جدل الأنا والآخر وقلق الهويّة

      عبدالله خليفة رواية الاقلف_

                         جدل الأنا والآخر وقلق الهويّة

                                …………….♦♦♦ …………….

د. أنيسة السعدون

مثلت إشكالية الهوية إحدى القضايا الأساسية للرواية العربيّة؛ وقد تناولها عدد من الكتّاب بالنظر إليها من زوايا مختلفة، ووقفوا على وجوه علاقتها مع قضايا شتّى ومتباينة المجالات؛ بما يكشف تعدد الرؤى في رصد مظاهرها، وتعقّد عوام تكوّنها، وما يطبعها من صراع اجتماعي وثقافي وحضاري يجلّي آثارها المكينة في الشخصية العربية.

ولا شك في أن ثمة محددات تضبط هذا التعدد في الرؤى والمآلات، وأبرزها اختلاف طريقة معالجة الكتاب هذه الإشكالية بسبب ما يصدرون عنه من رؤية خاصة تعكس تفاوت درجة وعيهم لها، واختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، واهتماماتهم الفكرية. إلى جانب تبدل ما تشهده كز مرحلة تاريخية من ملابسات، وما تفرضه من قيم وتصورات وأفكار، وما تحتاج إليه من محركات تستجيب إلى مقتضيات المرحلة. ذلك أن الرواية التي صورت محنة الاحتلال ركزت على صورة الصراع بين غرب مستعمِر وبلد عربي مستعمَر، وما يمارسه المستعمر من أشكال القهر والاستلاب، في مقابل صورة العربي المحتج الصامد، أو الثائر من أجل التحرير. وأحسن الروايات عرصاً لهذا الواقع (مدن الملح) لعبدالرحمن منيف، و(الريح الشتوية) لمبارك ربيع، و(اللاز) للطاهر وطار. وقد وقفت روايات أخرى على العرب ما بعد الاستعمار، لتجسد آثار التفوق الصناعي والاقتصادي الذي يتبوأه الغرب على العرب؛ إذ وجدوا أنفسهم أمام صراع حضاري آخر يتجلى في الصراع بين غرب متقدم ومتحضر بينما هم يغرقون في التخلف على أكثر من صعيد، وهكذا اعتنت كثير من النصوص الروائية بأسباب هذا الصراع ومآلاته التي اقتضت ترسيخ هيمنة الغرب، وتعميق أشكال التبعية له، وإثبات مركزيته في مقابل هامشية العالم العربي، وإرساء الروح الفردية، والاقتصاد الرأسمالي. ومن أمثلة الروايات التي اكترثت بالنظر فى هذا الجانب (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر، و(ألف ليلة وليلتان)، و(وشرخ في تاريخ طويل) لهاني الراهب، و( سلالم الهواء) لمحمد عبدالملك. فيما صورت روايات أخرى العلاقة مع الغرب على أنها موضوع افتتان، وأخذت تبحث فكرياً وجمالياً فيما يسود الغرب من قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهي ما يتطلع إليه الإنسان العربي، ويتوق إلى تجسيده في أرضه. ومن هنا حرصت هذه الروايات على الدعوة إلى ضرورة الانفتاح على الآخر؛ لأنه «من المستحيل أن ندرك وجود أي كائن بصورة منفصمة عن علاقاته. التى تربطه مع الآخر»(1)، ولكنها بدعوتها هذه لم تغفل الإشارة إلى ضرورة صون مقومات الأصيل في الذات العربية الحضارية. ولعل الكتاب الذين سنحت لهم فرصة السفر إلى الخارج هم أبرز من كتب في هذا الاتجاه. نذكر منهم على سبيل المثال محمد حسين هيكل في روايته (زينب)، وتوفيق الحكيم في روايتيه (عودة الروح)، و(عصفور من الشرق)، ويحيى حقي في (قنديل أم هاشم)، والطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال)، ومحمد العروي فى (الغربة). وما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه الاتجاهات في التعبير عن إشكالية الهوية لم ترد في كثير من الروايات على هذا الوجه من التحديد؛ بل جاءت متشابكة

متداخلة تكشف تعقد مسألة العلاقة مع الآخر.

وإذ قد بان أنه لا يمكن قصر هذه العلاقة في إشكالها على صورة واحدة في الرواية، فكيف سيتجلى سؤال الهوية في رواية الأقلف؟ وكيف سيكون تعاطي الشخصيات معه؟ ثم ما موقف الكاتب من هذا السؤال؟

1 ـــ واقع الاستلاب وثورة البحث عن الكيان

 (الأقلف) هو عنوان الرواية، وقطب الرحى فيها. إذ يحيل هذا العنوان إلى بطلها، وهو (يحيى) الذي عيره أهل حيه بهذا اللقب لأنه لم يُطَهّر كما هو شأن أي مولود عند المسلمين. وقد أشار الراوي العليم إلى ذلك في أكثر من موضع من الرواية إما على لسانه(2)، وإما على لسان الشخصيات(3). ولعل هذه النزعة التقييميّة في عنونة النص تضيء لنا، منذ البداية، الوضعية الاجتماعية ليحيى؛ إذ إن مخالفته سنة المسلمين؛ قد تفضي به إلى الاصطدام بقيم مستقرة، وأعراف أصيلة يقدسها المجتمع، وبالتالي تجعله محل ازدراء وسخرية، وإدانة ونبذ وتهميش.

جاء السرد في (الأقلف) بضمير الغائب، لراو يحتل درجة أولى من السرد، وقد افتتح النص برواية تفاصيل حياة شاحبة، ومواقف شائكة، تطرح إشكالية الإنسان المقهور. فالأقلف شابٌ لقيط، «وجد نفسه بلا أم ولا أب. ملحق بكوخ، وبأرض خلاء، وبسماء عالية، وثمة امرأة عجوز خرساء تغذيه بصرر الخضروات المنتزعة من البراري، وبكسرات الخبز اليابسة»(4). وقد قاسى (يحيى) كثيراً من بؤس الواقع، وما يسوده من ظلم وقمع واستلاب طبع مسيرة حياته؛ فهو منذ أن «كان طفلاً يتسلل كالقطة الصغيرة إلى الأشياء المهملة والمزابل، فينتزع أشياءه ومأكولاته منها»(5). على هذا النحو يخسر (يحيى) بشريته، ويفقد كرامته، ويأخذه الجوع إلى مكان قصى عن منازل الإنسانية. ولم يكن أهالي الحي، في علاقتهم به، بأحسن حالاً من تلك الظروف القاسية؛ فقد عاملوه بفظاظة وغلظة، وخصوه بأحط النعوت وأوضعها بالطعن في شرفه(6)، وأمعنوا في تعذيبه نفسياً وجسدياً؛ وهو الضعيف العاجز الذي لا حيلة له سوى الهروب، وأنّى له الخلاص منهم وهم يتعقبونه إلى فضائه الذاتي (كوخه)، فلا يستطيع أن يزاول فرديته، ويتحرر ولو إلى حين عن قيودهم وتطاولهم؛ فيقبع هناك «خائفاً من الرجال والأولاد الشرسين الذين يصفعونه، أو يتسلون باكتشاف جسده»(7)؛ إذ «كان شكله المميز؛ ولونه البرونزي؛ وعيناه الجميلتان، مدعاة لتحسسات لاذعة غامضة لجلده (…)، فيخاف ويحزن ويجري بعيداً حيث الكوخ، و”السيخ” الصدئ الذي يمنع أقدامهم من الدخول، لكن كلماتهم الفظة كانت تتقافز من خلال الخوص إلى مسامه مثل قراد الكلاب»(8). هكذا يقف الخارج عامل تهديد وتحد للداخل، فيخضعه لهواه ومشتهاه؛ ممارساً عليه ضرباً من ضروب الإرهاب النفسي الذي يتجسد في اوجه؛ في المقطع السابق؛ من خلال انتهاك ألصق حيز بيحيى وهو جسمه الذي هو موطن حرمة وقداسة في كثير من الثقافات.

