتصال بي قبل عشرة ايام فقط للاطمئنان على صحتي بعد ان قرأ عن خبر دخولي المستشفى من الفيسبوك. ان رحيلك أيها الأخ الصديق وابن البحرين البار هو خسارة فادحة لنا، نحن الذين عرفناك عن كثب، خلوقا، دمثا, عفيف النفس، وملتزم بقناعات تتجاوز حدود المصالح الذاتية.. كان عبدالله خليفة يكتب من أجل الانسان، فهو يدافع عن حق الانسان في الكرامة وفي لقمة العيش الشريفة دون الحاجة الى التملق وتقبيل الأيادي، ولكن مثل هذه القناعات لها ثمن باهض، وفعلا، لقد كلفته قناعاته الكثير، وخاصة مع الأنظمة السياسية الرسمية وحتى الأنظمة غيرالرسمية والتي ترفع شعارات الحرية والديمقراطية، ولكن بعض قادتها يقبضون الثمن في الخفاء. رحيل الأديب والمفكر عبدالله خليفة هو علامة فارقة لجيل من الثوريين العرب القلائل، الذين لم يبقى منهم الا عدد قليل ممن يواصلون الجهاد بالقلم. رحمك الله أيها الأخ والصديق، وألف عزاء لوطنك الذي لن ينسى جهودك المضنية للدفاع عن حرية الكلمة في زمن التشويه والتحريف والنكران.. لن تنسى البحرين قلمك الجسور، وسوف تتذكر الأجيال بفضلك وداعة وأصالة الآباء والأجداد وكفاحهم.

عبدالله خليفة.. كم أثـرت في حياتي!
زهرة حرم

جمعني بهذا الإنسان المتواضع، قسم التدقيق اللغوي، بمبنى دار أخبار الخليج، حين بدأت أول مشواري العملي، كمدقق لغوي عام 2002. يتناوب على هذا القسم، الكتّاب الصحفيون، أو المحررون في الصحيفة. يبحثون عن مقالاتهم، أو تحقيقاتهم، هل خرجت من القسم؟ أو هل تم تدقيقها، أو ضبطها لغويا، وذلك بهدف التعجيل في نشرها، أو التأكد من انتهاء دورتها، بين أقسام الطباعة، والتدقيق، والإخراج.
يباغتك عبدالله خليفة، من دون استئذان. الباب يُفتح على مصارعه. يتجه مباشرة إلى (السِلال) التي تحوي ما نسميه (البروفات)، والتي نرقمها، إلى بروفة 1، وهي التي لم نقرأها بعد، وبروفة 2، وهي التي نتسلمها للمرة الثانية للتأكد من التزام من يتولى عملية الطباعة، بكل ملاحظاتنا، وتدقيقاتنا النحوية، وغيرها. ثم بروفة 3، أي النسخة النظيفة القابلة للنشر.
ومن دون كلام، يَفضُّ ما بين السلال. يبحث عن ضالته. أستاذ عبدالله. أناديه بشيء من التذمر، فينظر إلي بابتسامة بريئة، كمن فوجئ بوجودي. ها، خلصتون مادتي؟ طبعا يسألني مع زملائي، الذين تنتعش فيهم الحياة بغتة – لديه – من بعد أن كانوا أشباحًا. أمازحه: أستاذ، معور راسك بهالبحوث، وهالمواضيع. حرام تنزل في جريدة. المفروض تخصص لها كتبا كاملة.
نظر إليّ، وعلى شفتيه نصف ضحكة. لم يجب عن سؤالي. فقط. سأل مجددا: وين موضوعي؟ خلص؟ أجبناه، إننا في طريقنا لقراءته. كنت أنا وزميلتي نقرأ (البروفات) معا. ندققها. نعلق عليها. ونضحك. أو نثمن كثيرا المجهود وراءها، إنْ كانت تستحق. وكان عبدالله من الباحثين، الذين أدركنا جيدا، أنهم من الكبار.
لعبد الله، شخصية تذهلك. يجعلك تفكر فيها، وفي نفسك. حين يشاغبك بتعليق. أو حين يجيب عن سؤالك بإجابة، يبحث – هو – عنها. عقله مرتكز على هدفه. يمضي بك حيث يشاء هو. لا حيث تريد أنت. لم أذكر أنه أجابني إلى ما أريد بشكل مباشر. غير أنني أدركت أنه قيمة. كنت أفكر: لا بد أنه في طور كتابة رواية، أو بحث، أو تحقيق صحفي. هذا الرجل مشغول بالكتابة. اللغة تكتبه طويلا، وهو أسيرها. أليس لديه وقت لـ (سخافات) الحياة؟
جاءني على حين غرة، يوما، كعادته، مـادّا يده إلي بكتاب، قائلا: هذا لك. نظرت إليه بسعادة. إنه يهديني روايته الأقلف. قال لي: أنت من أوائل من أهديهم روايتي. قرأت العنوان: الأقلف. قلت له ممازحة: عاد الأقلف على وزن الأصلع. وأردفتُ: إنْ ما كان فيه إهداء ما أبغيه. ضحك في وجهي، وخرج من دون سلام.
كنت أعي جيدا، أن إهداءه، أي خط يده، يهمني. إنه نفيس. فأنا أؤمن أن الكِتاب بما يحويه من فكر، أو فن، أو إبداع. ولكن، أؤمن أكثر، أن مِن الحماقة تضييع إهداء، من شخصية في طريقها للسطوع. كنجمة في السماء. في داخل نفسي: أعلم يقينا، أنني في يوم ما سأفخر، أو سأتباهى بمعرفة هذه النجوم. أعلم جازمة. أنهم سيبرقون حين تتلاشى أجسادهم.
أمسكت الرواية، حركتُ الغلاف، وقرأت الإهداء: العزيزة زهرة. الصبية اللطيفة المرحة.. تقطع اللغة بأناملها، وتصنع الكلمات الصحيحة الجميلة. مع خالص المحبة. 31/8/2002. عبدالله. شعرت بالامتنان في نفسي. إنه يدرك، أنني أقدره. يقرأ مشاكساتي على أنها إعجاب، واهتمام. فقدرني بإهدائه إلي روايته.
نعم يا عبدالله. إن لم أكن قلت لك مباشرة، ما سأقوله الآن، آمل أن تسمعني روحك: كنت أحب فيك انسجام روحك مع كل الأرواح، وأحب عطاءك. أحب نفسك الطويل حين تغيب في الكتابة، وأحب أن أقول لك: كم أثرت في حياتي.

وداعاً فارس الفكر والأدب.. عبدالله خليفة
انتصار البناء

ترجل الفارس العنيد، ذلك البحريني القادم من اليسار البعيد، ترجل عن صهوة آلامه وأحزانه وترك حروبه ومواجهاته وخلد للسلام والراحة في عالم اللحود. رحل عبدالله خليفة في هدوء لا يليق بثورته وفي صفاء يتوافق مع أحلامه.
عبدالله خليفة كان واحداً من الشعب البحريني. تجده في سردياته يتمثل أمامك في صورة بحار فقد أشرعته، أو فلاح يقاوم الجفاف وحشرات الأرض، أحياناً يقبل عليك من الشاطئ الشرقي حاملاً معه الزعفران والرمان وأحلام التجارة وامتلاك الأرض، وأحياناً يزحف إليك مع الرمال الغربية حاملاً الأمثال والحكمة وسلال تمر صهرتها الشمس. (المكان) في أدب عبدالله خليفة كان صندوق الجينات ومعمل الخلايا، لم تكن المنامة، المهمشة سابقاً النفطية حالياً، كالمحرق العنيدة دائماً والمقاومة دوماً، ولم تكن القرية التي تختبئ الأسرار خلف نخيلها وتسر الأوجاع بين جداولها كالمدينة التي يطفو الصخب فوق حراكها وتتماوج الصراعات بين مكوناتها.
أسئلة المصدر والمصير كانت إحداثيات بحثه في إشكاليات الواقع. ولم تكن الإجابات جاهزة، بل… انتهت إلى كونها غير ممكنة: لماذا نخسر في كل مرة؟ لماذا نكبو بعد كل علو؟ كيف تتحول الأهداف والمبادئ؟ لماذا يتساقط الرفاق في فخاخ الإغواءات والإغراءات؟ لماذا نصير في كل مرحلة سلالم يصعد عليها الانتهازيون؟ هل الخطابات والشعارات أكبر مما تحتمله حركة الواقع؟ أين الخطأ؟ من أين ينشأ الخلل؟ تلك الأسئلة كانت تمثل البنية الفكرية لأعماله الفنية. وهي تتجسد في أبسط تمثلاتها الواقعية في تاريخ الحركة الوطنية البحرينية وفي حركة النضال العربي عامة. فبعد سنوات طويلة من النضال والتحرر واجه العرب فشل المشروع الوطني النخبوي، وإفلاس الأحزاب السياسية والحركات الفكرية، مما انعكس على المشاركة الشعبية في العمل السياسي والنضالي. وصعدت الدولة العربية القديمة بمكوناتها الفكرية الفئوية والرأسمالية وفرضت إديولوجيتها ومنهجها.
في أعماله الفكرية بحث عبدالله خليفة في بنية الثقافة (الشرقية) وعن الجذور التي أنبتت الواقع الحضاري الذي نعيشه اليوم. ثمة خلل في تداخل الأسطورة مع المقدس جعلنا نعتنق الخرافة في بعض عقيدتنا. الذين هاجوا وماجوا ضد مقالته الحديثة عن فلم (سفينة نوح) لم يدركوا، بما خلفته التربية العقدية المعقدة من تشوه في فهمهم، أنه كان يدافع عن التصور الإسلامي لشخصية نوح في مقابل التصور الأسطوري اليهودي الذي بُني عليه الفلم. ثمة عطب طال مجسات الاستقبال نشأ عليها الفرد العربي حتى غدا بعض أبنائه لا يميزون بين عدوهم ونصيرهم. وهذه بعض أسباب (العجز) الذي تعاني منه الأمة والذي أعْقم رحمها عن إنجاب النجباء الذين خلفهم التاريخ في صفحاته الصفراء.
انكسر اليسار أمام عينيه عندما سقط الاتحاد السوفييتي، وبعد أن هيمن القطب الرأسمالي الأوحد على العالم وتغولت فيه العولمة واتسع نفوذ الشركات العابرة للقارات. انكسر اليسار أمام عينيه فقط لكنه ظل صلباً في وجدانه، خلع كغيره من الرفاق العباءة الحمراء، وبقي وفياً لانتمائه الاشتراكي المقاوم للرأسمالية والانتهازية والطبقية بكافة تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وظل ثابتاً على مبادئه في المطالبة بالحرية والعدالة، واستمر انحيازه للمهمشين والفقراء نمط سلوك حافظ عليه حتى وفاته.
لم يكن عبدالله خليفة خصماً للسلطة باعتباره معارضاً سياسياً؛ كان خليفة مفكراً تنويرياً يختصم مع كل من يعادي القيم الإنسانية فيقتات على الخطب ويتاجر بالدين وبالحزب ويبيع التاريخ، ويشتري في كل مرحلة قلما جديداً. كان خليفة قارئاً مستشرفاً لما ستؤول إليه الأحداث في البحرين، لم يُفاجأ بالانقلاب الطائفي العميق الذي انجرف الواقع إليه، كان يرى أن خارطة الأماكن ستقود لامحالة إلى هذا الحال، تجلى ذلك في روايته الأخيرة (اغتصاب كوكب) التي رصد فيها حالة التجافي الكبير بين القرية والجوار المدني، وحالة التماثل الارتدادي بين القرية والضفة الشرقية للبحر!!.
في رحلته الأدبية الطويلة كان عبدالله خليفة أديب القضية، ولم يكن مهاجراً إلى المباني السريالية تحت وهج الحداثة، هو من الفصيل الذي يرى أن بيت القضية يسكنه الشعب وترتاده الجماهير، وبيت السريالية مهجور يسكنه الخائفون والهائمون على نصوصهم بين الكتمان والبوح. لم تخذله اللغة، ولم يعجزه الخيال والغرائبيات عن بناء نصوص متجددة متدفقة بالفكر والفن معاً.
عبدالله خليفة لم يسالم ولم يستسلم أو يصالح، ولم يستلم بشماله ثمن ما رفضته يمينه. صارع المرض والألم في آخر أيامه ليرحل في صمت الجبال وسلام السحاب. هناك في عالم الأموات سيجد السكينة وستنتهي المعارك والخلافات سيتحقق حلمه بأن يصبح الناس سواسية وأن يكون العدل هو أساس الحكم ومآل المصير وأن يحصد العامل ثمن عمله. وسيبقى في الساحة الأدبية فراغ ينتظر أن يثريه أديب ومفكر وتنويري مثل عبدالله علي خليفة البوفلاسة.

