عبدالله خليفة

مستويات السرد .. الدلالة والسياق

محمد زيدان: مستويات السرد .. الدلالة والسياق

المنظور السردي

   المنظور السردي صورة مصغرة من العالم الروائي الذي يمثل لما يمكن أن يوجده الراوي من مفردات، سواء اتصلت بذاته، أم ببقية عناصر الأدوات الفنية، ولذلك يمكن اعتبار المنظور مصوغاً كلياً بديلاً عن المكونات البلاغية قصيرة المدى داخل النص، لأنها إن وجدت فهي تتصل ببلاغة الجملة أو الكلمة او بالمدى القصير الذي يوجده المجاز في صورة مصاحبات دلالية تعمل في نطاق ما تصل بعناصر المنظور من مفردات، ويكمن أن نقارن صورة المنظور السردي باعتباره مكوناً للنص الروائي بصورة منظور آخر يصاحبه، وهو المنظور الحكائي، والذي يمثل صورة موازية داخل المنظور السردي، ويمثل بدوره مفردات تتصل بعناصر الحكاية، بداية من الذوات والمكان والزمان والفضاءات المكونة للنص، وقد تتقاطع السردية والحكائية في بعض مفرداتهما، مثل ما يمكن أن يقدمه الراوي إذا كان يعتمد على زمن مغاير لزمن الحكاية، أو كان مجرد ظل لحكاية، وأيضاً إذا استوت أزمنه مختلفة داخل الرواية، مثل ما يمكن أن يمثله زمن القص كإطار حكائي، وزمن الحكاية كمتن حكائي.

   إن المنظور السردي لا يقف عند الحدود الشكلية للمعنى، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الدلالات والذوات بل وكل عناصر البناء، ويعتمد على أطر معنونة تتصل منظورات مصاحبه سواء كانت متوازية أم متقابلة على مستوى رقعة النص، فنرى عدة صور للمنظور على النحو التالي:

ــ المنظور السردي الخارجي

   وهو الإطار الأكبر الذي يضم عناصر غير حكائية مثل الوصف، والمجاز وعلاقات الراوي، واتجاهاته، وكيفية إدارته لحركة الطرح القيمي داخل النص الروائي، ويمكن أن نحدد عدة منظورات مصاحبة للمنظور الخارجي.

ــ المنظور السردي الداخلي

   ويظهر هذا المنظور فيما يقدمه الراوي داخل الذوات من عوالم مصاحبة يمكن أن تتمثل الصورة المقابلة للصراع داخل النص، أو تمثل تأويلاً فكرياً يحدد عالم القيم داخل الفكرة الاجتماعية أو الفكرة السياسية، وهو أيضاً يتقاطع مع المنظور الخارجي ويكمله، ويمثل أحياناً أجزاء منه فيما يخص العلاقات الذي تصنع الغطاء الحكائي للحدث، أو مجموعة الأفعال التي يبني على أساسها النص.

   إن المنظور السردي يمكن أن يقدم العلاقات الظاهرة والمسكوت عنها داخل النص من خلال كل ذات وطبيعة حركتها، ومن خلال المكان وما يمثله داخل كل شخصية، وأيضاً يعطي أثراً دلالياً متشابهاً للأثر الدلالي الذي يرتبط بصورة الحدث والفعل داخل الرواية، بل إن ما تقدمه العناصر الكلاسيكية في الحكاية مثل الزمن، والراوي، أو الأفعال، يعتبر عاملاً مهماً في بناء المنظور الظاهر، وبل يتحمل ما يمكن أن نقدمه من تأويلات فيما أسميه بالمنظور الضمني، وهنا تتضح عملية السرد، بداية من السارد والمسرود لهن والعملية السردية بكامل مستوياتها بما تتضمنه من عناصر وأفكار تتصل بكل أداة من أدوات السرد. ولذلك يسمح الفضاء النصي والمجازي الذي يضمنه الراوي داخل المنظور بتقديم مفردات الحكاية بشكل يوحي باتحاد الراوي وبقية العناصر التي تتبع كل مفردة من مفردات العملية السردية، والتي بدورها تنتمي إلى حركة الصراع داخل الرواية.