ولقد صاغ الراوي بصوته الممزوج بصوت الشخصية الكثير من صور الحرمان ومعاناة الطفولة البائسة التي انفرد بها (يحيى) عن بقية أبناء حيه، ذلك من خلال مقارنات تظهر جوانب اختلافه البيولوجي والنفسي والاجتماعي. وقد ضاعفت هذه الاختلافات درجة حيرته؛ وأججت في نفسه مشاعر الضياع والوحدة وهو «يرى كل شرايين المدينة مرتبطة بالأمومة والأبوة»(9). ويراقب بإعجاب الأولاد تلاحقهم عصيٌ الآباء لتعيدهم إلى المدرسة(10)، ويحلم بعيشة مثلهم وهم «ينتزعون أمكنتهم على المسفرات الكبيرة الملأى بأطباق الأرز ودوائر السمك المشوي»(11). وما أجدت هذه الأحلام، وأنّى لها أن تجدي في محيط ينبذه ويهجوه، ويتربص به ليصيب كرامته في الصميم، بدليل ما ذكره الراوي عنه عندما ذهب متوارياً إلى البحر لــ«يغسل ثوبه الوحيد وملابسه الداخلية الممزقة، وينشرها على الصخور، وينتظر عارياً، محتمياً في الشقوق عن الأنظار (…) وفي غفوة مباغتة، دهش لاختفاء أسماله (…) وفجأة أطل الأولاد برؤسهم حوله، وانفجروا ضاحكين.. ! لم يتركوها إلا عندما وقف غاضباً (…) دهشتهم انفجرت فجأة(…) صاحوا وهم يلقون ثيابه، ورددوا كلمة غريبة جديدة!

شعر في ذلك الموقع المرتفع عن الحي، إنه إنسان مختلف غريب. لقد نبت خطأ، أو ظهر بصورة خارقة.»(12).

هكذا يُحرم (يحيى) من ممارسة صيرورته الخاصة وشرطه الذاتي الذي يكفل إنسانيته؛ فيضطهد اجتماعياً إذ تجاهل الأبُ الاعتراف ببنوته، وفكرياً بحرمانه من التعليم، وجسدياً عبر إرغامه على التعرّي. وضمن هذا السياق والأفق يستلب حقه في مزاولة تجربة الحياة، وينفرط عقد الجماعة في نفسه. ومتى انقطع هذا الرابط، اعتلت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعسر التواصل بينهما، واستبد به الشعور بالاغتراب.

وهو ما آل إليه يحيى، وقد ذكر ذلك الراوي بأسلوب تصويري مكثف، ولغة إيقاعية مشبعة بالرمز للإيحاء بمدى انفعال الشخصية، وشدة تأزم واقعها: «يتطلع إلى الطرق الموحشة، وإلى المستنقعات الساخنة، حيث تتراءى كالأدخنة الحارقة حشود الذباب والبعوض، وتمضى الأحذية عائدة إلى المنزل، وإلى الأبواب التي تغلق على الثلل المتعانقة، والشجارات السعيدة، والأكلات الصاخبة، هو وحده الذي يغفو، وتترنح رأسه على الجريد»13.

ما تتفق فيه هذه الأمثلة أنها تؤسس بنية قمعية تتشكل في نطاقها ذات (يحيى) بعد أن قهرها المجتمع وصيرها إلى التهميش، وبمقتضى ذلك تخترم هوية يحيى وتشوه ، فَيَكُفٌ عن التعاطي مع محيطه الاجتماعي، ويجترح لنفسه عالماً خاصاً، ويعقد علاقة صداقة مع كلبة مقتنعاً أن عالمها أوسع عليه، وأرحم به من بني جنسه. وفي ذلك يقول الراوي: «يحتضن كلبة ويطعمها (…) كانت صداقة سريعة وأليفة بينهما. لقد أوجد لها طعاماً بصورة منتظمة، وتخلى عن بعض حصصه (…) لقد قدرت حنانه وتدلهت بحبه. فتروح تمرغ رأسها في حضنه، وتبحث عنه، وتقدم له خدمات كثيرة.. ولكنها لم تَصِرْ أمّهُ»14. لقد عمد الراوي إلى تكرار مشاهد عديدة تجسد ذات (يحيى) المتداعية؛ وذلك لتقوية الإحساس بفظاعة واقعها، وإقناع المتلقي بما تتخذه من قرار.

والحق أن عالم الاستغلال والتشرد والوحدة والاغتراب وتدهور الأصيل من القيم، لم يمنع (يحيى) من ممارسة الوجود، بل كان بمثابة قادح يوقظ في نفسه بوادر الصمود، ودواعي المواجهة لفك أغلال الواقع المتهافت بسؤال المعرفة. يقول الراوي في ذلك: «إن شكله الغريب، ووجوده المريب، لم يجعلاه يدمن الكآبة، فكانت الوحدة والعزلة تدريباً له على الحفظ وترديد أسماء الناس والأشياء، وأسئلة حارقة عن هذا القدوم، والأب المتواري، والأم القاسية»15. ويمكن أن نلمس إصرار (يحيى) على الدفاع عن كيانه، وتجاوز الشعور بالانبتات، من خلال ما نقله الراوي من حديث (يحيى) إلى جدته، وقد غلبت عليه أسئلة إشكالية، تدعوه إلى لون مختلف من التفكير، وتغرس فيه بذور الوعي الأولى في سبيل البحث عن الذات: «يقف فوق رأس جدته (…) ويشير إلى نفسه، ويرسم إشارات استفهام مروعة كبيرة، لو كان يستطيع أن يشحنها بكل جراحه لفعل، يصرخ مزلزلاً الكوخ الأخرس: 

– جدتي.. كيف جئت إلى هنا؟ 

بل كان يريد أن يلعلع بصوته : 