عبدالله خليفة في ضوء تجربته الروائيّة
أنيسة السعدون

الكاتبَ والمثقّف البحرينيّ الكبير عبدالله خليفة، بعد مسيرة طويلة شاقّة ومضنية وحافلة بالعطاء والتنوير، وإنتاجات دافقة وعميقة وثريّة ومتنوّعة في الفكر والفلسفة والأدب خلّفها وراءه لتشهد بآثاره التي حفرها في ذاكرة الوطن بترابه ونخيله وبحره وهوائه وشخوصه وتاريخه التليد والطارف، لقد توسّل عبدالله خليفة بالكتابة لِتقوم -كما أشار في تعقيباته النقديّة التي بعثها إليّ عبر بريدي الإلكتروني- «بالانغراس في جذور الأرض لأنّ كلّ يوم هو لحظة ألم وأمل»، ولكلِّ لحظة مضمون، وكلّما كان المثقّف ممتلكًا أدوات التعبير عن هذه اللّحظة، ومتمكِّنًا من الإفصاح عمّا تحتويه كان إنتاجه الكتابيّ أقدر على مقاومة الفناء والتّلاشي، وأجدر بتسجيل جوهر اللّحظة وتجلية خصوصيّتها.
والناظر في تجربة الكتابة الروائيّة عند عبدالله خليفة يلاحظ تراكم النصوص وانتظام صدورها؛ ليكون بذلك أغزر كتّاب الرواية في البحرين إنتاجًا، وأشدّهم حرصًا على ممارسة فعل الكتابة؛ لإيمانه بأنّ «الكتابة تنمو فوق الأرض الحقيقيّة، تسحب الصواري من عند البحارة الذين غطّسوهم موتى وهياكلَ خاليةً من المعنى في قعر الخليج، فتغدو الروايةُ الكبيرة المخطّطة في الرأس رواياتٍ عديدة»، تزخر بما يزخر به الواقع من صغير الشؤون وعظيمها، ذلك أنّ روايات عبدالله كلَّها مشدودة إلى الواقع شدًّا وملتصقة بالحياة التصاقًا، تكشفُ ما يمور به المجتمع من قضايا ومعضلات، وتعمدُ إلى فهم حركة التاريخ، ومظاهر تطوّره، وما ينعكس فيه من تجاذبات وصراعات وتغيّرات ثقافيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة وسياسيّة، وتنظرُ في بنية المجتمع، وتنشغلُ بمحرّكات التاريخ؛ لتقتنعَ بالتّصوّر الاشتراكيّ الذي ينتصر لمقام الكادحين والعمّال. فقد صرفت الروايات اهتمامها إليهم، وأخذتنا إلى الفلاحين يكدحون في حقول ملتهبة، والغوّاصين يجوبون بحارًا قصيّة، ويركبون الأهوال والآلام من أجل الكفاف والعفاف، ورحلت بنا إلى المصنع حيث العمّال «مندفعون في تيّار الحديد والنار والهواء البارد واللاهب»، وتنقّلت بنا بين القرية والمدينة، والماضي والحاضر، والأنا والآخر، وفتحت لنا المجال للنّظر في علاقة الإنسان بالمكان والتاريخ والتحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة، وصلته بمصيره والسلطة.
لقد أبرزت تجربة عبدالله خليفة الروائيّة المتمثِّلة في (اللآلئ 1981، والهيرات 1983، وأغنية الماء والنار 1989، والينابيع بأجزائها الثلاثة 2012) واقع الفئات الشعبيّة المغمورة، واستفاضت في نقل همومها وأحلامها؛ فعدل الكاتب إلى تصوير فضاءات المهمّشين حيث الشخصيّات الموسومة بالعجز والضياع والتأزّم تكتوي بنار الخصاصة والشّقاء والحرمان، وتنزوي في بيوت من سعف النّخيل، وأحياء فقيرة تقطنها المستنقعات، ويقرضها البعوض، ويأتي فضاء البحر، في أغلب هذه الروايات، ليسحق أجساد الغوّاصين في مهنة الغوص، وفيها يتعملق النوخذه النهم الذي لا يشبع، ومع رواية (الينابيع) يتحوّل الغوّاصون من فضاء البحر إلى فضاء الجبل ليستعبد وجودهم المستعمِر الأجنبيّ مسخِّرًا إيّاهم في التنقيب عن النفط، داعمًا عوامل الطبقيّة والتبعيّة له، مثبتًا مركزيّته، وبذا يدور الكادحون بين ماضيهم وحاضرهم في فلك علاقة إقطاعيّة طاغية تجسّد مرارة معاناتهم، وشدّة وطأة الحياة عليهم.
يتحوّل الكاتب في روايات أخرى ليصوّر مآلات هذا الواقع المأزوم على الذات الإنسانيّة، ففي رواية (الأقلف 2002) نرى بطلَها (يحيى) تدفعه العيشة المستلبة، والحياة الصاغرة، والظلم الغاشم من قبل المجتمع إلى الانزواء والشعور بالخواء والدونيّة، فيتلقّفه الأجنبي المتمثّل في (ميري) ويدغدغ مشاعره، ويغذّي غرائزه، ويغريه بالحلم، ويفتح له باب العلم. لتفترس (يحيى) المشرّد أسئلة لا يحار لها جوابًا: الوطن أم الاستعمار؟ الشرق أم الغرب؟ الإسلام أم المسيحيّة؟ إنّها أسئلة تبثّ ما تجيش به نفسُ (يحيى) وكثيرٌ من شخصيّات عبدالله خليفة من خطاب إيديولوجيّ لاهج بالاحتجاج على مجتمعٍ عنصريّ يميّز بين بني البشر، وواقعٍ مريض يكبّل الإنسان، ويهدر كرامته، وينسف بناءه السّامي، ويفقده حسّ الانتماء؛ ليكون أداة طيّعة في يد الغريب، وينغمس في أهوائه ونزواته.
وتعدّ روايات عبدالله خليفة من أبرز الروايات التي جسّمت ما ينخر المجتمع من عاهات تُفكِّك لُحمته، وتخرم وحدته، وتفضي به إلى تعطيل حركة التقدّم وعجلة التغيير المنشود. ففي رواية (القرصان والمدينة (1982 يتبدّى لنا كيف تُخان الثورة عندما يُسلَّم قِيادُها إلى العدوّ، وبذا يفرّط الخائن بالأرض رمز الحقّ التّاريخي والهويّة والحريّة والشّرف والكرامة، ولعلّ صورة الخائن هذه وما يلازمها من عوامل الخلل، ومظاهر الشين لا تباين صورة المثقّف الانتهازي الذي يتزلّف إلى السلطة طامعًا في الصّيت والمال والحظوة، وهو ما جسّدته شخصيّة (ياسين) في رواية (التماثيل 2007 (. غير أنّ رواية (ذهب مع النفط 2010) تعكس سعي الكاتب إلى تجاوز صورة المثقّف تلك بأخرى أكثر نضجًا وحرّيّة تعمد إلى تنوير الشعب، وتغذية مكامن القوّة والفعل فيه بحثًا عن أفق وجود أفضل.
كما تكشف رواية (ساعة ظهور الأرواح(2004 الكثير من عورات المجتمع، بأسلوب تتداعى فيه الحدود بين الواقعيّ والعجائبيّ، بما يفضح عبثيّة الواقع ولا معقوليّته؛ إذ يمارس الكثير من شخوصها وعلى رأسهم (يوسف) ألوانًا شتّى من الاستغلال والتنكيل ليتحوّل بذلك إلى إقطاعيّ كبير له أعوانه وأجهزته، ولا تتردّد العديد من شخصيّات الرواية في الانخراط في هذا الدرب بالتواطؤ مع (يوسف) وأمثاله من أجل الإبقاء على ثرائها والمحافظة على وجودها وسيطرتها ونفوذها، وأبرز مَن يمثّل هذ النموذج الشيخ (درويش) الذي استمات في البحث عن الكنز المفقود مستترًا بعباءة الدين لتحقيق مآربه الشخصيّة، وهي أبعاد انطوت عليها رواية (اغتصاب كوكب 2014) التي عرّت تصرّفات بعض المتديّنين، وجلّت الصراع بينهم وبين بعض المتنوّرين، ووقفت على اتّساع الهوّة بينهم في المجال الفكريّ والعقائديّ؛ بما يعكس تمزّق العرب، وقصور وعيهم عن استيعاب التاريخ وتحوّلاته، وتعويلهم على رؤى غيرهم في تقرير مصيرهم وضبط المسار الصحيح لواقعهم وشخصيّاتهم.
وإذا التفتنا إلى الروايات التاريخيّة التي أنجزها الكاتب مثل (رأس الحسين 2006، عمر بن الخطّاب شهيدًا 2007، عليّ بن أبي طالب شهيدًا 2008، عثمان بن عفّان شهيدًا 2008، محمّد ثائرًا 2009) تبيّن لنا ضخامة الجهود التي بذلها للتّصدّي لشخصيّات إسلاميّة عظيمة. وفي تأكيد ذلك يقول: «إنّ كتابة الرواية التاريخيّة عمليّة صعبة، ليس بسبب الدخول لتجسيد الصراع الاجتماعيّ في ذلك الزمن التأسيسيّ المقدّس للأمم الإسلاميّة، بل كذلك بسبب تصوير ما هو ملموس من أشياء ومناخات وأمكنة». وهذا هو ما دعاه إلى رصد مسيرات تلك الشخصيّات، وسبر أغوارها، والمقارنة بينها وبين غيرها من شخصيّات التاريخيّة في الرواية، والنّفاذ إلى توضيح أوضاع الحكم في عهدها، والتغلغل إلى أسباب الصراع، وتبيّن مسؤوليّة الخاصّة والعامّة؛ ويأتي كلّ ذلك من أجل استغلال أفق تاريخيّ زاخر ومزدحم بالوقائع والخلافات والصّراعات على مختلف الصُعُد، وهو لا ينفكّ يتكرّر في الزّمن الرّاهن، وبذا يتحوّل التّاريخيُّ إلى جدليٍّ يعدل إلى مساءلة الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، ويدعو إلى التأمّل مليًّا في قضايا إنسانيّة جوهريّة.
لقد كانت السياسة، وتداعياتها على الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ، هي الشاغل الأبرز في تجربة عبدالله خليفة الروائيّة، ومن هنا هيمنت على عوالمه الإبداعيّة لينخرط أدبه ضمن الأدب النضاليّ الملتزم بقضايا مجتمعه، وقضايا الإنسان عامّة، بغية العمل على تحريره من كلّ أشكال القهر والاعتساف والاستلاب والظلم، وتحديد الشروط الكفيلة بتأسيس مجتمع منشود ينهض على الحريّة والعدالة والمساواة. وممّا يجدر توضيحه هنا أنّ عبدالله خليفة أصدر بعض الأعمال الفكريّة والفلسفيّة والنقديّة في فترة تتزامن مع إصداراته الروائيّة، الأمر الذي يكشف نهوض الممارسة الروائيّة لديه على خلفيّة نظريّة يصدر عنها في إبداعه الروائيّ؛ وقد ترتّب على ذلك عمق استيعابه إشكالات الواقع، والمنابع التي تنهل منها، وسهّل عليه المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، وأَمْكَنه من تنويع الأساليب والبنى السرديّة وأنساق الخطاب ومستويات اللّغة، وجميع ذلك يجعل تجربته الروائيّة تتميّز بوعي نقديّ بفعل الكتابة شروطًا وأدوات وآفاقًا.