   إن الراوي عند عبدالله خليفة راو ينحاز إلى ذوات مهمشة في معظمها، ذوات مأزومة بطريقة أو بأخرى، وهي في حالة تناقض دائم مع كل مفردات السرد، يبدأ هذا التناقض مع الذات، ثم يتسع ليشمل الذوات الأخرى، حتى تلك التي تمشي في الدرب القيمي والفكري نفسه، أما الذوات الأخرى، والتي تمثل الحالة المقابلة في الصراع فإنها هي التي تحرك السرد، بمعنى أن ذوات عبدالله خليفة ذوات في كثير من المواقف، سكونية الرؤية، او هكذا يحاول الراوي أن يقدمها من خلال عدد من عناصر الحكاية:

   1ــ الأفكار التي تحرك الذوات.

   2ــ طبيعة المكان، وعلاقة الذوات به.

   3ــ طبيعة الذوات، وعلاقتها بعناصر البناء الحكائي.

   4ــ الأحداث التي تواكب حركة الذوات.

   السياق المؤسس للحكاية:

   إن الصراع في روايات عبدالله خليفة يمثل صورة افتراضية لما مر به الإنسان والمكان داخل الذات التي تمثل حركة الراوي أولاً، وداخل المكان الذي يمثل الإطار المادي للفعل، فهو يعتمد على صورة الراوي العليم الذي يقدم الحكاية من أولها إلى آخرها معتمداً على مخزون هائل من التفاصيل الحكائية التي تقدم الواقع في صورة افتراضية من ناحية، وتقدم داخل الذوات بصورة مختلفة، تمثل من الناحية النفسية صورة من صور المنظور النفسي الذي يؤسس له سياق إنساني واجتماعي تتميز به فترة تاريخية مهمة من حياة المجتمع الجديد في البحرين، وبالذات مدينة المحرق، وهي المدينة الملاصقة تماماً للبحر. وقد مثل هذان العنصران صورة التطور الطبقي والاجتماعي بشكل يومي، وكأن منظور الصراع داخل النص الحكائي يتم صنعه بشكل حتمي. كذلك فإن الرواية نفسها لا تتضمن مرجعية واحدة فحسب، بل مرجعيات مختلفة، منها مرجعية الكاتب التي يستحضرها لتمتزج بمرجعية النص التي يريد الكاتب طرحها.

   لا يمثل الصراع عند عبدالله خليفة صورة اجتماعية بقدر ما يمثل صورة وجودية ليست كالتي يمكن أن نجدها في كتابات ساتر، ولكنها الخلفية الافتراضية لحالة الحضارة التي وصل إليها المجتمع في الوطن العربي، وهو يمثل ــ أيضاً ــ واحة مقابلة لحالة الوجود في مدينة مثل الإسكندرية، حيث المكان هو الذي يوجد علاقات المنظور الحكائي، وكذلك مدينة المحرق والمكان هو الذي يوجد المنظور السردي، وهو الأعم في التصور عند الراوي، يعقب ذلك صورة مختلفة لهذا الوجود.

 ــ المقابلات السردية:

   المقابلة هي الصورة الأكثر ظهوراً في مستويات السرد الحكائي عند الراوي، فنجد على سبيل التمثيل في رواية «ألماس والأبنوس» يقدم صورة الراوي «برهان» الشخصية المركزية في النص، في مقابل صورة الأب الذي يمثل الحالة التراثية الواعية بمفردات الحياة الواقع. ثم يبدأ الراوي في تحريك المنظور ليقدم المقابلة على أنها منظورات حكائية متقابلة.

   الأول: يمثله برهان الراوي والذي لا يعي مفردات الواقع.

   الثاني: الأب ويمثل حالة الوعي.