– من أنا؟ ِلمَ أنا قطعة من  اللحم النتن مرمية على قارعة الطريق ؟ ِلمَ أنا وحيد.. في كل هذا الوجود الصخب الشرس؟»16. إلا أنه أسقط في يده ؛ إذ ليس لأسئلته الممضّة سوى عجوز خرساء يستنطقها فلا تبوح إلا بهمهمات وإشارات معقدة. كما أنه لم يجد إجابة في محيطه الخارجي اللاهي عن كل تغير، والذي يهيمن عليه الروتينى والعادي، فكأنه يكرر نفسه ويلوكها. ومن الطبيعى أن يولد هذا الشعور الانغلاق والانحباس، لأن كل شيء منمّط ومقنن لا يفصح عن جديد، ولا يتيح مجالاً للاستكشاف، ولا يلبّي أسئلة هاجس المعرفة؛ ما يفسر أسباب القطيعة بينه وبين أهل حيه : «كانت الأسئلة الكبيرة تملأ رأسه. ويجد الأفق لا يجيب، والبحر صامت، والنخيل يغرق في العتمات، وأهل الحي تأخذهم الطرق المليئة بالعصيّ، والعجلات، والمآذن والتسابيح ودخان الحشيش والقيود والدم، ويغرقون في النوم، والأكل والشجار، ولا أحد يجيبه»17.

ولكن بعض الملامح العسيرة لهذه الحال ما تلبث أن تولت بقدوم (إسحاق) إلى الحي. وهي شخصية مهمشة تقاسم (يحيى) مغامرة الوجود ومعاناته، فنشأت بينهما صداقة حميمة، ومعها اقتحم يحيى حياة العمل الذي أطلعه على ألوان أخرى من الظلم الاجتماعى تمارس ضد الكادحين. وفى بيان ذلك يقول الراوي: «اندفع مع إسحاق في الأسواق ينقلان الأكياس الثقيلة والألواح وعلب الصبغ وكتل الحديد (…) وحين يريان حصيلة النهار في كوخ أحدهما يفاجآن بذلك المبلغ الهزيل»18. ومن هنا لم يكن هذا العمل عوناً ليحيى على امتلاك ذاته بقدر ما كان أداة هدم واستعباد؛ مما عمق من بؤسه المادي والنفسي، كما أنه لم يجبه عن سؤال الهوية العالق، بدليل مخاطبته إسحاق مستفهماً: «هل سنحيا هكذا.. بلا أسماء.. نخاف من عيون الناس وألسنتهم»19.

غير أن أحداث القصة تشهد منعرجاً حاسماً غيّر مجرى حياته، فمرضه كان سبيلاً له إلى عالم آخر، وكانت عربة (إسحاق) معبراً له وجسراً إلى ذلك العالم حيث مستشفى الإرساليّة الأمريكية. وهناك تعرف إلى (ميري) التى أعجبت به، ووجدت الفرصة سانحة لأن «تجرب رسالتها في هذا الطين البشري الذي لم يتشكل»20. أما يحيى فقد رأى فيها سبيل تعويض لإحباطه النفسي والاجتماعي، ومتنفساً له ومهرباً من حياة القهر والضياع والتشرد، ومجازا إلى الوعي. وبالاشتغال معها بدأ يكتشف ذاته شيئاً فشيئاً، وازداد انبهاره بالآخر، وتضخمت في نفسه علامة الاستفهام ضمن سلسلة من التداعيات الذهنية اضطلع الراوي بنقلها: «لماذا هو مرمي هكذا في الفراغ الأرضي وحيدا، بلا جذور، بلا عكاز، بلا اسم.. هل يبيع جسده وروحه على أول بائع يعرض شراءه؟ أيعطي ماعونه لأغراب يملؤونه بما يريدون؟ (…) هل يمضي وراء الشعاع الجميل الذي أعطاه الحياة والصحة والأمل أم يهرب بعيدا، نحو سوق الصفارين يغوص في الرماد وشرائط النحاس والهباب وضرب المعلمين والزبائن؟»21.

ولا شك في أنه توجس ريبة من هذا التغيير في البداية، وأدرك أنه سيبلغ به مبلعاً من الخطورة؛ إذ كيف يعلن عن مسار حياته الجديد الذي لن يتفهمه حتي صديقه (إسحاق)؟ يبوح لنا الراوي بما يدور في نفس يحيى قائلا: «أحس أنه انقطع عن صديقه. لقد بدا غريباً عنه، وهو بحاجة إلى إنسان يُصغي لأسئلته. ماذا سيقول له، بل ماذا سيقول للناس؟ سيقولون إنه التحق بالكفار الأغنياء المتسلطين القادمين من وراء البحار، وأنه باع نفسه بدريهمات ما! كيف يمكن أن يعرفوا عمق اختياراته؟»22. تنتهي الرواية ولا ينتهي السؤال، فقد تكاثفت مثل هذه الأسئلة في تضاعيف الرواية؛ إذ كانت السبيل الوحيد لاستكشاف الذات، ومواجهة مصير الوجود. وبذلك كانت الرواية سؤالاً لجوجاً متتابعاً ينمو بنمو السرد؛ ليغدو يحيى «شخصية إشكالية تعريفاً، يبحث عن موضوع أضاعه بأدوات تزيده ضياعاً، أو يبحث، ضائعاً، بموضوع لم يلتق به أبدا»23. وقد أفضى به ذلك لأن يخوض صراعاً مزدوجاً مع الذات والعالم الخارجي؛ مما يجلي وجوها شتى من مظاهر التأزم تحكم الواقع على أكثر من صعيد. وتنم عن وعي يعكس إرادة التغيير، وهي الإرادة التي وجد أدواتها ومسالكها عند الآخر.

ومن الطبيعي، والحال هذه، أن ينحاز أهل حيه إلى تصوراتهم ومعتقداتهم القارة، ويبنوا أحكامهم على أساس تقليدي بسيط، وينطلقوا منها لاتهام (يحيى) وتخوينه. ومن الطبيعي أيضاً أن تقعد بهم آفاقهم الفكرية المحدودة عن فهم جوهر القضية التي يحتكم إليها، فهو يريد أن يحدد مصيره، يريد أن يحول عجزه إلى فعل، وضياعه إلى قرار، يربد أن يضع حدا لحالات الفقر والامتهان والقهر والاستلاب، ويرتقي سلم التحضر الذي اعتلاه الآخر، ويحيا أفقاً حياتياً أفضل من الراهن. وبوحي من هذا المنطق تتحقق كرامته وحريته، ويستعيد بناءه الإنساني السامي.