الرؤية الفكريّة والفنيّة لأدب عبدالله خليفة
أنيسة السعدون

الناظر في تجربة الكتابة الروائيّة عند عبد الله خليفة يلاحظ تراكم النصوص وانتظام صدورها؛ ليكون بذلك أغزر كتّاب الرواية في البحرين إنتاجًا، وأشدّهم حرصًا على ممارسة فعل الكتابة؛ لإيمانه بأنّ “الكتابة تنمو فوق الأرض الحقيقيّة، تسحب الصواري من عند البحارة الذين غطّسوهم موتى وهياكلَ خاليةً من المعنى في قعر الخليج، فتغدو الروايةُ الكبيرة المخطّطة في الرأس رواياتٍ عديدة”. تزخر بما يزخر به الواقع من صغير الشؤون وعظيمها. ذلك أنّ روايات عبد الله كلَّها مشدودة إلى الواقع شدًّا وملتصقة بالحياة التصاقًا، تكشفُ ما يمور به المجتمع من قضايا ومعضلات، وتعمدُ إلى فهم حركة التاريخ، ومظاهر تطوّره، وما ينعكس فيه من تجاذبات وصراعات وتغيّرات ثقافيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة وسياسيّة، وتنظرُ في بنية المجتمع، وتنشغلُ بمحرّكات التاريخ؛ لتقتنعَ بالتّصوّر الاشتراكيّ الذي ينتصر لمقام الكادحين والعمّال. فقد صرفت الروايات اهتمامها إليهم، وأخذتنا إلى الفلاحين يكدحون في حقول ملتهبة، والغوّاصين يجوبون بحارًا قصيّة، ويركبون الأهوال والآلام من أجل الكفاف والعفاف، ورحلت بنا إلى المصنع حيث العمّال “مندفعون في تيّار الحديد والنار والهواء البارد واللاهب”، وتنقّلت بنا بين القرية والمدينة، والماضي والحاضر، والأنا والآخر، وفتحت لنا المجال للنّظر في علاقة الإنسان بالمكان والتاريخ والتحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة، وصلته بمصيره والسلطة.
– أولاً: الإنسان قضيّة جوهريّة:
إنّ أوّل ما يسترعي الانتباه في الإبداع القصصيّ والروائيّ لعبد الله خليفة هو ذلك الحضور المكثّف للإنسان البحرينيّ بصفة خاصّة، والإنسان العربيّ بصفة عامّة، والإنسان الكونيّ بصفة أكثرَ شموليّة. إذ ينطلق المبدع من عالمه الخاصّ عبر مساءلة الواقع الذي ينتمي إليه، والبحث في مظاهر تهافته، وآثار تحوّلاته؛ ومن هنا تتحوّل الذات إلى مرآة تعكس وجوهًا من الواقع، وتكشف معاناة ذات جماعيّة تمثّلها الفئات المقهورة والمعذَّبة، جاعلاً منها مادّة للحكي، ومعطًى لبلورة الوعي، فلم يكن عبد الله خليفة في أيّ عمل من أعماله، على تعدّد أصواتها، واختلاف أنماط صوغها الفنيّ، بعيدًا عن ذاته، ولم يكن بعيدًا عن مجتمعه ووطنه، ولم يكن بعيدًا عن جوهره الممتدّ في بعده الإنسانيّ. لقد كان، وهو يكتب تجربته العميقة، يُطْلِق العِنان لفكره الغزير، وأحاسيسه الصادقة، وحواسّه كافّة لتسبر غور هذا العمق أينما كان، والجمال حيث تبدّى، والقبح أنّى تخفّى، مازجًا الكلّ في طين المتخيَّل. فالذات الإنسانيّة هي التي يسعى الروائيّ إلى التأكيد على استحضارها عبر الشخصيّات المتخيَّلة، من ناحية، وعبر تقمّص الرواة أدوارها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة من ناحية ثانية، وعبر التوصيف الإثنوغرافي من ناحية ثالثة.
على هذا النحو تتحدّد الرؤية الأولى للمتخيَّل الروائيّ لعبد الله خليفة، فهو قبل كلّ شيء رواية للإنسان المرجعيّ في نضاله اليوميّ، وصراعه الدراميّ المحتدم ضدّ العوائق والمعضلات التي تهدِّد كيانه الإنسانيّ. وكأنّ الراحل سخّر موهبته ورؤاه لخدمة تلك القضايا التي تشكّل الرأسمال الرمزيّ للإنسان. وبالانطلاق من موقفه المسؤول والملتزم كان يعي تمامًا أنّ أيّ إبداع تحيد رسالته عن هذا المغزى سيكون مصيرُه الذبول؛ لأنّ الإنسان هو المقياس لكلّ شيء، وهو الغاية من كلّ شيء، وهو الصانع لمصيره، وهو المسؤول عنه، وبهذا المعنى يغدو السرد أحد مكوّنات الهويّة الإنسانيّة.
– ثانيًا: العالم المتخيّل عند عبد الله خليفة:
إنّ أهمّ ما يسم عالم خليفة الروائيّ، تبعًا للمكوّنات السرديّة، ما يأتي:
1- اللّغة السرديّة:
يوظّف خليفة لغة أشبه ما تكون بالتقريريّة التي تقترب من لغة الخطاب اليوميّ، ولكنّها تسمو عن الابتذال، فهى أقرب ما تكون إلى لغة وسطى بين الفصحى والمحكيّة (اللّغة الثالثة). تحسّ معها أنّ الشخصيّات هي التي تتكلّم وليس الكاتب، فهذا الأخير يتنازل، ما أمكن لرواته وشخصيّاته، من أجل أن تبتكر لها لغة خاصّة ووظيفيّة، تكون فيها الجملة على مقاس الفكرة. وتلك هي لغة السرد التي تصل إلى المتلقّي بسلاسة لا يحتاج معها إلى جهد فكريّ. ويمكن للقرّاء، على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم، تقبّلها وفهمها دون عوائق أو متطلَّبات، وهذا ممّا يوسّع من مقروئيّة النصوص.
2- الرؤية السرديّة:
تُعَدُّ مسألة الرؤية من المسائل الضّروريّة في فهم عناصر العالم القصصيّ، وأبعاده الدّلاليّة الفنيّة؛ إذ إنّ أحداث هذا العالم القصصيّ لا يمكن أن تتبدّى في صورتها التّخييليّة إلا من خلال مبئِّر ينهض بتقديم المادّة الحكائيّة. وقد تبنّى عبد الله خليفة المنظور السرديّ التقليديّ في الرؤية، حيث يعتمد الرؤية من الخلف فهي تتيح للراوي حضورًا دائمًا إلى جانب الشّخصيّات، وتكفل له معرفة متعالية إزاء جميع ما يقع من أحداث، وحريّة واسعة في كيفيّات تركيب الوقائع، وطرائق تقديم الشّخصيّات. ورواة خليفة وإن تظاهروا في تضاعيف النصوص باستعمال أنماط متعدّدة من الرؤى السرديّة؛ فإنّها لا تعدو، متى نظرنا في إخراجهم لها، أن تنضوي تحت رؤية أكثرَ اتّساعًا هي رؤية الراوي العليم. ويكشف ذلك عن تعامل رواة خليفة مع الأحداث والشّخصيّات تعاملاً فيه الكثير من التّصرّف والانحياز بحسب غاياتهم، وزوايا نظرهم.
وفي الحقيقة لا يخلو هذا التصرّف والانحياز من غايات ومقاصد تجعل رؤية الرّاوي الخياليّ تشاطر رؤية كاتب متعالٍ يقلّب نظره في الأحداث انطلاقًا من اعتقاداته وتصوّراته الإيديولوجيّة ذات التوجّه الماركسيّ الذي يصدر عنه؛ فيلتقط ما يؤكّد رؤيته، وينتصر لمذهبه، ويكشف ما يخالفه من آراء، فيقف منها موقفًا مضادًّا؛ وبذا تعدّدت وجوه حضور الراوي- الكاتب في الروايات بين راوٍ مناوىء ومناكف لوجهة نظر الشّخصيّة، وراوٍ متعاطف ومتآلف مع رؤيتها، وراوٍ ساخر ومتهكّم منها، وراوٍ متظاهر بالموضوعيّة ومتنكّب عن نسبة ما يروي إليه مفسحًا للشّخصيّة مجال التّعبير والتّأثير. ويأتي هذا التعدّد في الرؤى والمواقف لتشييد رؤية الكاتب واختياره الفكريّ، ومذهبه الإيديولوجيّ المحرّض دائمًا ضدّ الطبقيّة، والداعي أبدًا إلى الحرّيّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة.
3- الشخصيّة الروائيّة:
يستلهم عبد الله خليفة شخصيّاته من الواقع البحرينيّ، لا سيّما تلك التي تعيش على هامش الحياة تكابد أشكال الفقر والظلم والقمع، وتعكس تفاصيل طويلة وممتدّة من حكايات البؤس والعسر والكفاح. هذه الشخصيّات تعيّن بأسماء وقد تقترن بألقاب منتزعة من البيئة البحرينيّة. واختيار أسماء الشخصيّات أو نحتها لا يأتي عفويًّا، وإنّما يلبّي مقاصد اجتماعيّة وثقافيّة تساهم في إرساء المعنى الرمزيّ للتجربة، فضلاً عن دلالاتها النصيّة المرتبطة بالرؤية العامّة للمحكيّ. كما تتّسم تلك الشخصيّات بأوصاف فيزيولوجيّة وثقافيّة تعكس مرجعيّة لصيقة بالواقع. وأغلبها يلبس زيّ الإنسان البحرينيّ بما يتناسب وبيئته المحليّة وتحوّلات واقعه. ولسانه ينطق بلغة الشعب في بساطتها وعفويّتها، ومخزونه اللّغوي التراثيّ في رمزيّته وإيحاءاته. فتحسّ بأنّ هذه الشخصيّات الورقيّة تعيش معك بلحمها ودمها، تتألّم، وتصرخ، وتحتجّ، وتغنّي، وتضحك، وتكافح في سبيل لقمة العيش، وتنكفئ على ذاتها في مونولوجات صاخبة، أو تحلم وتقاوم وتناضل من أجل واقع أفضل من الراهن. وكلُّ ذلك يدرجها في نطاق خطاب إيديولوجيّ يتجاوز السّياق الذّاتيّ، ومجاله الشّخصيّة، إلى سياق الواقع بإشكالاته وتحوّلاته.
4- الفضاء الروائيّ:
إنّ الفضاءات الواردة في روايات عبد الله خليفة تعزّز حضور الميثاق المرجعيّ بشكل واضح. فرواته لا يبتكرون أفضية وأمكنة وأزمنة هلاميّة من محض الخيال الشخصيّ، بل إنّهم ينزلون إلى الواقع الفعليّ لتقف الشخصيّات في أمكنة بحرينيّة مدنًا كانت أو قرًى، بأكواخها المبعثرة الصغيرة، وبيوتها البسيطة، وأسواقها ودكاكينها ومقاهيها وأزقّتها الضيّقة ونوافذها وأبوابها وسقوفها وحمامها السارح وغنمها ودجاجها وأطفالها وفتياتها ونسائها ورجالها وسفنها وأشرعتها، وكلّ ما يلامس طبيعتها الساحليّة أو الزراعيّة، وما يتّصل بكلّ بيئة من أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة وذاتيّة وثقافيّة وفكريّة وسياسيّة، وما يرتبط بتاريخها العبق، وملامح التطوّر فيها. وهذا يعني أنّه لا وجود، في روايات خليفة، للنقل الحرفيّ للمكان الجغرافيّ أو العمرانيّ بطريقة تصويريّة فوتوغرافيّة، بل النقل الذي يَخضع إلى التذويت، لتنبصم طبيعة المكان على الشخصيّة الإنسانيّة، وتفرض عليها منطِقًا في التعامل، وميزة في الصفات الفيزيولوجيّة، وإيقاعًا واختلافًا على مستوى اللّغة، وعلى مستوى الحركة، وأيضًا على مستوى طبيعة التفكير، ونمط العيش. وكلُّ ذلك يؤدّي دورًا وظيفيًّا على الأحداث والشخصيّات، ويتماشى وسيرورة التصوير الفنّيّ، وما يتولّد عنه من تفاعلات وصراعات، وبالتالي يفتح باب التأويل والتحليل بما يعكس تصوّرًا معيّنًا، ورؤية للعالم، وأفقًا لصوغ متجدّد، ويرفع التصوّر القرائيّ من عتبة التخييل إلى عتبة الترميز، ومن الإبداعيّ إلى الإثنوغرافي إلى الأنثروبولوجيّ.
5- الأحداث مسبارًا لرؤية فكريّة:
تتركز الأحداث، في روايات عبد الله خليفة، على تلك التي تعتني بتصوير أزمة الفرد والمجتمع، وتلتقط كلَّ ما يعكس طموحاتهما وإحباطاتهما، وهو ما يمنحها أهميّتها وثقلها المرجعيّ، ويكشف تجربةً مطبوعة وعميقة دُفِنت في أغوار الكاتب، ويحاول بعثها من جديد في عالمه الرّوائي متخطّيًا الحيّزَ الذاتيّ إلى الواقع لمحاورة ما ينطوي عليه من إشكالات وتحوّلات أو مجادلتها والاعتراض عليها. ومن أجل هذه الغاية غالبًا ما ينيط الكاتب بمفوَّضِه الخياليّ الرّاوي مداخل السّرد ومخارجه، فلا تخرج الأحداث عن ترتيبه ومعرفته ورؤيته وموقفه، وإن كان ذلك على حساب حدود السّرد ومحظوراته.
والجدير بالذكر هنا أنّ بناء الأحداث وفق السيرورة المؤدّية إلى الحبكة، لا تأتي بشكل اعتباطيّ، بل هي جزء من تصوّر إيديولوجيّ وطرح معرفيّ نقديّ يتبنّاه الكاتب في إطار مشروعه الثقافيّ ورؤيته الفكريّة ورسالته الفنّيّة، وجميع هذه الأطر يتبنّاها الكاتب بقوّة الفعل، فهو مثقّف تنويريّ، وأديب ملتزم، وناقد فذّ، ومشارك فاعل في كثير من التحوّلات السياسيّة والثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والأدبيّة، ومنخرط باليوميّ وما ينضح به من أسئلة وموضوعات، ومتحرّر من حدود ذاته الضيّقة، ومقترب من الجماهير، وواقف على همومها وتطلّعاتها، ومؤمن بضرورة التغيير نحو الأفضل. وكلّ ذلك يكفل لتجربته الروائيّة جاذبيّة ضافية تكتسب من ورائها مقروئيّة واسعة، وتستفزّ القرّاء إلى تبنّي رؤية أكثر اتّساعًا تنشط معها قوى الوعي والفعل.