   وبعد ذلك يبدأ الخطان السرديان في التداخل والتماهي لنصل إلى حالة فريدة من الوعي عند الأب، وحالة من الغياب عند الابن. لأن الأحداث والمؤشرات التي تميل إليها كل عنصر في الحكاية يمكن تأويلها في داخل السياق وخارجة.

   إن الصراع الطبقي الذي يمثله الراوي ليس من منظور الفكر الماركسي بقدر ما هو تعبير عن الواقع الفعلي، في بدايات تكوين المجتمعات العربية، حيث الاستعانة بالأفارقة (ويمتلكون العرق الأسود) الذي يقدمه الراوي على أنه صورة للعبودية وحالة مستقلة من الإنسانية، في مقابل العربي الذي ينتمي إلى القبائل التي تكونت للمجتمعات العربية منها.

   لا يفصل الراوي بين ذاته وبين ذوات الآخرين وهو يقدم البناء الحكائي القائم على التصور المكاني على شواطئ المحرق حيث البحث عن اللؤلؤ هو البحث عن المال والجاه وامتلاك السفن وامتلاك للقوة آنذاك.

ــ الحلم واللاوعي:

   يعتمد عبدالله خليفة في بناء الرواية على صور متعددة من صور تداخل الحلم مع عناصر المجاز التي يمكن ان تتمثل الشخصية بستائر متعددة ومتراكمة من حالات اللاوعي داخل الحكاية، وهو بهذا يقدم صورة الصراع ليس على أنه صراع طبقي فقط. ولكنه صراع وجود في مقابل الحركة المتنامية للمكان وفي وجود حركة مصاحبة مثل حركة الصيد والبحر، وفي ظل حالة من البحث عن الذات داخل الحالة. ولا يتوقف الراوي في حالة اللاوعي التي تمثل صورة من منظور النفسي، وهو ملمح بنائي مهم يعتمد الراوي عليه في جذب دلالات للنص ويقدم المنظور على أنه هو الأكثر ظهوراً في الرواية، ربما لا يريد الراوي أن يقدم الحكاية على أنها حركة حياة، ولكنه يريد أن يقدم الحكاية داخل ظلال من سياق موسع يحتوي الصراع والوجود والبحث عن حقيقة النفس وبقاء الإنسان من الداخل والخارج.

   يقول الراوي وهو يقدم صورة الصحراء: آفاق الصحراء غير مرئية. تشابهت فتلاشت الرؤية. مرآة رملية تطالع نفسها. وسماء ممتدة رمادية. وعدة كائنات عطشى تدب وتبحث عن عشب. أصابعي تتجول في نقاط الخريطة. المستنقعات الذهبية تشرد من أنابيبي. الآلة تحفر وتحفر وتلاقي التراب والحصى، تتفجر تأوهاتها وشرارتها. كهف واسع يحدق في البرية. الحمير لا يتسع لها المكان.

   نسكب المياه في أجسادنا اليابسة الظمأى. تتراقص الأسربة أمام أعيننا. الجبل يجلس شامخاً بعيداً عنا. نرى القوافل تتراقص في سراب الزجاج المضيء. تقطف الجواري والثمار ثم تذوب في المحال. البدوي الذي قطع تذاكر الصحراء لنا يتغذي بالضببة والجرابيع المشوية ثم يعزف الربابة وينام. ربما يبحث المتلقي عن أثر للفعل الحكائي فلا يجد، وإنما يجد نفسه داخل حالة من الحوار الذاتي الذي يصنعه الراوي مع الأشياء بداية من ذات، ومروراً بالشخصيات ويمثلها «جوهر الأسود» والذي يقدمه برهان الراوي في علاقات متشابكة مع الأشياء والمفردات التي تمثل الواقع.