على هذا النحو بدأ سحر الآخر يجتذب (يحيى) بقوة، للتصدي للبنى الذهنية الراسخة في مجتمعه بدأ يعد نفسه للمواجهة، ويجتهد في تقديم المسوغات التي يمكن بها أن يدافع عن اختياره، ويدعم صواب قراره، ويقيم الحجة على قومه. وفي هذا السياق جاءت كل أقواله مندرجة ضمن منطق حجاجى داخلى طرفاه صورة في ذهنه لأهل حيه يحاسبهم على مواقفهم وسلوكياتهم إزاءه، وصورة مقابلة للآخر يكشف فيها مدى دهشته منه وانبهاره به. بالأجنبي هو من أضاء عتمة جهله بنور العلم، ولقد وعى (يحيى) أة سبيل تحرره من قيوده الذاتية وسلطة المجتمع هي المعرفة «التي تصنع كل الأشياء المذهلة، وتقتحم البحار والقارات، وتحلق في السماء، وتجعل الحديد ينطق»24. وأسهم ذلك إيجابياً في تقرير مصيره، وتشكيل وعيه بالوجود، وتحديد رؤيته للعالم بلزوم التحول عن عالم الضياع والتهميش؛ وهو ما دفعه إلى بذل الجهد ليعرف المزيد كما وعد (ميري) : «هناك أشياء كثيرة ينبغى أن تتعلمها.. 

– سوف أتعلم وأبحث»25.

 كما فهم أن مصيره البائس المتقهقر إنما يكمن في تباين أساليب المعاملة بين قومه وبين الأجنبي. وحسبنا دليلاً ما رصده (يحيى) في الشاهد الآتى: «كيف يكون الكفار بهذه الطيبة، يقدمون الطعام والدواء والأسرة والابتسامات المنعشة؟ كيف يصنعون فتاة مثل ميري.. هذه الحمامة الطليقة الخيّرة؟ من هم الكفار حقاً، أليسوا هم هؤلاء الذين ألقوه في المزبلة، وتخلوا عنه؟ أليسوا هم هؤلاء الذين يمرون به، وكأنهم يحاذون طوفة أو جذعاً؟26». وتمتد هذه المقارنات إلى مدى أبعد فتطال قيم المجتمع الفكرية والإيديولوجية؛ إذ إن عمله الجديد في المستشفى جعله يكتشف ما كان خافياً من حقيقة الواقع وملابساته، فنزع إلى انتقاد العقلية التي يصدر عنها أهل حيّه والتي تنهض في مجملها على المحظورات والممنوعات، وتغرق في الترهات والتصورات المشبعة بالتخلف. وهو ما يمكن الوقوف عليه في المناجاة الداخلية الآتية: «ماذا يريد من أولئك الناس الذين ألقوه على قارعة الطريق، ويثقبون جلود المرضى بأسياخ الحديد، ويضعون التمائم على الزنود والصدور، ويحبسون النساء في الغرف المظلمة والألبسة السوداء الثقيلة»27. بهذا الحجاج الموسوم بصبغة انفعالية لا تخلو من السخرية تتباعد المسافة النفسية المعنوية بين (يحيى) ومجتمعه، وبفضلها يبرم الصلح مع الآخر، لا سيما بعد أن عثر على روافد خير وافرة فيما تلاه المدرس نصيف البستانى من آيات مقدسات تواسى المساكين والمحزونين والودعاء، وتهنئ الجياع والعطاشى إلى الحق28.

ولم يبق للأجنبى أخيراً إلا أن يطهر ما تدنس من جسد يحيى، ويعيد إليه ما انتهك من كرامته، وللاتصال بهذه المعاني العزيزة يمنحه (البستانى) جواز سفر إلى رحلة الاختلاف الطاهرة، وذلك عندما أخبره أن (الأب) خلصه من أي ذنب، وعليه فلن يسمع تلك اللفظة القبيحة المؤذية التي ألصقها أهل حيه به29؛ لأنه لم يعد في هذا الدين لقيطاً: «أحس يحيى بأن الرجل هو أبوه الغائب30».

وما يستنتج مما سبق أن (يحيى) يتخذ من الآخر، في جميع الأمثلة السالفة، رمزا للتفوق والمثالية في مناحٍ حياتية شتى افتقدها لدن أهله؛ ليكون بذلك معادلاً موضوعياً للحياة، ويمكن أن يحقق ذاته بمبادئه وقيمه، ويملأ كيانه بتصوراته ومعتقداته. وبمقتضى ذلك كله اقتنع بالمضي قدماً في قراره باعتناق المسيحية، وظن الوجاهة في رأيه فحسب، وقاده ذلك إلي المواجهة الفعلية، بعد أن كانت ذهنية تنطوي في مقام داخلي. نستدل على ذلك من حديثه الآتي عندما ناقشه أحد الرجال في مسألة دينه الجديد:

« ــــــ ليس لدي أي شيء أخسره.. وهذا الوطن لا يخصني!

ــــــ جلدك، دمك، روحك، كلها تخصنا!

ــــــ هذه كلها تعود بملكيتها إلى المزابل، أما روحي فقد أعطيتها لرجل لا تؤمن به»ـ31.

بهذه الحجج يقنع (يحيى) الصوت الشاذ والمتردد فيه بمشروعية ما يود القيام به، ليخلص إلى نتيجة مفادها: «أن يصير مسيحياً الآن لم تعد قضية روحية محضة! 32». والوصول إلى هذه النتيجة ليس حداً للحجج، بل هو منطلق لحجج أخرى ستنكشف مع اكتسابه موقعاً عند الآخر، على نحو ما سنقف عليه لاحقاً.

تلك هي قصة نشوء الوعي الجديد لدى (يحيى)؛ وإرادة التحول التي تجلت بالانفتاح على إشكالية الهوية. وقد عمدت الرواية إلى التعبير عنها جمالياً بمحاورتها أو مخاصمتها أو مجادلتها. وإذا سألنا: إلى أي مصير سيؤول (يحيى)، المعذب بتعاسة ماضيه، المحتار من تشابك حاضره، وهو يعقد العزم على إنفاذ قراره؟ فلا بد لنا، للحصول على إجابة، من ترجمة الرواية إلى دلالات أعمق بالوقوف على بليغ الإشارات التي طفح بها النص. وما يكشفه في هذا المجال ازدواجية الزمن بين الماضي والحاضر، وتداعياته على (يحيى) في علاقته بالآخر.

2 ـــ صراع القيم في ضوء تحولات الزمن

إن ما يميز الزمن فى رواية (الأقلف) هو تفتيت مسار الأحداث بعرضها في وحدات زمنية متكسرة ومتقطعة تنهض الشخصيات بشدها إلى دائرة واحدة هي ذات (يحيى). وقد أتت هذه الشخصيات لتعكس، من جهة أولى، وجوها من قيم الواقع ومظاهر تأزمه وأبعاده المتناقضة التي يواجهها (يحيى) ، وهو يخوض تجربة البحث عن الذات. وتُخضع، من جهة ثانية، الرواية لبنية ثنائية مزدوجة في الزمن، إذ إن التغيير الذي عزم عليه (يحيى) سيصيب مجرى الأحداث في الجوهر، وسيوقفنا على لحظتين زمنيتين حاسمتين، الأولى تقترن بأهل حيه؛ والثانية تتعلق بالآخر. وهاتان اللحظتان تتبادلان في حضورهما في النص؛ لتشير الأولى إلى الماضي، والأخرى إلى الحاضر.