عبدالله خليفة.. مناضلاً ومفكراً مستنيراً
فهد المضحكي

في مرحلة تشكل وعيه الوطني تبلورت مفاهيمه حول أهمية التحرر الوطني وانجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وفي سبيل النضال ضد سلطة الرأسمال المطلقة والاستغلال واضطهاد الشعوب اخذ دوره الطليعي الماركسي في الدفاع عن مصالح العمال والمهمشين وعن الاشتراكية كطريق لحل المشكلات الاجتماعية الاقتصادية.. في ذلك الوقت وتحديدا في ستينيات القرن الماضي ناضل في صفوف جبهة التحرير الوطني حتى اصبح احد ابرز كوادرها.. عرف السجون والمعتقلات ولم يتراجع عن افكاره الماركسية والاممية كما يفعل اليوم البعض من هو محسوب على اليسار لاسيما أولئك الذين اصبحوا في تبعية للقوى الاصولية الدينية الطائفية اولئك الذين تنكروا لمصالح الشعوب المقهورة ارضاء للأنظمة المستبدة! في أتون انشغالنا في لجنة تكريم الادباء التي تحولت مؤخرا الى خلية نحل استعدادا لتكريم الروائي المبدع عبدالله خليفة وهو علم من اعلام التنوير والواقعية النقدية وقد استطاع من خلال اعماله الروائية والفكرية ان يبرز مكانه العقل والمنطلق والقوانين المادية في تفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية ان يضيف الشيء الكثير للأدب والثقافة والفكر، في اتون ذلك وقع ما كنا نخشاه اذ اختطف الموت فارسنا بعد صراع مرير مع المرض قبل موعد المهرجان نعم فارسنا الذي حرصنا في لجنة تكريم الادباء ان نحتفي به بشكل يليق بفكره وبتضحياته وبعطائه الغزير وبمنجزاته الروائية الزاخرة بأحلام الفقراء وهموم المحرومين وبرسائل المناضلين والقيم الانسانية قد ترجل ولكن فكره المستنير باق معيناً لا ينضب، فما اشد حزننا على رحيله، وما أكثر الابطال الذين نزفوا بصمت وواجهوا العواصف والاهوال في صمت واستمروا في حفر الصخور في صمت ورحلوا في صمت!. ونحن عندما نتحدث عن المناضل والمبدع عبدالله خليفة فإنما نتحدث عن مثقف عضوي ادرك في وقت مبكر أهمية إيقاظ الوعي السياسي ودور الكادحين والشغيلة واشاعة الديمقراطية وحقوق المرأة.. ما أكثر ما يثيره فقيدنا في مؤلفاته الكثيرة عن مخاطر الحكم المستبد والشقاء والفرح والاغراب في ظل الاستعمار والرجعية والعولمة المتوحشة.. نعم هكذا كانت مؤلفاته وهي تعبر عن الفكر العلمي المتجدد المتحرر المتقدم في مواجهة الانظمة الفاسدة وقوى الظلام. وهكذا ينقلنا عبدالله خليفة الى محطة نوعية استمدت مشروعيتها من العملية النقدية للنص الديني المقدس وكتب التراث التي ساهمت بشكل كبير في خلق الوعي الارهابي العنيف دفاعا عن الحقيقة المطلقة والعصور الغابرة! وفي بحثه عن آفاق العقل والعقلانية والعلمانية كانت رؤيته عن كتب التاريخ والحياة عامة في ارتباط عميق مع المادية الديالكتيكية والتاريخية.. كان باحثا متميزاً دون ان يخل بشروط البحث العلمي والتاريخي، وبالحوار الموضوع والنقد البناء وأهمية التنوع والتعدد والاختلاف. عبدالله خليفة الملتزم بقضايا الشعوب المضطهدة وبالدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان كان في التسعينيات في مقدمة العريضة النخبوية المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفين وإادة الحياة البرلمانية.. كانت ابداعاته تتدفق قيما اجتماعية وجمالية راقية.. كان مناهضا للعنف والارهاب والاسلام السياسي بكافة ألوانه. لم يكن غريبا ان تصدر كل تلك الاثارة والتحريض والاتهامات بالكفر والخيانة بحق عبدالله خليفة ورجال الفكر والثقافة المستنيرة الذين انحازوا في معارك التنوير الى الديمقراطية والتعدد والتقدم.. لم يكن غريبا ان يتعرض عبدالله خليفة الى تلك الهجمة الشرسة التي شنها المتأسلمون لقناعته السياسية والفكرية التي تنتقد دكتاتورية الولي الفقيه ومرشد الجماعة، وتقول بضرورة فصل الدين عن السياسة والدولة، واعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ولعل هذا يذكرنا تلك الهجمة الاسلاموية على خلفية مقال «ثقافة الخرافة والتعصب» الذي اشار فيه الى الفلم المسمى بنوح قائلا: «نجد هذه الشخصية مسروقه من التراث العراقي عايشت الطوفان وهي شخصية نجد امثالها في العديد من الملاحم العراقية القديمة في ظل التنوع وكون الفيضانات كوارث طبيعية وعادية وبعضها كبير ومخيف»، وعلى هذا الاساس تم تكفير عبدالله خليفة في حين ان نقده كما يقول للفلم وليس الديانات! سيظل فكر عبدالله خليفة المستنير متدفقا شامخا في سماء الثقافة التقدمية. التعازي لأسرته الكريمة ومحبيه.. سيبقى فكره شعله مضيئة لنا وللأجيال اللاحقة.

لترفع القبعات احتفاءً بالمبدع عبدالله خليفة
فهد المضحكي

تكرم لجنة تكريم الأدباء المبدع الروائي عبدالله خليفة، الذي ظل طيلة حياته الابداعية يغوص في اعماق البحار، ليعود بكل ما هو ثمين من الدانات المتلألئة المضيئة بحب الانسان والأوطان.. كم كان عاشقاً للينابيع المتدفقة بالفن والانفتاح على ثقافة العصر المستنير. هناك، وراء القضان، كانت صرخته مُدويه، صداها يتردد على صفحات موج البحر، لتحكي حكايات تحطيم الأغلال وقيود الاستعباد، وقصص السواعد في المصانع والمزارع، و»حزاوي» الحارات القديمة المفتونة بسمفونية الأحلام والرقص على انغام الامل. ان الاحتفاء بالمبدع الكبير الراحل عبدالله خليفة، يعنى الاحتفاء بقامة كبيرة، وبنجم اصبح ساطعاً في سماء الابداع الروائي والفكري المتميز، ليضخ في شرايين المجتمع الدم التنويري وثقافة حب الحياة، في زمن ساد فيه الانكسار، والخنوع، والتعصب المذهبي والطائفي، والولاء للقبيلة، والاستجابة لصدى صوت ولي الفقيه، ومرشد الجماعة، انتصاراً للسلطة الدينية، لا المدنية، وللتطرف السياسي والفكري ومرجعياته الدينية، بدلاً من الفكر التقدمي والوعي التنويري مستقبل الحياة. وكلما توغلنا في نهج المبدع عبدالله خليفة، كلما اكتشفنا جوهره المستنير، الذي دافع عنه بقلمه وفكره، وهو ما جسده في اعماله الروائية والفكرية التي حافظ فيها على التزامه المبدئي بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبمنجزات التنوير، الذي اصبح في البحرين بلاد المحبة والتسامح والتعدد، رائداً له ينبض دائماً، بالحب والوفاء تجاه مكونات المجتمع والعلمانية والانسانية.. ولاشك أن منهجة الفكرى الديالكتيكي التاريخي وراء هذه الرؤية العلمية الموضوعية. في هذا التكريم او هذا المهرجان، الذي يُعد نقطة انطلاقة في برنامج عمل لجنة تكريم الأدباء للاحتفاء بادباء البحرين، تطمح اللجنة ان يكون لائقاً بعبدالله خليفة الاديب التقدمي، الذي كان قبل رحيله متفاعلاً مع فكرة التكريم، والاحتفاء به، لاعتباره منارة لصوت العقل، والعلمانية الموضوعية، وللثقافة الإنسانية.. فان رحيل مبدعنا العزيز على قلوبنا وقلوب كل المستنيرين في البحرين والخليج ترك في نفوسنا جرحاً عميقاً، آثاره بالغة في القلب والوجدان! وفي اطار هذا التكريم الحافل بالفعاليات الادبية والشعرية نظل اوفياء لافكار المبدع عبدالله خليفة التنويرية وللارض التي انجبته، وانجبت المبدعين الذين عشقوا النور والتنوير، ومضوا في رحلة الحياة الصعبة في ضياء الانوار لاعتمة الظلام المتصلة بالقرون الوسطى، تغيب العقل! وتكشف احتفالية الراحل التي ستقام في الثلاثين من ديسمبر عن جهود تكتسي اهمية خاصة في مجال التكريم لأبرز قامة في الفكر التنويري البحريني، وما تكريم المبدع الكبير عبدالله خليفة الا تكريماً للفكر التنويري اينما كان، وهكذا انخرطت الجهود المنفتحة على فضاء التقدم لتحتفي بمبدع البحرين، الذي رسم لوحات اجتماعية صادقة تناولت المهمشين في القاع الاجتماعي، وحقوق العمال والنساء، والانحطاط السياسي، والقلق والقهر، والمشردين بين جدران المدن البعيدة! واذا كانت الثقافة الوطنية التنويرية تعني الانخراط في زمن الحداثة وعدم التخلي عن النقد لكل ما يسلب الانسان حريته وكرامته، فان الراحل عبدالله خليفة كان في مقدمة المدافعين عن الفكر الحداثي، ومعنى هذا أن كل ما انتجه من اعمال روائية وفكرية وبحثية كانت الاكثر تعبيراً عن التحرر والتطور الرامي الى ترسيخ المعرفة النيرة، وتعزيز قيم المواطنة والديمقراطية، والدفاع عن العقل، ومواجهة العنف والارهاب، والغلو الديني، والتوظيف السياسي للدين! قد تختلف مع الراحل في بعض التفاصيل السياسية والفكرية، وهو الأمر الذي يعتبر مشروعاً في لغة الجدل المعقدة، الآن هذا الاختلاف ليس هدفاً في ذاته، بققدر ما هو ضرورة، من اجل تجاوز التسطيح والشكلانية، وتعميق الوعي بما يخدم المجتمع والانسان والحياة. ان الانفتاح على منجزات المعرفة الحديثة المعاصرة، بهدف التحول والتغيير على اسس الحداثة السياسية والاجتماعية، ثقافة دافع عنها الراحل بكفاءة عالية، وفي وقت المواجهات، كان حضارياً في ادارة الاختلاف الذي لا يخرج عن اطار الوحدة والتنوير. بالفعل هكذا كان المبدع الراحل عبدالله خليفة. ان حبنا لهذا المبدع، واخلاصنا للفكر الذي يجمعنا معه، يدعونا الى ان نرفع القبعات في حفل تكريمه مساء الثلاثين في (الملتقى الثقافي الاهلي) احتفاء به وبفكره الذي يجمع العقل والحداثة كضرورة للتقدم.