  السياق المصاحب والبناء الدرامي

   في رواية «أغنية الماء والنار» يقدم الراوي السياق المصاحب كبديل فني عن الصورة الشعرية التالي يعتمد عليها في الحكاية البسيطة المعقدة بين «راشد» السقاء، منبع الحكايات لأطفال الأكواخ التي تنمو على شاطئ المدينة كما ينمو الزنبق في الرمال الجافة. على أن النص كله لا يقدم أفعالاً تُذكر سوى فعل واحد هذا الذي غير مسار الحكاية، فعل البحث عن ذاته في مقابل التخلص من كل شيء، وفي الوقت نفسه أكمل الرؤية السياقية المصاحبة لبناء درامي محكم من خلال عدد من الخطوط السردية المتوازية.

   ــ قدم الراوي شخصية «راشد» السقاء كذات مقهورة.  

   ــ في نهاية الحكاية تظهر شخصية «راشد» السقاء القاهرة.

   ــ قدم صورة المرأة الغامضة على أنها جزء من الضعف واللين في مقابل القهر الجسدي.

   ــ وفي نهاية الحكاية ظهرت شخصية المرأة على أنها صانعة الفعل.

   الذوات التي تقابل شخصية السقاء قد تكون في حالة صراع ظاهر، وتناقض اجتماعي في حين أن الراوي أراد أن يقدم أطراف الصراع في حالة من الانسجام في كثير من الأحيان ليبني اللعب الحكائي بناءً درامياً يعتمد على صورة التناقض الظاهر بين الشخصيات. يقول الراوي عن السقاء: يسير في الظلام الشاحب، قد هدهده الكلام والحزن والسكر والضجر، يرمق القمر المستدير كالبالونة الضخمة البيضاء التي لم يطلقها طفل. تأتيه أنفاس البحر فتدغدغ حواسه المتعبة ويرى نفسه الصياد الفقير واقفاً على الصخرة يكلم السمكة/المرأة. ثم يمضي إلى مدن مضاءة بالنور، يضحك من أعماق قلبه، وينام على فراش نظيف ومعه امرأة جميلة لا يزيد فيها سوى الذيل. اقترب من البيت الكبير الجاثم لوحده. إن الأضواء ترقص من نوافذه. سمع إيقاعات طبل وهزات دفوف وغناء فكاد يرقص من جمال الصوت والنشوة.

   قال (سأتفرج على أجسادهن)، واقترب من النوافذ. لكن شقوقها لم تكن تساعده في رؤية شيء إلا البساط وبعض الأقدام. سمع صوتاً يقولك

   ــ من هناك؟

   كان صوتاً نسائياً رقيقاً. التفت وراءه فلم يجد شيئاً. عاد ثانية للبحث عن الأجساد التي لا ترى منها سوى الأقدام. حاول أن يجلس فلربما اتسعت شاشة الرؤية ولكن بدون فائدة. عاد الصوت النسائي ثانية بأقوى مما كان. التفت إلى النوافذ الأخرى فلم يجد أحداً. وحين نظر إلى السطح وجدها. وجهها الأبيض المشع كان يخترق الظلمة وقلبه. تسمر واقفاً، فرحاً، مضطرباً، راغباً أن يتجمد هذا المشهد طويلاً.

   إن الصراع الاجتماعي القبلي الذي يحاول أن يرمز به الراوي للنخوة العربية وصورة القيم التي اكتسبها الراوي من الصحراء، في حين أن الحضارة لم تقدم سوى الحزن والبؤس والقيم التي لا تسهم في بناء الأنسان.

   وفي رواية «رسائل جمال عبدالناصر السرية» خروج من دائرة الوقوف على شواطئ البحرين ليقدم الصورة الايديولوجية للفكر الروائي حينما يعتمد على شخصية تاريخية معاصرة في بناء درامي يعتمد على أحداث حقيقية ليرى (حرب فلسطين) (العدوان الثلاثي ــ هزيمة 1967) ليظهر الراوي الذي ينتم صراحة إلى الفكر الاشتراكي، ويرى في زعيمه جمال عبدالناصر صورة المخلص الحقيقي الذي يمكن أن يعطي الإنسان العربي الجديد حكاية جديدة، فنراه يعتمد على حالة من الحالات التي اعتمد أن يقدمها في رواية كلها وهي تداخل الحلم والواقع ليخرج شخصية عبدالناصر من إطارها الواقعي إلى الإطار الذي يمكن أن ينتمي لفكر «الواقعية السحرية» بداية من الفعل، ومروراً بالحوارات الذاتية التي يقدمها من خلال الاعتماد على المنظور السردي التخييلي. في حين أنه في رواية «ألماس والأبنوس» يأتي السياق مؤسساً للنص، لأن فكرة الصراع تنتقل من الحالة التخييلية العامة إلى الحالة الواقعية التي ترتبط بالزمان والمكان.    