إن رغبة (يحيى) في التحرر من كل أشكال القمع والقهر والتسلط على صعيد الذات واسع بوقفها على شخصيات تمثل إما الزمن الماضى، وأما الزمن الحاضر وإما الزمنين معاً. فبمحور الماضى تتجسد أمامنا شخصيات تبلور الذاكرة التاريخية ليحيى، ومنظومة القيم والعلاقات التي تربطه بها، وتشكل توجهاته وأحكامه. وأبرز من يمثل هذا المحور: الجدة وصديقه (إسحاق)، وأهل حيه. أما محور الزمن الراهن فيتعلق في غالبه بالآخر، وأوضح نموذج له (ميري). إلا أن الحدود بين الزمنين قد تتداخل وتتقاطع فيمْثل الماضي في الحاضر عبر تذكر الأحداث المنصرمة، وما ارتبط بها من وقائع في لحظة السرد. ولم يمنع التقابل بين هذين الزمنين من الانفتاح على المستقبل، وهو الزمن الذي اتخذه الراوي ليفتح النص على تأويلات متعددة تصنع الالتحام بقارئ حر في رسم موقعه.

يحضر الماضي من خلال الجدة الخرساء التي حاول (يحيى) بإصرار أن يستحضر عن طريقها تاريخه، إلا أن رجاءه يخيب بسبب خرس الجدة: «أخبريني.. يا جدتي! 

كأنه كان يخاطب الزمن المتواري، والأحبة المختفين وراء القسوة والشهوة. ليس ثمة ذاكرة هنا، ليس ثمة سوى خرس مُحب. يترنح ويسقط في حفرة الفراغ والغياب»33. ولعل خرس الماضي أوهن اتصال (يحيى) به، فشحبت ملامحه داخل نفسه، وسهل عليه الانبتار، والانفصال عن جذوره. فماذا يبقى للإنسان إذا نُحِي عن تراثه وتاريخه، وأهمل تعبئة ذاكرته وصياغة كيانه بهما؟ بل ماذا يبقى من الإنسان إذا خسر كنز الذكريات وجذور الانغراس في نفسه وبيئته؟ إن هذه الذكريات والتاريخ والتراث قصة حياة ووجود وفعل، ومتى طُمست وضُعِت هذه القصة موضع شك، وافتقد الماضي حرارته ووهجه وقيمته ورؤاه فكأنه باطل لا يقبض من ورائه على شيء.

ومن هنا قتلت الرواية الجدة في الوقت المناسب34، قبل أن يأتي مولود (يحيى) الجديد من (ميري) ، وهو يرمز إلى استشراف زمن قادم؛ فإذا كان الماضي قد خرس عن النطق في الحاضر، فماذا عساه يقول في المستقبل؟ هكذا يعطي موت الجدة مسوغاً حكائباً ليشغل يحيى هويته على النحو الذي يشاء.

أما (إسحاق) فقد مثل ليحيى في الزمن الماضي حالة وجودية خاصة؛ إذ كان يشاطره حياة البؤس والاستغلال. إلا أنه ظل مستمسكا بالقيم الموروثة، وبالرغم من هامشيته كان متصالحاً مع الواقع، يستمد من تهافته وتأزمه ما يشحن إرادته بقدرة فائقة على الصمود، فطابت له الحياة، وركن إليها، وحاول أن بوثق حبالها بيحيى ليتمدد الماضي في حاضره. إلا أن إرادة يحيى في التغيير، وانشداده إلى حاضر ينفتح فيه على الآخر يحول بينه وبين مرام إسحاق. وهو ما ولد في نفس هذا الأخير حقداً وكرها ليحيى، ورأى أنه بذلك إنما يتنكر لأصله وقيمه، ويسقط في أوحال الحاضر الذي يستغرق مداه الأجنبيٌ. لذا حاول إسحاق، بعد محاولات خاسرة من النصح، أن يتخلص من يحيى35 ، ولما لم تكن الطعنة قاتلة، عمد إلى إضرام النار في الكوخ الذي تقبع فيه جدته36، والمعنى الرمزي لهذين المشهدين أبين من أن يحتاج إلى دليل، ومؤداه إصرار إسحاق على إنهاء كل علاقة له بيحيى، ونسف هويته المتصلة بتراثه وتاريخه.

أما أهل حيه فلا يختلفون كثيراً عن الجدة فهم الماضي القديم، وهم شبكة القيم والمفاهيم التي يصدر عنها أي فرد ينتمي إليهم، وهم البنية الاجتماعية والعقدية التي تحدد مسار يحيى، وتندس في أعماق لاوعيه، وتكون ذاكرته الجمعية، وتصب ذاته في قالب لا يند عن قوالبهم. ومن أجل ذلك شنوا عليه حرباً ونفسية محمومة عندما علق الصليب على صدره. ولكنهم، على ذلك، ظلوا متمسكين به في حاضره كما ماضيه، بدليل زيارتهم له في المستشفى عندما طعن، إذ وجدهم يتدفقون عليه، ويحيطونه بلطفهم وثرثرتهم وحكاياتهم37. وكذا كان شانهم في وفاة جدته؛ إذ «اندفع الناس إليه، وراح بعضهم يصافحه قائلأ: ـــــ عظم الله أجرك! وهو لا يعرف بماذا يرد، وأمسك بعضهم يده بحراره، وراح يقبله، فهدأ (…) ووجد أبناء حيه يحضرون الأكل، وتصطف الصواني المليئة بالأرز واللحم، وهز جمعٌ غفير المكان، لكن الغرفة اتسعت له، وتداخلت أرجله وسواعده وكلماته وكرات أرزه ولحمه»38. ومن هنا أدرك أنهم، وإن قسوا عليه وحاربوه، سيبقون رمزاً للجذور العميقة الضاربة في أعماق التاريخ، فبوجودهم ينوجد، وبدونهم يستحيل أن تنهض حياته ويستوي عمقه الإنسانى بمختلف أبعاده. وهذا ما أفصح عنه بصوته المندرج في خطاب الراوي: «إنهم أهله، خلاياه الصلبة من قدورهم وأكياسهم (…) أكان من الممكن أن يكون لولا هذا الجمع الإنساني المتواري تحت جلده»39. كما أنهم ظلوا شاخصين أمام مرآه في مستقبله، إذ لا يكادون يغفلون عن ذهنه في كل ما يستشرفه لبناء مستقبل أفضل من الراهن، على نحو ما سيتضح بعد قليل.