عبدالله كما عرفته
رجل «الثقافة من أجل الإنسان والحرية»

كمال الذيب
رحل عبدالله خليفة… هكذا دون مقدمات طويلة. قضى -رحمه الله-قلماً شامخا ومناضلا شريفا، وكتابا مفتوحا لا ينتهي، سقط شهيدا، تشفع له لائحة الأماني وخارطة الأحلام التي نجح في حفرها في الأرض، من أجل الإنسان والوطن. مضى منفردا عطشاناً، لم ينه ما في جعبته، مقاطعا عالم الكتابة المليء بالدجل والتزوير والأكاذيب والتزلف والأمجاد المستعارة مضى دون أن يعثر على النبع الصافي. إلا أنه وجد «هجعته» الأخيرة في ثلاجة الموت القصية: أهكذا الرحيل، أهكذا تكون الغيبة يا عبدالله؟!! طائرا مجروحا، في الليل يطلق الصرخات، يعذبه أن العيش حيث يستحيل الفكر محض تراب، إنه الموت الحقير، خلاص من عذاب الألم الذي لم يقعده عن الكتابة إلى آخر لحظة قبل أن يقضي واقفا.لم يحزنني الخبر، بل أصابني بالشلل ليوم كامل…هذا الرجل الهارب كقبض الريح، بالأمس كان يحلم ويرسم آفاقا جديدة للبلد وللإنسان: يقاتل على جبهة الحرية والعدالة دون ادعاء أو تزييف للوعي، لم ينهزم أبدا في معركة المبادئ والحرية، ولكن هزمه الألم، فقضي في معركة الموت الجبانة… كان يبحث عن بوابة البحر الأخيرة فلا يجدها، يركض، وبأظافره ينبش بحثاً عن لحظة إبداع نظيفة، يرجع كل ليلة خائباً يذكر بسيزيف الذي يحمل الصخرة قدراً، ولكنه لا يستسلم للعبة المحتومة، مثقل الجفون مضى، جسداً لم يستنفد شهوته الأخيرة، مغروسا في تراب البلد وناسه، يتأبط قدره المحتوم، ويبحث عن قبلة أوجاع أخيرة، مضى عقوداً من الخيبات العربية وخواتيم أحزان وآلام، يجري. يرميه الميناء إلى الميناء، والخيبة إلى الخيبة، لكنه لا يستسلم أبدا حتى أمام الألم والموت اللعينين، يقاتل ويستمر في كتابة مقاله اليومي وهو على فراش الموت (هكذا يكون القتال يا عبد الله)! لقد علمتنا كيف نكون أو لا نكون، وكيف يكون الفقر غنى، والتعفف شرفا، والصدق مع النفس ومع الاخرين قاعدة الحياة الأولى والأخيرة! كنت ترسم بقلمك الجريء رؤى الأيام القادمة، لم تكن من الحالمين بهدأة مريحة، بمحطة أكثر هدوءا لأنك اخترت ان تقاتل، أن تظل الى آخر لحظة في جبهة مقاومة الكذب والتزييف والتجارة البائرة بالفكر، رفضت مهادنة التخلف والرجعية أو التحالف مع الطائفية، اخترت أن تكون مع الحرية ومع العدالة ومع إنسانية الانسان، «أجندتك» الأخيرة، لا تبحث عن أي نوع من المكاسب أو المطامع خارج فعل الكتابة الحرة.
عندما عرفته أول مرة في خريف 1987م في أسرة الأدباء والكتاب، بدا لي وقتها وكأنني أعرفه منذ ثلاثين عاماً، لم اشعر في أي لحظة أو في أي كلمة باي نوع من الغربة أو الصلف او الادعاء، رجل إنساني الأفق والاشواق، فأحببته، وفي أخبار الخليج، محطته الأخيرة عملت معه خمس سنوات في تحرير وإعداد الملحق الثقافي الأسبوعي في تسعينيات القرن الماضي (16 صفحة ملونة) أيام كان للثقافة بعض الشأن، وبعض المكانة في الصحافة اليومية، كنا نرسم أحلام المثقف وهمومه وكانت المواد الثقافية ملتصقة بالمثقف البحريني وهمومه الحقيقية وإبداعه الحقيقي، وكان عبدالله لا يجامل في الابداع والنشر، لأنه يكره التزييف والمزيفين واشباه المثقفين… واذكر أني سألته في بعض حواراتي معه: لماذا تصاب الثقافة المحلية بالانتكاسة وتدخل منطقة الظل والتهميش؟ فرد دون تردد: لقد كانت قصصنا واشعارنا تقرأ في الندوات، ويحدث حوار مفتوح حولها، وأحياناً بدون أي إعداد مسبق، والنقاش يفيض والكاتب يحس أنه جزء من حياة بشر يقرأون، وليس حاله مثل اليوم، يضاجع الأوراق فحسب، وهي لا تلد سوى الصمت. وكان رؤساء التحرير، من أمثال محمود المردي وعلي سيار وعبد الله المدني، أناسا مثقفين وأدباء حقيقيين، يتذوقون الكتابة الابداعية ولهم مشاركات فيها. وكانت تحدث حوارات مع الكتاب يشارك فيها رؤساء التحرير مما كان يدعوننا للوضوح وصياغة ابداعنا بصورة أفضل، أكثر تماسكاً وعدم التركيز دائماً على السياسة. لقد كانت أسرة الأدباء والكتاب منفتحة، تعددية، ذات مناخ ديمقراطي، وليس ثمة أي قطب يذوب فيه كل الأقطاب الأخرى، أو شلة تستولي على النشر وترتيب الندوات، كنا أشبه بالجوالين والكشافة، ننتقل من ناد إلى ناد، ومن أمسية إلى ندوة، ونتحاور بقسوة أحياناً، ونكتب بضراوة وكثرة، على مختلف الجبهات والصفحات. لم يكن الهدف من الكتابة الحصول على نقود أو شهرة بإحداث الفعل الثقافي التنويري. وكانت الندوات العامة التي تحدث في قاعات الأندية، مليئة بجمهور المعرفة. حيث كان الكتاب والصحفية والندوة هي وسائل الإعلام القوية. لكن كل هذا تغير اليوم، وتغير المناخ الثقافي، عبر حدوث التغيرات الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة. فالمدن لم تعد لنا، صارت مليئة بالأجانب وعزلت الأندية عن دورها الثقافي، وصارت محتكرة من قبل إدارات من الوجهاء والأميين ولا يقودها الأدباء والمفكرون. عزلوها عن مناخها الفكري، وركزوا على الرياضية محاولين جعل الشباب بلا خليفة ثقافية. ومع ذلك لم ينجحوا لا في الرياضة ولا في أي شيء آخر. لقد كانت قوة الثقافة الوطنية (مخترقة) على كافة الجبهات. لقد كان العدو يطلع من بين صفوفنا فظهرت نغمة (الشكلانية) الفارغة، ودعت الكتاب للتخلي عن (الكلمة من أجل الإنسان) وصار الغموض لغة تفجيرية تؤدي إلى عزل الشكل عن المضمون، وعزل الكاتب عن المجتمع، وتؤدي إلى الغرق في متاهات تجريدية ولغزية تدمر الأدب من الداخل. ولذلك فقدنا كتاباً كثيرين بسبب هذه الطريقة، لأن مبادئ الوعي المضيء والوطني، واعتبار الكاتب قوة تغيير روحية في المجتمع، ضاعت، وتحول الكاتب إلى شخص مهووس بذاته، تشرخه أحلام جنون العظمة والتعملق الفارغ. ومشكلات الحياة الحادة المتفجرة، أدت هي الأخرى إلى بؤس الكتاب والمثقفين، ولهذا فإن الواقع الفكري تهشم وتقزم، والحياة الثقافية التي كانت تندفع مثل القطار في السابق أصبحت مثل سيارة مثقوبة الإطارات، ومع ذلك فإن سائقها ظل يحاول السير بها بين الرمال والحصى! كانت تلك ومضة واحدة من ومضات أفكرا ورؤى الراحل الجميل، وقد قدر لي ان اجمع بعضها في كتاب تحت الطبع بعنوان (مساءلات في الثقافة البحرينية) أرجو أن يرى النور قريبا ويتضمن إضاءات عن تجربة عبدالله الإبداعية والثقافية.

عبدالله خليفة مفكراً يسارياً أصيلاً ووطنياً نزيهاً
محمد نعمان جلال … سفير مصر الأسبق في الصين

لقد تابعت على مدى سنوات عديدة كتابات عبدالله خليفة من خلال عموده اليومي ومن خلال رواياته المنشورة، وكنت أحرص دائماً على أن أقرأها قبل قراءتي السياسية في الصحف. وربما التقينا بصورة عرضية في بعض المناسبات وإن لم يسعدني الحظ بالتحاور معه شخصياً، ولكن هذا لم يقلل من إعجابي وحرصي على قراءة كتاباته الفكرية بوجه خاص. ولاحظت أنه ككاتب وإنسان، يتسم بثلاث سمات مهمة وفريدة خاصة في عصرنا الرديء الذي نعيشه في الكتابة من اليمين واليسار والمتأسلمين على حد سواء. وهذه السمات الثلاث هي:
الأولى: إلمامه الكبير بالتاريخ والثقافة العربية والإسلامية، ولذلك كانت كتاباته عنها تتسم بالموضوعية والعقلانية مع استخدام المنهج اليساري في تفسير التاريخ، وهو أكثر المناهج موضوعية، ولم يتلوث عبد الله خليفة بالإيديولوجية الساذجة أو بالانتهازية، كما حدث لكثيرين، ولعل أهم ما يميزه في كتاباته الدقة العلمية وسعة الإطلاع والمعرفة الواسعة والأمانة في العرض واتباع منهج التحليل العلمي اليساري.
وهذا يذكرنا بالعصر اليساري الوطني الجميل في مصر والعالم العربي الذي ينطبق عليه القول المأثور «تموت الحرة ولا تأكل بثدييها». هذا العصر الذي حمل اسم اليسار الوطني النزيه والأصيل الذي شهد شخصيات أمثال أحمد عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي وجمال حمدان وغيرهم كثيرون في مصر والوطن العربي، أمثال البعثي المتميز منيف الرزاز الذي كانت لي حوارات معه أثناء عملي بسفارة مصر بالأردن أواخر الستينيات، وكنت أزوره في منزله.
الثانية: الإيمان بالوطن وهذا أيضاً من الصفات الجميلة لليسار الوطني، وليس اليسار الذي كان يدور في الفلك السوفياتي أو الصيني آنذاك، وكان إيمانه ضعيفاً بوطنه، أما يسار اليوم فهو يدور في الفلك الليبرالي الأميركي أو في فلك رجال الدين المغيب معظمهم عن جوهر الدين، ومن ثم فإنهم يتحاورون بالسياسة الوقتية الانتهازية، ويتنادون بحقوق الإنسان دون إيمان حقيقي ودون عمق وموضوعية، وإنما كتعبير يستهدف الحصول على الأموال من الخارج والسير في أجندتهم الأجنبية سواء في مصر أو في دول عربية عديدة. ولذلك أصبحوا من الأثرياء أو من قادة الإعلام والفكر الليبرالي في هذا العصر الرديء أو عصر المتأسلمين الساعين للسلطة.
لم يكن عبد الله خليفة من هؤلاء المسبحين باسم تيارات دينية أو سياسية تجعله غريباً في وطنه، بل عاش ومات ابن هذه البلاد، البار بوطنه وأهله، والمخلص لفكره، والمؤمن بالتحليل الاجتماعي للتاريخ. وقد أبدع في ذلك من خلال تحليله الفكري أو رواياته الاجتماعية التي تذكرنا بروايات نجيب محفوظ وتشارلز ديكنز وغيرهما. وكان خليفة بعيداً في الوقت نفسه عن النفاق السياسي للتقرب من السلطة، ولهذا فهو من الفصيلة النادرة للمفكرين والأدباء، وموته يعد خسارة كبرى لليسار الشريف والوطني النزيه.
الثالثة: إن عمق فكره الديني والوطني أعطاه شجاعة في الكتابة والتعبير عن الرأي، ويتجلى ذلك في رواياته عمر بن الخطاب شهيداً، وعثمان بن عفان شهيداً، وعلي بن أبي طالب شهيداً، وكتب عن محمد ثائراً. وهو الثائر الحقيقي لأنه لم يطلب منصباً ولا مالاً ولا جاهاً، ورفض العروض التي قُدمت له من قريش، كما لم يتاجر بوطنه أو يتخلى عنه بل أعلن صراحة عند هجرته من مكة قائلاً «والله إنك لأحب بلاد الله إلّي وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت».
هذا هو ما أسميه «الثائر الحقيقي». إنه ثائر بالعلم وثائر بالإيمان، وداعية للحق، مؤمناً بوطنه، وليس ثائراً بالسلاح الضعيف في مجاهل الأرض العربية، أو بالمال الأجنبي الحرام، أو سعياً لمنصب كما قال أحد المتأسلمين: «إما أن أحكم مصر أو أحرقها».
إن كتابات وفكر عبد الله خليفة البوفلاسة من أفضل الكتابات التحليلية السياسية الاجتماعية التي قرأتها وهي على غرار كتاب «اليمين واليسار في الإسلام» لأحمد عباس صالح، أو كتابات عبدالرحمن الشرقاوي «الحسين ثائراً، والحسين شهيداً»، وكتابات ودراسات محمد عمارة عن اليسار في الإسلام في المرحلة الأولى من حياته. ولقد نشر عبدالله خليفة روايات عن الحسين وغيره من أعلام الإسلام، وعن مصر وعبد الناصر وغيره من الأعلام. وقد تنوعت كتاباته ما بين التحليل الاجتماعي للتاريخ الإسلامي والعربي والتاريخ الاجتماعي في البحرين.
وعلى رغم أنه كان ينشر مقالاته في الصحف، فإنها اتسمت بالعمق والوضوح كما اتسم أسلوبه بالسلاسة والبعد عن التقعر في الألفاظ والمصطلحات التي يستخدمها بعض المتحذلقين الإيديولوجيين. كما شملت الرواية، وكنت استمتع بما أقرأ من هذه الكتابات، كانت شجاعته دائماً في قول الحق، وقول ما يؤمن به.