   ويقول الراوي: من نسل الصحراء، من صرخة حوريس، من تقطع أوزوريس، من ذكاء عمرو، من بسالة خالد، من نقاء علي، يطلع من حصار السيارات المحروقة والمدرعات الجائعة للحم النيليين، ويمشي بين حقول الجثث المزهرة حقداً خططاً. يحرك البدلات العسكرية للقرويين المليئة بالأشباح والتمائم فيحصد غباراً. ينغمر في الحارات والحقول يصافح المجندين والشهداء والأمهات الثكالى. كلما مشى مع احدهم رأى كبشاً أو نعجة. تعرف بود على برميل لحم فوجده يحلم أن يكون ملكاً .

   إن السياق في النص يشتمل على قواعد اللغة، ومواقف الكاتب، والقارئ، وأي شيء آخر قد يكون متصلاً بهذا الموضوع وبطريقة يمكن تصورها أو إدراكها. ولكن إذا قلنا إن المعنى هو السياق المحدد، وهنا يجب أن نقول إن السياق قد يكون غير محدد قبلياً فيما يصل بالموضوعي.

  ــ الرموز السياقية في الحكاية:

   هناك دلالات تفصيلية في حياة الراوي عند عبدالله خليفة يجعل منها صورة من صور التحول الحكائي، وصورة من صور الانفصال عن الواقع كأداة من أدوات تجميل حالة الصراع التي تسيطر في الايديولوجية الهاربة من أفعال الشخصيات، وصورة المكان، فنجد على سبيل التمثيل في رواية «ألماس والأبنوس» ولادة طفل أسود يعني بشكل حاد أن المرأة قد خانت مع رجل أسود، وهذا يعني انهيار العلاقات الإنسانية والاجتماعية داخل التراتبية التي حددتها القبيلة العربية، بالإضافة إلى الحالة النفسية التي تصاحب ولادة طفل أسود. ربما أراد الكاتب أن يرمز إلى ازدواج الشخصية عند العربي في صورة العلاقة بين الأبيض والأسود. فالنص يوجد حالته وسياقاته من خلال مجموعة من الرموز السياقية التي تحدد الهدف الايديولوجي أحياناً، أو تحدد وجهة الشخصيات والأفعال داخل الحكاية، وغالباً ما تأتي عند عبدالله خليفة باعتبارها خلفية اجتماعية وإنسانية يمكن أن تقدم سياقاً سياسياً، أو سياقاً حضارياً.  