أما ميري فقد مثلت المنعطف الرئيسي في حياة يحيى إذ نقلته إلى حاضر راهن يناقض الماضي، ومعها اكتشف دواعي حياة تعترف بكرامته وحقوقه، وكيانه الإنساني النبيل؛ فاضطر إلى مراجعة موقفه من مجتمعه وانتمائه لهم. وقرر نفي الماضي، رغبة في تشكيل حياة تتفق مع إرادته ومآربه. والحق أن ميري أعجبت بيحيى، وأرادت أن تكون معه حياة عاطفية جديدة تصير متنفسا لما كبت في نفسها من رغبات. والشاهد على ذلك تساؤلها عبر حديث داخلى: «أين هو كيانها الخاص وملكيتها العاطفية؟»40. كما أنها شاءت أن ترتبط بيحيى ليعوضها عن تلك العلاقة الشاذة المنحرفة التي أراد أن يقيمها أبوها معها في الماضي؛ فهربت منه؛ لتضطلع بمهمة التبشير في دور ممرضة بمستشفى الإرسالية الأمريكية41. ومن هنا كان يحيى بمثابة المنقذ الذي دفعها إلى مساءلة الماضي المنتكس، وفتح لها آفاق وعي جديد في الحاضر. ولذا أرادت أن تقول لمسؤولها تومسون: « ـــــ أرجوك.. اعفني من هذا العمل! لكنها لم تقلها، لأن انفجار الجملة سيعني عودتها إلى بلادها وحرمانها من هذه الفرصة للعيش وللتجربة الروحية»42.

وأنقى وأشفٌ تجربة روحية يمكن أن تلون بها رحلةُ التطهر من دنس الماضى، لذلك ترفعت عن سفاسف الحياة، وأَنِفَتْ من اتخاذ يحيى طعماً لغاية نفعية. وقد نقل لنا الراوي بصوته ما يجول في خلدها من صراع بقوله: «لكن الضمير الذي اشتعل بعد استلام النقود، وصرخات التأنيب، جعلاها تغوص في بركة الدم والأعضاء المتطوعة، وتمزق الروح (…) إنها الآن تدرك محنتها: إنها لا تستطيع أن تدفع يحيى في طريق التجربة الوعرة، لأنها قد تخسره. إنها لا تستطيع أن تتاجر به، أو تجعله كبش فداء لإرسالية خائبة»43. ولا يقتصر وجود ميري على هذين الزمنين، بل كانت المحرك السردي لولوج المستقبل لأنها تصنع الأمومة، وستضع ليحيى طفلاً سيرسم مصيراً جديداً للإنسان، ويفتح إشكالات ورؤى جديدة تجعل مسألة الهوية تنفتح أبدا على السؤال.

«أما الدكتور تومسون فهو ماضٍ في صفقته مشترياً روحه (يحيى) دون أن يدفع قلقاً أو حباً»44. هكذا تبدى ليحيى أن علاقته بتومسون إنما تنهض على المصالح ومبدأ استغلال طرف لطرف؛ وما البعد الروحي السامي لدينه، والمبادئ المثالية التي يتشدق بها إلا مجرد قناع يتخفى من ورائه لتحقيق منافعه؛ فيتاجر بالإنسان، ويتمعش من يحيى، ويتعاطى معه على أنه غدا سلعة ينبغي التحايل عليها بإخفاء التافه والحقير منها بالتزيين والتهذيب. يقول مخاطباً يحيى: «نحن انتزعناك من مستنقع الوثنيين والمجرمين ورفعناك إلى ألق المسلح؛ صرت تتكلم بلغة لم يحلم أجدادك بمعرفتها، وضعناك في فاترينة ملونة»45. هكذا أخذ (تومسون) يذكر (يحيى) بحقيقته في الماضي؛ ويصور له ما آل إليه بهدي من قيمهم وغاياتهم؛ ليستلب إنسانيته، ويظهر له تميزهم واختلافهم العنصري عن أجداده. وهو اختلاف غالباً ما يسوغ به الاستعمار نفسه، وأحقية وجوده؛ وبالتالي جدارة بنيته الهرمة التي ينهض عليها، والعلاقة بين طرفيها علاقة سيد بمسود.

ويكفينا شاهدا على هذا طلبه بكل بظاظة وصلف من يحيى بالانفصال عن ميري، وإسقاط الجنين46. محولاً بذلك فاعليته التي توهم اكتسابها إلى عجز، ومبطلاً في نفسه جدوى حرية الاختيار، وحق مزاولة الفعل والوعى والتجربة. وليس من الهين على (يحيى) احتمال هذه الحياة القائمة على الطاعة وتطبيق الأوامر التي تُقلص فيه البعد الإنساني؛ وهو الذي تمرد على أهله؛ فما كان منه إلا أن هرب مع ميري47.

|ن الأمثلة الأخيرة في علاقتها مع الأمثلة الأولى تجلي ثنائية الأنا والآخر بشكل صريح، فهي بمثابة المرآة التي تعكس جملة القصة؛ لتعبر عن عمق المعاناة التي يتجرعها يحيى وهو يبحث عن ذاته؛ ويروم تشكيل هويته. فهو دائم الاضطراب بين قيم تتصارع وتتصادم في ذاته ووقعه، وما يكاد يحدد موقفه من الحاضر الذي اعترف به، ووجده معادلاً موضوعياً يعوض به ما افتقده في الماضي، حتى تطالعه علاقات جديدة، ويستجلي رؤى مضادة لما واجهه في مفتتح علاقاته.

ولعل أكثر المواقف تأزماً موقفه مع تومسون؛ إذ انكشف له أنه «لم يفز إلا بقطعة من الحديد معلقة في رقبته، وأصبح محرجاً وهي تهتز وتكاد تبرز هويته، خارجة إلى دهشة العيون !» 48. فاستحال الإعجاب انحداراً وتقهقراً، واتضح له أن الآخر لا يعكس صورته، ولا يمثل شخصيته، والأدهى من ذلك أنه لم يغنم منه إلا تبعية تغريه بزيف الانتماء، ووهم التحضر، وتكرس، في الآن ذاته، مبدأ الإذعان والامتثال لها. وقد سرد لنا الراوي، بلغة تعبيرية موحية، أحاسيس المرارة التي يجترها يحيى نتيجة هذا الوضع الصعب: «الصليب يتوارى في الخزانة (…) السأم يتملكه، والكآبة تستوطن غرفة صدره أبداً (…) ولولا الخمرة والسجائر لألقى بنفسه من النافذة»49.

يتبين مما سبق كيف يضحى الزمن في الرواية محلّ نظر ومساءلة؛ لتتراجع الحكاية إلى الوراء كلما استجدت أحداث في الزمن الراهن.