لم يرحل.. عاد إلى غمده
عبدالحميد القائد

كان يقف بعيدا وبالكاد يقترب منا.. ذاك الشاب النحيل صاحب “النظارات” ؟! الذي لا يبتسم ولا يشاركنا الضحك والدعابات الصاخبة التي تعودنا عليها في زمن الصفاء الذي مضى في نهاية الستينيات. كان ينظر الينا من خلف “نظارته” نظرات كلها أمل مثل غيمة دافئة ممطرة بعيدة. وكان واضحا انه انسان خجول أو يحتاج إلى وقت كي يندمج ويتفاعل مع اعضاء نادي الولعة ؟!(علما بأن عبدالله أحد الذين بنو النادي اسميت وقيلة!) الذي كان يقع في منطقة «ارض مصطفى» في القضيبية كما كان يطلق عليها البعض. اثارني منظره وصمته وانعزاله وقلت في نفسي هذا الشاب لديه الكثير. فاقتربت منه وبدأنا نتعرف ونتحدث..(ولم يكتشف ان عبدالله احد القادة الاربعة لجبهة التحرير الوطني حين ذاك!) اجتذبتني شخصيته الهادئة الملفوفة برداء الخجل وفوجئت انه قارئ نهم وله محاولات في كتابة القصة القصيرة، وبعد ان توطدت علاقتنا اطلعني بعد الحاح على تجاربه القصصية التي وجدتها قصصا تتبع الاتجاه الواقعي الملتزم. شجعته على الانضمام إلى اسرة الادباء والكتّاب كي يتمكن من صقل تجربته لكنه كان مترددا وكان يرى ان الوقت لم يحن بعد للانضمام وانه يعتقد ان تجربته في الكتابة مازالت في بدايتها ولم تنضج بعد. كان يعمل مدرسا ويقيم في بيوت العمال بالقضيبية «اللينات»
التي تم بناؤها بعد رحيل بيوت السعف التي (احترقت أو قضوا عليها!) مما يعني ان طفولته كانت في بيت فقير وعاش مع اهله ضنك العيش مما ولّد لديه حسا قويا بالصراع الطبقي الذي انعكس في العديد من رواياته فيما بعد وفي حياته النضالية الطويلة وتضحياته النابعة من عشقه لوطنه وإيمانه بالعدالة الاجتماعية. عندما انضم إلى اسرة الادباء كان عضوا نشطا وشكل تيارا قويا ذا افكار تقدمية. في عام 1975 سافرنا معا إلى الجزائر لحضور مؤتمر اتحاد الادباء العرب مع الشاعرين الصديقين علي عبدالله خليفة وإبراهيم بوهندي. عرفت عبدالله خليفة انسانا صادقا واضحا ونقيا كفيروزات البحر..جريئا في طرح آرائه إلى حد القسوة.. قد تتفق معه أو تختلف لكنه يجبرك على احترامه بسبب ما يتمتع به من شفافية وصدق ووطنية عالية تجسدت عبر تاريخه النضالي الطويل المضيء. لم يتقن التمثيل والمداهنة والنفاق والزيف السائد وهي ظواهر بدأت تهيمن على حياتنا السياسية والثقافية منذ سنوات قليلة مع الأسف. ربما هذه الأجواء غير الصحية هي التي دفعته إلى الانعزال أكثر فأكثر والانكباب على الكتابة والفكر والابداع ليترك لنا إرثا ثقافيا غنيا نحسده عليه. لم يكن عبدالله روائيا على المستوى المحلي فحسب بل انه تجاوز الحدود الجغرافية ليقف في مصاف كبار الروائيين العرب وترجمت بعض رواياته إلى لغات عالمية. فمنذ صدور مجموعته القصصية الاولى »لحن الشتاء« عام 1975 لم يتوقف عن الابداع كان شعلة وطاقة فكرية وإبداعية لا تهدأ ولا تنضب..كتب الكثير من المقالات الفكرية التي اثارت الكثير من الجدل. كثيرون لم يفهموا هذا الكاتب الفذ فهاجموه وانتقدوه بشدة لأنه لم يكن يداهن أو يجامل في التعبير عن رأيه…فظلمه (البعض) كعادتهم عندما يكرهون من لا يتفق معهم وكأنهم يحملون الحقيقة الكاملة ومن يختلف معهم يعتبرونه عدوا وخائنا وسلطويا!!! عبدالله لم يكن يحب القوالب ولم يكن يحب أن يكون مطية في يد أحد، حزبا أو سلطة، مما أثار الزوابع حوله.. بل كان يدعو إلى التجديد في الفكر وأن كل شيء يخضع للأسئلة والمساءلة لأنه كان ضد الجمود الفكري.
عندما اصيب بمرض السرطان الذي أودى بحياته، انعزل لكن ليكتب ويترك لنا ثروة فكرية وثقافية قبل أن يرحل.. لم يكن يريد شفقة من أحد لذلك لم يكن يشجع أحدا على زيارته وحتى أنه لم يكن يرد على المكالمات إلا لماماً. إنه الكبرياء وعزة النفس والعناد الرجولي…. لم يرحل بل عاد هذا الفارس إلى غمده الخالد.

رحل الأديب المناضل والقلم في يده
محمد كمال

رحل الأديب والمفكر التقدمي عبدالله خليفة والقلم في يده. قلمٌ كالأصبع في كفه، وهكذا فقد كان لصيقاً حبيباً لقلمه مثلما كان قيسٌ لصيقاً لِلَيْلاه، ولا ندري ما سيكون عليه مصير هذا القلم بعد غياب رفيقه وحَبِيب خطوطه ورسوم أفكاره، كان عبدالله والقلم رفيقان متلازمان، يتحاوران ويتجادلان وحدهما على أسطح بيضاء بياض الجليد، وكانت الأفكار تهيم حولهما، وهي إرهاصات تتسامى من خمائل الفكر والنفس، وانامل حبيب تعانق قَدَّ القلم، وتتولد من عناقهما الإبداعات الفكرية والأدبية، روايات تحكي قصص الماضي وتعكس آمال شعب تواق الى التقدم والرقي والرفاه، وبحوث في النظريات العقائدية والتاريخ ومقالات يومية على مدار الايام والسنين تنير الطريق للقارئ على دروب شئونه اليومية السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية، لقد ترك لنا كريمُ الفكرِ ثروة من كنوز الثقافة، وما كان لينضب معين العطاء عنده لولا الموعد الخالد الذي غَيَّبَهُ عن الحضور بيننا، فكانت غيبة كبرى، غيبة صارت نبتة حية في منازل الذاكرة والذكرى. إنسانيته بشموخ عزتها وإباء كرامتها وتواضع جوهرها كانت النبع الذي أبدع وأغدق على الثقافة ألوانها الأدبيّة والفكرية، فكان عطاؤه الفكري إنساني الطابع تقدمّي الآفاق، وكانت هذه الانسانية كريمة الطبع ألزمت نفسها بالعطاء دون الأخذ، حتى وإن ألَمَّتْ به حاجة الى عون ومعين كانت تأبى نفسه العزيزة أن تُقِرَّ بحاجته ويرد بالذريعة على من يمد يد العون إليه، كانت إنسانيته من طينة نادرة. رحل، رحمه الله، قبل الأوان، فقد كنّا بمعيّة الأخوة في «لجنة تكريم الأدباء» على موعد معه، بعد أسابيع قادمة، لنتشرف بإحقاق الحق لمكانته الأدبية بتنظيم حفل تكريم عرفاناً لدوره الثقافي وعطائه الأدبي والفكري والذي أصبح مَعْلَماً من معالم البحرين الثقافية، وقد إمتد إشعاع هذا المعلم الثقافي الى فضاء الخليج وبقية العالم العربي، ويكفي أن تكتب إسمه علي مواقع التواصل الالكترونية لتعلم من هو الأديب عبدالله خليفة وما هو إنتاجه الفكري وموقعه على الساحة الثقافية العربية من المحيط الى الخليج. فهو السفير الثقافي للبحرين، ومازال، في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه. كان رحمه الله يفكر وينتج ويعطي بصمت، حتى واجب التكريم لعطائه كان يأْنَفُ عنه، كان جل همه واهتمامه هو نشر أعماله والتفرغ للكتابة. في إحدى اجتماعات «لجنة تكريم الادباء» كلفني الأخوة الأعضاء بالاتصال به والاستفسار منه عن معلومة تخص مهمة التكريم، فكان عجولاً في رده وقال لي بكل لطف: «أخي محمد أنا الآن مشغول بالكتابة، وعندي الكثير الكثير لأكتب، فرجاءً إفعلوا ما ترونه صائباً، وتحياتي للجميع». كان أصبع القلم في إمتداد كفه لا يجيز له إلّا الكتابة. كان يسابق الزمن في إيصال رسالته الوطنية الى عموم الناس. وكرّس كل وقته لصياغة هذه الرسالة والاستعجال بإيصالها الى الشعب، وهكذا رسائل لا تعرف محطة الاستقرار ولكنها دائمة المسير. قبل أشهر تقارب العام تفاكر ثُلَّةٌ من المثقفين والمهتمين بشؤون الثقافة في ضرورة تكريم الأديب عبدالله خليفة، فتشكلت لجنة تحت مسمى «لجنة تكريم الادباء»، فرآى الأخوة المبادرون أهمية تثبيت اللجنة في بنية الكيان الثقافي البحريني لتواصل مهمة تكريم الادباء، عاماً بعد عام، فكان البدء بتكريم الأديب عبدالله خليفة هو نقطة الانطلاقة لتشكيل هذه اللجنة. ومع رحيله المبكر عن موعدنا معه، فإن حفل التكريم سينظم ويفعل وهو في عالم الخلود غائب عنا بجسمه حاضر برمزيته الثقافية.