   يقول الراوي في «رسائل جمال عبدالناصر السرية» المرأة ذات وجه متألق جميل، عيناها بحيرتان تطير فيهما الكراكي والبجع، تنفث لغة قديمة لا يفهمها، يجلب لها الماء والزبائن والضالين في شعاب الجبال. على الجدران خطوط غريبة. حفر فوجد عملة فيها ذوالقرنين يهزأ بالزمن، وثمة امرأة على ساعدها نسر، وثمة حية تلتف حول عصاها المتجذرة في التراب. النسر يقبض على الصاعقة. والفرعون ملأ الأرض خراباً. المرأة تتبدل في الفراش، تغدو عامية ساخرة من نجمته وبدلته المحروقة وقدومه من النهر للجبال، يرى الحشود تبيع الحيات والقات والتراب للسياح والعقود الزائفة ويقبضون عليه ويضعونه في الحبس، والمرأة تجلب له الأكل والشراب وتسحر الضباط والجنود. تقرأ عليه سورة بلقيس: للتحول فصول كثيرة، جسد المرأة ربيع الطبيعة، ادخل في خلاياي وتكون بشرياً إنسياً جميلاً. يسبح في بركتها الواسعة ويشرب الحليب. يبحث في التلال والأرض الواسعة والحصى عن عملات، يجد جماجم وسلاسل، وعظاماً أزلية ساخرة بالحياة، يركب باخرة مليئة بالجنود تزحف ببطء في البحر وترى السفن المكتظة بالحجاج الغارقة، حشود من الثياب البيض واللحى والنهود، مصانع الحليب المتوقفة المأكولة من سمك القرش، يضحك بين الدخان في المقهى، وهو يطالع الجري وراء القطع المعدنية.

   فلو تتبعنا الرموز السياقية الصغيرة لوجدنا الآتي:

   ــ عملة ذي  القرنين يهزأ بالزمن.

   ــ النسر يقبض على الصاعقة والفرعون ملأ الأرض خراباً.

   ــ للتحول فصول كثيرة، جسد المرأة ربيع الطبيعة.

   على أن كل كلمة تصلح أن تكون رمزاً، ثم تتحول إلى فعل من أفعال الدلالة المركزية في النص، والتي تتمحور حول عتبة النص الأولى «رسائل جمال عبدالناصر السرية»، وكأنه يتحدث أو هو يتحدث عن الأحداث السياسية. طبيعة المرحلة، الصراعات الاجتماعية، الطموح الزائد، النصر الزائف، الهزيمة المقنعة.

   وهكذا يحول الراوي اللغة التي يستخدمها إلى لغة مضادة، وكأنه يكتب الشعر لتتحول الدلالة على أثر ذلك إلى دلالات شعرية تميل إلى المنطق العام أكثر مما تميل إلى منطق الحكاية إن وجدت، لأن الراوي في كثير من سروده لا يميل إلى حكاية مؤطرة بقدر ما يميل إلى حالة من السرود الوصفية التي تتضمن بشكل أو بآخر صورة من صور الحياة التي يقدمها، وهو يعتمد عليها بنائياً في النص بأكثر من أسلوب.

   الأول: يقدم التأصيل السردي القائم على الوصف، ثم يعقبه بتأصيل فكري ثم يقدم الحدث مغلفاً في السرد.

   الثاني: يقدم التأصيل الحكائي، ثم يعقبه بسرد وصفي يعتمد على مجازات الواقع والمكان والأفكار.

   الثالث: يقدم الذوات، ثم يعقب ذلك بوصف سردي يعتمد على الذوات والمكان من خلال العلاقات المجازية النفسية التي تبدو في الحكاية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. محمد زيدان

أستاذ النقد الأدبي الحديث

محاضرة للدكتور محمد زيدان أستاذ النقد الأدبي الحديث بعنوان «الرواية البحرينية المعاصرة .. عبـــــــدالله خلــــــــيفة أنموذجا». 

   أكد الدكتور محمد زيدان أستاذ النقد الأدبي الحديث ، الحاجة الى رؤية جديدة في نقد النص الأدبي العربي بداية من النص الشعري ومرورا بالنص الروائي والمسرحي والتمثيليات المرئية ، حيث انها أصبحت نصوصا تؤثر كأي نص أدبيا آخر.

وأوضح في محاضرة نظمها مركز عبدالرحمن كانو الثقافي بعنوان «الرواية البحرينية المعاصرة .. عبـــــــدالله خلــــــــيفة انموذجاً»، ان الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في روايته الماس والأبنوس استطاع ان يقدم فكرة المقابلة في البلاغة العربية والتي تكون أحيانا بين جملتين او بين عدة جمل ، واستطاع ان يقدمها على مستوى المنظور ، وهذا يتناسب مع الأشكال ما بعد الحداثة في الرواية العربية.