ومن هنا كان ماضي يحيى متلبساً بفعل التذكر، يستحضر ما انصرم من أحداث، ويعلق عليها، وينظر في أسبابها ومآلاتها؛ ما يكشف إحساسه الحاد بالازدواجية والتذبذب من جهة، وضرورة إثبات الذات، ومواجهة الواقع الجديد، من جهة ثانية، إذ إنه «مع ازدياد الوعي بالحاضر، يزداد الاهتمام بالتاريخ، بوصفه خلفية الحاضر أو (تاريخ الحاضر)»50. ولذلك يحق القول إن الزمن في (الأقلف) ليس ذا وظيفة سردية خالصة، وإنما وظيفته أيضاً تفسيرية تنهض برصد وجوه العلاقة الثنائية بين الأنا والآخر، وتوجيهها وجهة خاصة تكسبها بعداً إيديولوجياً.

ولئن أفضت هذه الثنائية إلى ازدواج البنية الزمنية وتأرجحها بين الماضي والحاضر، واشتركت الشخصيات، المندرجة ضمن طبقتين زمنيتين متباينتين، في إضاءة هذه الثنائية؛ فإنها أفضت أيضاً إلى ازدواجية الفضاء، ليتشكل من بعدين لهما مرجعية قيمية متصادمة.

فما تداعيات ذلك على سؤال الهوية؟

3 ـــ مرجعية الفضاء وإشكالية الانتماء:

إن السمة الأساسية لفضاءات (الأقلف) مرجعيتها الواقعية من خلال أمكنة يسهل استحضارها والتعرف إليها. وهي فضاءات قائمة في بنيتها على ثنائية الأنا والآخر، فهما المستقران اللذان تنقل بينهما يحيى ليرمز الأول إلى القضية الوطنية، ويرمز الثاني إلى القضية الاستعمارية. ومن الملاحظ أيضاً في هذين الفضاءين أنهما مبنيان على أساس طبقى يعطي قيمة الوجاهة والتفوق للمستعمِر المنتصب في المركز، على حساب المستعمَر القابع في الهامش. وسنعمد فيما يلي إلى اختيار أبلغ الأمكنة دلالة، وأقدرها إفصاحا عن سؤال الهوية، وإبرازاً لرمزية المكان المزدوجة.

يقف الراوي منذ مفتتح النص على فضاء مغلق ينزوي فيه يحيى ويتوارى عن الأنظار. يقول في بيان ذلك: «ملحق بكوخ، وبأرض خلاء (…) الأرض الخلاء الواسعة التي تلي الأكواخ، تبدو رمادية كالحة، تنتشر فيها الحفر الكبيرة التي تتخذ أمكنة لقضاء الحاجة، وهي تتحول إلى مستنقعات سبخة عندما ينهمر المطر. وتقع فيها مزابل وأراضٍ رحبة مليئة برمل ناعم»51. كما حرص على وصف الفضاء المحيط بهذا الكوخ.

يقول: «وفي شرق هذه الأرض تقع أكواخ تمتلئ بعبيد سابقين، وفرق الرقص ومنازل الشاذين وشلل القمار والرجال «الإزكرت» ، وبعدها يتراءى البحر. وفي غربها تمتد مستنقعات وأكواخ متناثرة وبنايات قليلة ومقابر غريبه. هذه الساحة، كانت الوجود المرئي والمغذي ليحيى»52. هكذا يدلنا الراوي على فضاء التجربة الحياتية ليحيى في بؤسها وشقائها، وهي مياسم تكفل برسم بعض ملامحها الفضاءُ الذي يجسد الأحياء الشعبية البائسة والفقيرة للمهتشين؛ ليتحول إلى لغة رمزية توحي بسمات الشخوص، وطبيعة أعمالهم، ومشاغلهم، وما يصدر عنهم من قيم أخلاقية وسلوكية. ولعل ما يستفز العين بكل وقاحة وجرأة هو أن هذه الأحياء المعدومة تقع قُبالة أحياء اليهود والنصارى الراقية الغائرة بين بقايا البساتين وثلل الفلل الزاهية الموحية برفه العيش53، ولا يخيم هذا التمايز العنصري والتركيب الطبقي بظلاله الثقيلة على تخوم الحياة، بل حتى على تخوم الموت، فيستقطب تلك الفضاءات التي انزاحت عنها الحياة، وران عليها الفناء ليرسم ملامح الاختلاف والتنافر بين مقبرة المسلمين ومقبرتي المسيح واليهود54. وجميع ذلك يطرح في المكان كمية هائلة من الغبن والظلم، ويضخم الشعور بالقهر والاعتساف وهدر الكرامة.

ولكن بالرغم من قسوة هذا التقابل المرئى إلا أنه كان واقعاً معيشاً يستمرئه الحى الفقير، ويعترف به، ويتعامل معه بنوع من التحجر والتبلد الوجداني دون إحساس بما يطرحه من ظلم، بل إن الأولاد يقضون في تلك البساتين لحظات مرح وحياة، وهم بذلك يقدمون شهادة على استساغة أهل الحي هذا الوجود الطبقي، فهو في اعتقادهم قدر محتوم، وسنة كونية لا سبيل إلى الفرار منها. وفي تأكيد ذلك يقول يحيى: «إن المقامات محفوظة للبشر. إن السمر والسود غير البيض، والغرباء الممتلؤون مالاً وعلماً غير المشردين، ومن يضعون رؤوسهم على وسائد حريرية غير من يضعونها على الأرض ذات «العناصيص»، ومن يمتلكون لغة وسحراً غير الخرس الجياع.. 55». وليس أخطر من هكذا اعتراف يمنح الآخر أحقية التميز والاختلاف؛ ليُختم بالتفوق أبداً، ويقيم دائماً في المركز. ويُقصى إلى الهامش من هو دونه، وتُستلب إنسانيته، ويوصم بالتخلف، ، ويعمد إلى تغرييبه عن وعيه لذاته.

ولئن عبر يحيى بعباراته السابقة عن قناعة متأصلة في البنية الذهنية لحده، فإنه من جانب آخر يكشف بها عن وعيه الحاد بالصراع الطبقي، ولا يخفى ما في مقارناته المتلاحقة والمصطبغة بنزعة قيمية، من رغبة لاعجة في التغيير، وامتلاك البديل. ولن ينتظر طويلاً لتحقيق هذه الرغبة، إذ ستلوح له بشائرها الأولى بانتقاله من الكوخ إلى مستشفى الإرساليّة الأمريكية للعلاج.

يجسد فضاء المستشفى نسقاً مرجعياً ذا دلالة، وخطاباً إيديولوجيا يعكس قيما متشابكة تمثل الآخر في قيمه وتصوراته ومبادئه وغاياته. وقدوم يحيى إليه كشف له ضروباً صارخة من التناقض بين مكانه القديم وبين هذا المكان، ليس فقط في المعالم الميتافيزيقيا، وإنما أيضاً في القيم والرؤى التي تجلت بصورة واضحة من خلال ميري؛ وبمقتضى ذلك انتابه شعور جامح في الانتماء إلى الأجنبي الذي يمثل هذا الفضاء خير تمثيل، مقتنعاً بأن لا قيمة سواه، وكأنه المكان الملاذ في مقابل المكان المرفوض. وعلى هذا النحو يلبي يحيى رسالة هذا المكان في بعدها الروحي، ويعتنق دين الآخر الذي ساع إلى استغلاله على نحو ما سنرى في مبنى الصحافة.