عبدالله خليفة يترجل شامخا
عبدالله الأيوبي

بكل المقاييس، فإن رحيل الزميل الأديب الكاتب عبدالله خليفة خسارة كبيرة، ليس لقراء «أخبار الخليج» فحسب الذين اعتادوا على قراءة عموده اليومي «أفق» الذي يعتبر بحق منارة فكرية تنويرية، وليس خسارة لليسار البحريني والتيار العلماني الذي فقد برحيله علما من أعلام النضال الوطني الملتزم والمؤمن بالعدالة الاجتماعية التي تشبعها من مبادئ المدرسة الفكرية التي آمن والتزم بها، وإنما هي خسارة للبحرين كلها إذ لم يكن عبدالله خليفة كاتبا صحفيا ولا مفكرا ماركسيا أو أبا للقصة البحرينية فحسب، وإنما كان صوتا بحرينيا جسد طوال نضاله وعمله الإبداعي روح التسامح والألفة والتآخي التي جبل عليها أبناء البحرين وتربى في كنفها الراحل والتي ميزت أعماله الأدبية والفكرية طوال سنوات الإبداع التي عاشها.
برحيل عبدالله خليفة، فقدت العقلانية البحرينية صوتا هي في أمس الحاجة إليه في هذه الظروف، حيث تتصاعد أصوات التطرف والانتهازية والوصولية التي كبدت المجتمع البحريني والنسيج الوطني خسائر كبيرة سيكون تعويضها مقابل أثمان باهظة جدا، ومن تابع كتابات عبدالله خليفة المتعلقة بهذه الخصوصية المجتمعية سوف يكتشف كم كان الراحل مناهضا عنيدا لأي شكل من أشكال التطرف وفي نفس الوقت وقف عنيدا في وجه القدسية الفكرية لتيار الإسلام السياسي الذي لعب دورا سلبيا في الساحة البحرينية من خلال ما أحدثه من استقطاب طائفي مقيت أحدث شرخا عميقا في الجسد الوطني.
لقد بقي عبدالله خليفة طوال سنوات الإبداع التي عاشها وخاصة في الظروف الصعبة التي مرت بها البحرين، واحدا من أصوات الاعتدال التي تنظر إلى القضايا والأمور بمنظار وطني ثاقب وحاد بعيدا عن التعصب العرقي أو الديني أو الحزبي، لكنه في كل هذه المواقف كان منحازا دائما إلى الوطن كشعب وأرض، فلم يغادر الموقع التي اختاره، فكريا وسياسيا، رغم كل الملاحظات والمواقف التي سجلها وتمسك بها ودافع عنها في مواجهة من اختلف معه في رؤيته وفي تشخيصه لأي من القضايا الوطنية، وتحديدا في الظروف الصعبة التي تحركت خلالها الرمال من تحت الأقدام، فانتقل البعض من موقع إلى آخر فيما تاه آخرون.
فالظروف التي تمر بها بلادنا في الوقت الحاضر مع اشتداد الاستقطاب الطائفي والسياسي غير المتزن وغير المتحضر، بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أصوات الاعتدال ذات النزعة الوطنية المخلصة لقضايا الجماهير، حيث كان عبدالله خليفة واحدا من هذه الأصوات، فالاعتدال بالنسبة له ليس تخليا عن القضايا الوطنية ولا عن مصالح الأغلبية الساحقة من أبناء شعبه، فهذه المواقف بالنسبة إلى الراحل ليست محل مساومة ولم تغب يوما عن إبداعاته الفكرية والأدبية وكتاباته السياسية.
من الصفات التي ميزت الأديب والمفكر عبدالله خليفة عن غيره، صراحته شبه المطلقة في التعبير عما يؤمن به من مبادئ وأفكار، الأمر الذي مكنه من أن يجعل من الأداة الفكرية التي آمن بها وتربى في كنفها مشرطا لتشريح الواقع السياسي والاجتماعي والفكري الذي تعيشه الساحة البحرينية والتطورات التي طرأت على هذه الساحة خلال العقود الأربعة الماضية التي شهدت بروزا وصعودا كبيرين لتيار الإسلام السياسي الذي اعتبره عبدالله خليفة معيقا للتطور الطبيعي للمجتمع نظرا إلى تمسكه بالماضي وعدم قدرته على قراءة الحاضر ناهيك عن عدم إيمانه بالمستقبل.
من الصعب جدا إيفاء هذا العلم البحريني المميز أدبيا وفكريا، التقييم الذي يستحقه عبر هذه المساحة الصغيرة، فما خلفه عبدالله خليفة من إنتاج أدبي وفكري بحاجة إلى مساحات واسعة وأوقات طويلة للتوقف بعناية وأمانة أمام ما خلفه من إنتاج غزير، وهذه أكبر من أن تكون مسئولية رفاقه السياسيين والفكريين، وإنما هي مسئولية الجهات الرسمية المسئولة عن حفظ وصون الكنوز الوطنية البحرينية بكل أشكالها، وما تركه عبدالله خليفة من إنتاج إنما هو قيمة وطنية لا تخص عائلة الفقيد بقدر ما هي تخص الوطن الذي سكن قلبه على مدى السنوات التي مارس فيها إبداعه الفكري والسياسي.
مثل هذه الأعلام الوطنية وبغض النظر عن مواقفها السياسية والفكرية والعقدية يجب أن تأخذ موقعها في السجل الوطني للبحرين، فهذا حق لا يجب نكرانه أو التملص من القبول به، فهذه الأعلام بقيت أمينة لانتمائها الوطني واعتبرت قضايا الإنسان البحريني جزءا من حياتها اليومية، فهي لم تبدع ولم ترهق عقولها تفكيرا وتشخيصا لهذه القضية أو تلك، لمجرد أنها تريد ذلك أو لتسلية الذات، وإنما كون قضايا الإنسان هي جزء جوهري من حياتها، ما كانت لتحيد عنها تحت أي ظرف من الظروف، لهذا لم تنزل هذه الأعلام، ومنها عبدالله خليفة، إلى وحل المغريات المادية والحياتية لأن ذلك باختصار يتناقض كليا مع ما يسكن جوف تفكيرها وعقلها من مبادئ وإيمان راسخ بها.

عبدالله خليفة.. تحطيم الصورة وتكوينها
حسين التتان

رحل عبدالله خليفة، هجر شخوصه وأمكنته وارتأى أن يكون خلف النص، أن يحتجب ليقرأ مسروداً ومحكياً بعد أن كان حاكياً وراوياً، وطوال تجربته الممتدة به في حقبها وتحولاتها ظل عبدالله خليفة وفياً لعالمه الروائي، ووفياً أيضاً لمبانيه المادية العتيدة. وكان بحق راوي الريف -إن جاز لنا التعبير- ولم يشأ أن يفارق عالم الكادحين والبسطاء. ومع معماره الروائي الشاهق الذي شيده روائياً فضلاً عن إنتاجه الفكري والبحثي.
مطلوب اليوم أكثر من أي يوم آخر أن يحتفي بهذا الأديب احتفاء يليق به ويليق بإبداعه، ولا أقل من تخصيص جائزة وطنية كبرى تكون باسمه تحت عنوان (جائزة عبدالله خليفة للإبداع الروائي) واستلهام أعماله مسرحياً ودرامياً، ولا سيما في أعماله الروائية التاريخية، التي بمعالجة درامية يسيرة وشيء من التعديل يمكن تحويلها إلى دراما تاريخية متكاملة تعكس جانباً من تاريخنا وتراثنا الإسلامي». هذا تماماً ما قاله صديقي الكاتب صاحب القلم الرشيق الأستاذ زكريا رضي في حق الكاتب والروائي البحريني الراحل عبدالله خليفة، فأجاد فيما وصف.
عبد الله خليفة، هذا الرجل الوطني الذي أنتج من الإبداعات ما يمكن أن يفوق إنتاج الكثير من المبدعين العرب، فاستطاع أن يضع اسم البحرين على طريق الخارطة الثقافية والأدبية في الوطن العربي، وكان مثالاً حياً للشخصية الوطنية التي استطاعت أن تكون رمزاً من رموز العطاء والإثراء الثقافي والأدبي والاجتماعي والسياسي في البحرين.
إن مسيرة الراحل الحافلة من الإبداع والتنوير، والتي شهدت على قوة ومكانة الكبير عبدالله خليفة، لم تدع مجالاً لأي منصف ومحب لأديبنا أن يقول ما يمكن أن يقال في حقه، فإبداعاته اختصرت كل الكلام، ورؤاه ونظرياته في التاريخ والأدب كانت نتاج وعيه بطبيعة الحراك السياسي والأدبي والاجتماعي الذي مر به الوطن العربي، وذلك منذ فجر الحركات التحررية وحتى بعد أن تشكلت الكيانات والدول العربية.
ناضل الراحل عبدالله خليفة من أجل الإنسان ومن أجل رسم صورة نقدية للوقائع التاريخية بإسقاطات مليئة بالجرأة وكسر المسكوت عنه من المقدسات على هذا العصر المنكوب أصلاً، فكان يفك طلاسم الأحداث ليربطها عبر واقع هذه الأمة، في عملية جراحية لتحسين مستوى الوعي واستئصال كل أمراض الاجتماع، من خلال معالجة دقيقة وفاحصة للمنتج التاريخي، فكانت الرواية مدخلاً جميلاً لتشكيل أجمل لبنات الوعي الإنساني، أما الكتابة فكانت مصدراً للإلهام وأداة مهمة لصياغة واقع المجتمع في زمن أقعدته أمراضه المزمنة؛ كالجهل والتخلف.
حين نتحدث عن قامة وطنية كبيرة كقامة الراحل عبدالله خليفة فإننا نتحدث عن تاريخ من العطاءات والتميزات والإبداعات وتهشيم زوايا المألوف، فكان حاداً في تحطيم «التابو» على الرغم من رقته، وكان رقيقاً في طرحه على الرغم من صلابته، ولهذا فإن رحيل رجل كخليفة يمكن أن يحدث فجوة كبيرة في جدار الحركات الوطنية ومسيرة المنتجات الأدبية والثقافية في البحرين، بل وفي كافة أرجاء العالم العربي.
عبدالله خليفة، حاله حال كل المبدعين العرب الذين لم تنتبه لهم المؤسسات الرسمية في طول الوطن العربي وعرضه من أجل أن تحتفي بهم في حياتهم، فكرمتهم بعد رحيلهم بضغط من رفقائهم في دروب النضال والإبداع والأدب. رحل خليفة بصمت الكبار والمبدعين، فخسر الوطن رجلاً ربما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى.
نم قرير العين أيها الراحل العزيز، فإنك أديت ما عليك على أكمل وجه، وتركت بقية المهمة للأجيال المتعاقبة لإكمال مشوار يزخر بجنون حب الإنسان.

عبدالله خليفة.. سيبقى في «الأفق»
محمد مبارك جمعة

لم يكن الكاتب والمفكر البحريني عبدالله خليفة مجرد كاتب مقالات يومية أو محرراً لصفحات أسبوعية، بل كان روائياًّ من الدرجة الأولى، وأديباً لامعاً، وقلباً نابضاً بالثقافة والأدب والقصة والرواية والمسرح. هو أحد أركان مدرسة «أخبار الخليج»، متميز الأسلوب وعميق الطرح، سواء في السياسة أو في الاجتماع أو في الأدب.
خبر وفاته ورحيله عن هذه الدنيا، وعن «أخبار الخليج»، ترك في أنفسنا صدمة قاسية. حينما كان عبدالله خليفة يكتب، فإن باقي الأقلام تتوقف برهة وتستمع منصتة إلى ما يقوله. جمهور عبدالله خليفة من المتابعين والقارئين يدرك تماماً أن الرجل كان يمسك بالقلم كمسكة الطبيب المتمكن للمشرط الجراحي، فيرسم بكل دقة وعمق في الطرح والتحليل معاني الأحداث المختلفة. كان يسرد التاريخ بأسلوب ممتع، ويحلل الراهن والمستقبل بكل مقدرة، ومازلت أذكر أنه مع بدايات الثورة السورية، كنت أتحرى ما سيقوله عن مستقبل هذه الثورة في عموده اليومي «أفق»، وإذا بالرجل يتحدث قبل أكثر من ثلاث سنوات وكأنه يقرأ اليوم وما يجري اللحظة من أحداث.
لم يكن طرح عبدالله خليفة عادياًّ، بل كان الفيلسوف والمفكر القادر على تناول الأحداث والتطورات بنظرة فاحصة ممتزجة بدروس التاريخ. ولم يكن انتقاؤه واختياره للكلمات والمفردات تقليدياًّ، بل كان يغوص في أحشاء وأعماق اللغة لينهل منها أعذب وأصدق العبارات.
إنها خسارة لصحيفتنا العربية القومية «أخبار الخليج»، أن يغرب عنها قلم وفكر وعطاء كذاك الذي قدمه عبدالله خليفة.
نم في سلام أيها الأديب القدير، فلن ننساك، ولن تنساك «أخبار الخليج»، وسوف تبقى في «الأفق» بما قدمته من إرث فكري غني ورائع.