 أوضح الدكتور محمد زيدان أن تقنيات الكتابة لدى عبـــــــدالله خلــــــــيفة فيها تشابه في الأسلوب والتشكيل مع تقنيات الكتابة لدى الروائيين في مصر والعراق ، كما انه يقدم الوصف الدقيق كأكواخ الصيادين في بداية تكون المدينة على شواطئ مملكة البحرين ، وبذلك فهو يعتبر أهم ملمح بنائي في الرواية لدى عبـــــــدالله خلــــــــيفة وهو اعتماده كليا على المكان في بناء النص الروائي، بالاضافة الى استغلاله لكل ما يتصل بالنص بداية من الراوي ففي روايات عبـــــــدالله خلــــــــيفة هو العليم وكل شيء منبثق من الراوي وهي تقنية مشهورة في الرواية العربية ، حيث يتكلم الراوي عن نفسه بضمير الأنا ثم ينتقل ليتحدث عن غيره فيما يشبه فصل الضمائر بين الأنا والهو لينتقل بين هذه الأساليب انتقالات غير مرئية وغير مفصول بينها ، وعليه يحتاج القارئ الى وعي شديد وهو يتنقل بين اللوحات التي يرسمها عبـــــــدالله خلــــــــيفة.

وأضاف الدكتور محمد زيدان أن الملمح السردي الثاني الذي يعتمد عليه الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في تشكيل النص هو اعتماده على لغة مجازية رامزة شديدة التبييض شديدة المجازية لدرجة أنه في بعض الأحيان المجازات الصغيرة واللغة الشعرية داخل النص تلفت الى نفسها أكثر مما تلفت الى ما فيها من أحداق وأفعال ، ومن وجهة نظره أنه لا أحداث كبيرة في النص السردي لدى عبدالله خليفة ، وإنما هي أفعال ترتبط بزمان ومكان معينين.

وأوضح أن الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة يعتمد اعتمادا كبيرا ولافتا على ما يسمى في النقد بتيار الوعي ، لذلك نرى عنده المنولوجات طويلة جدا ، وخصوصا الخاصة كالحديث الى الذات أو الى الآخر ، حيث يعطي جمالا نفسيا للعلاقات التي ينشئها بين الشخصيات ، كروايته الماس والأبنوس التي كان يقصد شخص من افريقيا اسمه الماس والأبنوس الذي يقصد به المرأة او الرجل أو الرمز باعتبار أنه نوع من البنات له طبيعة خاصة في الشكل والتركيب والمنظر ،ثم يدلف الى النص بهذه المفارقة والعلاقة والصراع الطبقي بالمعنى الاجتماعي والذي يطرح رؤيتين في المجتمع ، الا وهو رجلا يبحث عن نفسه وسط اهله ويبحث عن نفسه داخل نفسه ، وهي الفكرة والدلالة المركزية عنده في الرواية .

وأشار الدكتور محمد زيدان أن ما يميز روايات عبدالله خليفة هو عنصر الامتاع بمعنى انك تستطيع ان تستمع باللغة التي يستخدمها استخداما لافتا للنظر مع كل عنصر من عناصر بناء الرواية ، والشخصيات كلها ذات علاقات متشابكة والفضاء الذي يستخدمه هو الفضاء النفسي اولا ، ثم يخرج منه الى الفضاء الواقعي الذي يتصل عنده بتأسيس الشخصيات وكل شخصية في النص تقدم منظورا حكائيا مختلفا ، ومن خلال روايات عبـــــــدالله خلــــــــيفة تستطيع ان تقدم عدة منظورات حكائية وكل منظور منها سوف تجد فيه اللغة والرؤى البلاغية والسياقية التي يستخدمها وهو مؤسس للنص لأن فكرة الأيدلوجية اذا ارتبطت بالحياة الواقعية تستطيع ان تخرج منها سياقا مؤسسا للحكاية. ///الأيام البحرينية

أضف تعليق