عبدالله خليفة المثقف الوطني الملتزم
السيد زهره

خسارتنا في أخبار الخليج، وخسارة الحياة الفكرية والثقافية في البحرين، برحيل الكاتب والأديب الكبير عبدالله خليفة، خسارة فادحة.
الخسارة فادحة لأن عبدالله خليفة كان مثقفا ليس مثله كثيرون.
كان طوال حياته، وطوال سنوات عطائه، وفي كل ما كتب، نموذجا للمثقف الوطني الملتزم، فكرا وممارسة بقضايا الوطن، وبالهموم الانسانية العامة.
لم يكن في يوم من الأيام من مثقفي الأبراج العاجية المنغلقين على انفسهم بعيدا عن الواقع وهمومه وقضاياه، والذين ينشغلون بأمور لا علاقة لها بالواقع.
أعماله الروائية لم تكن منفصلة عن الواقع، بل كانت لصيقة به، شخوصا وأحداثا، وتدفع باتجاه تطويره وتغييره.
ونفس الأمر ينطبق على كل كتاباته الصحفية واسهاماته الفكرية.
كان عبدالله خليفة من المؤمنين بقدرة الأفكار والمواقف الفكرية على تغيير الواقع، نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. كان من المؤمنين بأن الأفكار قد تدفع الدول والمجتمعات إلى الأمام، وقد تكرس تخلفها.
والمتابع للأفكار والرؤى التي تبناها عبدالله خليفة ودافع عنها بقوة في كل أعماله وكتاباته سوف يجد انها تدور حول فكرتين جوهريتين، التقدم والتنوير. التقدم بمعناه التقدمي الانساني العام الذي جوهره العدل وإنصاف البسطاء. والتنوير بمعنى التجديد الفكري وتحدي الأفكار الجامدة الثابتة التي لا يمكن ان تصنع تقدما أو تعين عليه.
ولهذا، نجد انه في كل كتاباته تقريبا كان مهموما بالمراجعة النقدية للأفكار، سواء في ذلك الأفكار القديمة الراسخة، أو الحديثة الشائعة، وبتقديم رؤى وأفكار جديدة.
كان يفعل هذا، وفي ذهنه دوما وفي صلب قناعاته، إننا بحاجة إلى عصر جديد من التنوير الفكري والسياسي، القائم على ترسيخ الأفكار والرؤى التقدمية المتفتحة التي تمهد الطريق امام ما ننشده من تقدم وعدل واجتماعي ونهضة لدولنا ومجتمعاتنا.
ومثقف هذا شأنه، كان من الطبيعي ان تكون له مواقفه الوطنية الواضحة مما تشهده البلاد من تطورات وأحداث. في السنوات القليلة الماضية، وفي ظل الأوضاع الصعبة التي شهدتها البحرين، لم يتردد في رفض الطائفية، وفي نقد القوى الطائفية في الفكر وفي الممارسة. ولم يتردد في نفس الوقت في توجيه الانتقادات إلى ما اعتبره انحرافا في رؤية وممارسة بعض القوى التقدمية التي انتمى هو شخصيا اليها. كما لم يتردد في التنبيه إلى سلبيات وأوجه قصور عامة في الحياة السياسية وفي المجتمع والدعوة إلى إصلاحها.
هذا على مستوى الإسهام الفكري والأدبي.
أما على المستوى الإنساني، فقد كان عبدالله خليفة نموذجا إنسانيا فريدا.
كل من عرفه عن قرب، يعرف ما كان يتحلى به من تواضع جم، ومن بساطة وطيبة.
وقدم عبدالله خليفة نموذجا إنسانيا فريدا للدأب والإصرار والعمل الجاد المنتج المتواصل.
حياته كلها تقريبا كرسها في العمل والإنتاج. وكانت المحصلة هذا الإرث الكبير الذي خلفه من الأعمال الروائية والفكرية والكتابات النقدية.
لكل هذا الذي ذكرت، فإن خسارتنا فادحة حقا برحيل الكاتب الكبير عبدالله خليفة.
لكن العزاء ان الأفكار لا تموت، والرؤى الوطنية لا تموت، والإبداع لا يموت.
وما خلفه عبدالله خليفة من إرث أدبي وفكري، سوف يبقى دوما رصيدا تعتز به البحرين وتفتخر. وسوف يظل من دون شك مصدر الهام لأجيال جديدة في مجالات الأدب والفكر والكتابة.
ومسئولية الدولة والجهات المعنية هي ان تحفظ هذا الإرث، وان تعيد نشر إسهامات عبدالله خليفة، وان تنشر الكثير الذي خلفه ولم ينشر بعد.
رحم الله الكاتب الكبير وادخله فسيح جناته جزاء ما قدمه للوطن من حب وإخلاص وفكر وعمل وجهد.

عبدالله خليفة.. محققاً صحفياً
لطفي نصر

الزميل الأستاذ عبدالله خليفة يعدّ من الرواد الأوائل في تشكيل أسرة تحرير «أخبار الخليج» بعد بدء مسيرتها بسنوات قلائل.. والأمر الذي يؤكد انه كان على درجة عالية من الفطنة والذكاء.. انه قد جاء الى «أخبار الخليج» أديبا.. ولكنه فطن الى أن دخوله الى أسرة تحرير الجريدة من باب الأدب سيكون صعبا عليه.. أو قد يعرقل خطواته وطموحاته وأهدافه.. فقد كانت الجريدة في بداياتها تصدر في ثماني صفحات فقط.. وأبوابها وتقسيم صفحاتها تكون منحسرة.. وقد كان يتولى مهمة التحرير الأدبي على صفحات «أخبار الخليج» أدباء متمرسون…
فماذا فعل الأديب والروائي الراحل عبدالله خليفة؟
قرر على الفور.. ومن دون أدنى تفكير أن يدخل الى أسرة تحرير «أخبار الخليج» من باب «قسم التحقيقات الصحفية» حتى لا ينافس أحدا.. وحتى لا ينافسه أحد.
ومن حسن حظي أنا شخصيا أنني كنت أتولى الإشراف على قسم التحقيقات الصحفية.. وقد فوجئت بالمرحوم محمد العزب موسى مدير تحرير «أخبار الخليج» يأتي الى مكتبي بصالة التحرير في (بناية المردي) ليقدم لي شابا قائلا: «هذا الزميل الجديد الأستاذ عبدالله خليفة لديه الرغبة للعمل معكم في قسم التحقيقات الصحفية».. وبعد أن رحبت به تركنا الأستاذ محمد العزب ليجري بيننا حديث استغرق حوالي نصف ساعة.. استمعت خلالها الى رؤاه وأفكاره.. شعرت حينها أنني أمام شخصية طيبة.. خلوقة.. وعميقة وأنه يميل الى أن يكون أديبا أكثر منه صحفيا.. وشعرت أيضا أنني أمام شخص يلمّ إلماما شاملا بقضايا وظواهر ومشاكل البحرين.. وانني شخصيا سوف أستفيد منه أكثر مما يفيد هو قسم التحقيقات الصحفية.. وحيث أنني كنت لا أزال جديدا على البحرين.. وأحتاج الى وقت لسبر أغوارها.
قدم إليّ الزميل الراحل مجموعة من أفكاره للتحقيقات الصحفية.. ورحبت بها جميعا.. ووافقت على أن يبدأ العمل عليها.. فرادى.. وليس جملة واحدة.. وبدأ العمل فعلا.. فكان من المحررين الغزيري الانتاج الذي لا يضيع وقتا.
تأكد لي بعد ذلك.. بشكل تدريجي.. أننا أمام مكسب جديد لأسرة التحرير.. وصحفي تحقيقات غير عادي.. ينفرد بإجادة نوع من التحقيقات الصحفية درسته في قسم الصحافة بالجامعة.. ونطلق عليه: «التحقيق المقالي», وأن من يجيدون فن (التحقيق المقالي) في الصحافة العربية هم قلة قليلة.. ذلك لأن هذا النوع من التحقيقات يحتاج الى: أديب.. ومثقف.. وصحفي.. وكاتب.. ومُـلمّ إلماماً شاملا بكل ما يدور من حوله.. وصاحب أسلوب لا تنقصه الرشاقة والروعة… الخ.
وخلال فترة عملناها معا.. أتحفنا الزميل الراحل بمجموعة هائلة من التحقيقات الصحفية أو المقالية.. التي كان كل تحقيق فيها يملأ مساحة صفحة كاملة مع الصور.
وكان الجميع يقبلون على تحقيقاته الصحفية من فرط حلاوة وروعة العرض والأسلوب.. وكان الزملاء يقبلون على قراءتها في مرحلة (البروفات) قبل أن تصل الى أيدي القراء الذين كانوا يطالبون بالمزيد منها.. ويشتكون اذا تأخرت.
كان عبدالله خليفة يعرض تحقيقاته في صورة (كتلة أدبية) كاملة, فيها من المعلومات والتفاصيل والخلفيات الكثير عن المشكلة أو الظاهرة التي يتناولها, وفيها الحلول لهذه المشكلة.. وفيها من الخيال.. وروعة الأسلوب والحبكة الأدبية والصحفية.. وكل ذلك من دون الاخلال بعناصر التحقيق الصحفي.. وكان أحيانا ينوب عن أصحاب المشكلة في تحرير شكاواهم ورؤاهم وأوضاعهم ومطالبهم من فرط إلمامه الكبير بجذور المشاكل التي يحقق فيها ومعرفته الفائقة بأبعادها بوصفه مثقفا بحرينيا ومعدودا على الساحة.
وفي مرة قلت للزميل الأستاذ عبدالله خليفة: هذا النوع من التحقيقات الصحفية (المؤدبة) الذي تجيده وتتفوق فيه على غيرك.. أنا أيضا أحبه.. وأجيده وتفوقت فيه في الجامعة.. وتمنيت لو تمكنت من ممارسته في حياتي العملية عندما بدأت العمل في الصحافة, ولكنه (رتم) العمل الصحفي.. وعنصر السرعة الذي يقتضي تقديم أكثر من تحقيق في الأسبوع الواحد.. كل ذلك جعلني أنهج الأسلوب التقليدي في اجراء التحقيقات الصحفية.. ثم أهجر التحقيقات كلها بعد ذلك لأتخصص صحفيا اخباريا!
والفرق بين الاستاذ عبدالله خليفة كمحقق صحفي في بداية حياته الصحفية.. وبيني عندما كنت طالبا أدرس الصحافة.. هو أننا معا كنا ننحو نحو ما يسمى (التحقيق المقالي) ولكنه كان يتفوّق بالنزول الميداني الى أرض المشكلة أو الظاهرة.. وان كان النزول أقل لكون ما لديه من كمّ هائل من المعلومات وعلم وثقافة أكثر.. كل ذلك جعل تحقيقاته تتميز بروعة العرض وحلاوة الاسلوب والامساك بزمام المشكلة.. والقدرة على طرح الحلول, وهذا من خلال قلم أديب وكاتب صحفي موهوب.
رحمه الله رحمة واسعة.. وأفسح له من جناته بقدر ما تركه من ثروة أدبية وثقافية هائلة.. ستظل زادا للأجيال عبر الأجيال.

أضف تعليق