ووفقاً لهذا القرار المصيري الذي أقدم عليه يحيى، وبارتباطه بميري وجد نفسه مجبراً على مشاركة الآخر حياته وتبني تصوراته وقيمه. واقتضى منه ذلك إقامة علاقة جديدة بالمكان مناوئة للمكان السابق، ولم يكن هذا باليسير عليه. ومن الشواهد الدالة على ذلك ما أفشاه الراوي من خواطر مكتومة في نفس يحيى عندما كان جالساً بمعية ميرى إلى جماعة من الأجانب. يقول الراوي: «يأخذهما الجيران إلى أصدقاء لهم في الريف، حيث البيوت الفاخرة المتوارية وراء ثلل النخيل والأشجار، والبرك وضجيج الماء. يثرثرون ويغنون وتمتلئ الطاولات بالأطباق وتنتشر السفافيد التي تقلب لحوم الخراف، وتزهو الكؤوس المترعة.. وهو لا يستطيع أن يمضغ اللحم واللغة، ولا يعرف كيف تراءت له صورة حيه القديم، وعربة علي المدخن تلهب الأرض الساخنة بعجلاتها»56. هكذا يتصارع في ذات (يحيى) مكانان. الأول مكان قديم، ولكنه لا يزال يملأ وجدانه ويكيف سلوكه وتصرفاته بما يحويه من قيم ومشاهد وشخوص، ويصدر عنه في مواقفه وتصوراته وردود أفعاله. ومكان حديث لا يقدر على صياغة مقتضياته في رؤى ومفاهيم وقيم يتمثلها، ويترجمها عملياً في حياته. ونتيجة لذلك ينفصل يحيى عن هذا الفضاء الحديث، إذ يحول بينهما صلابة واقع معيش يحضر في كيانه بأدق تفاصيله وخباياه، وتستولي على مشاعره شخصيات مكدودة التحم بها التحاماً في قريته الفقيرة المعدومة؛ فهم مرآة تعكس ذاته، وتستجلي أغواره الدفينة. وهو جزء لا يكتمل إلا بهم، وكم يعز عليه أن يبقوا ضحايا ظروف القهر المادي والمعنوي، وقد ساقه هذا التعاطف معهم إلى الانتصار لهم في عالمه الخيالي؛ فثبت يقيناً في نفسه أن العدل والحق والكرامة ستحل يوماً ما قريباً من دارهم؛ وتبعاً لذلك نجده في شاهد سابق يقول: «إن سكان الأكواخ كعلي المدخن وابنه غلام وعائشة وسالم الأسود وغيرهم سيندفعون ذات يوم ليسكنوا البيوت والقصور والحدائق.. وسيكون الله معهم.. يعطيهم العالم كله»57.

وقد يفضح انحشار القرية القديمة في كيان يحيى، وهو في حياض الأجنبي، ملمحاً قيميّاً آخر يدلل على أنه لا يعيش الفضاء المنسوب إلى الآخر ليمحي خصوصيته، وذاك الماضي المترسب في الذاكرة الجماعية، بل يعيشه ليدرجه ضمن خطة حجاجية يحاكم بها المستعمِر، ويقيم عليه البرهان الذي يسوغ للمستعمَر التصدي له، والوقوف ضد ما يمارسه من ظلم اجتماعي؛ إذ ليس من العدل أن يستأثر الأجنبي بكل مقومات الحياة الرغيدة، ويترك الفتات والسقط للشعب. ويمكن استجلاء هذه المعاني من خلال المقطع الآتي: «المدينة المرتفعة المسيجة. البيوت من خشب ملون، والسقوف من القرميد، والمداخن تنفث حياة، والأحواش ممتلئة بالأشجار وألعاب الأطفال (…) وجوه متوردة، وسواعد مكشوفة بضة، وكؤوس مترعة وبالونات طائرة، وموسيقى هادرة ورقص وقُبَل، وخدم يوزعون الكؤوس والطعام والأنس (…) أحس أنه غريب.. وأبصر في أسفل الجبل عشش عمال النفط الكثيفة المتراصة، وجاءت روائح وأدخنة فظيعة58».

على هذا النحو يتعمق إحساس (يحيى) بالغربة عن المكان، ويشعر بأنه دخيل وناتئ وممزق بين الذات والموضوع، بين ذاته التي لا قدرة لها على استيعاب نفسها إلا من خلال شبكة العلاقات التي تصلها بتاريخها الماضي المستقر في أولئك العمال الذين أبصرهم؛ وبين الواقع الراهن أمامه، وفيه تلحّ مرجعية الفضاء على معاني البعد والتمييز بين مكان مرتفع تزهو فوقه بيوت الأجانب الخشبية الزاهية التي «امتلأت بقناديل ملؤنة وأشرطة، وكان ثمة فناء واسع مغطى؛ ترامت تحته الطاولات والمقاعد والمأكولات والبشر»59. وبين مكان آخر مقصى خفيض تملأه عشش عمال النفط. لا شك إذن في أن هذا الأجنبي يوجد نفسه في المكان على أساس طبقي، وشساعة المسافة بينه وبين عشش العمال تأتي للإيهام بالاختلاف الحضارى، واستحقاق الرئاسة؛ والإبقاء على السيطرة والنفوذ. والوقوف على هذه الحقيقة أدت إلى اضطراب يحيى لا سيما بعد وقوعه على هوية العمال الوليدة؛ فهو «يعرف كل هؤلاء الرجال القادمين من العشش، غسالي الثياب والبحارة والحمّارين»60.

ولما كانت صلته بهم على هذا النحو من الاتحاد بما يذيب الفوارق المصطنعة، ارتد إلى ذاته متسائلاً: «هل ينزل إلى أسفل الجبل يوزع الطعام، أم يتغذى بلحم أهله؟ أيذوب في هذه الطقوس البهيجة أم يبتر جسده؟»61.

وبما أن الثنائية بين هذين الفضاءين تنهض أصلاً على مبدأ الاستغلال والتسخير؛ فقد كان الصدام حتمياً؛ فما هي إلا لحظات حتى انطلقت «ضجة عالية تصعد من الحضيض. رأوا اضطراباً في عشش العمال وناراً مشتعلة»62. وما إن قامت الثورة حتى انهار كل شيء فجأة؛ وتعرى الأجنبي من مبادئه، وحط عليه القبح، ورفض على الناس حقهم في الكرامة، وأطلق فيهم يد القوة لتنالهم بالضرب والسجن والتقتيل.

عندها فاق يحيى من صدمة الانبهار التي وقع تحت وطأتها، ورأى مَنْ «التصق بهم في حفلات أعياد الميلاد البهيجة، ونافسهم في مخاصرة الفتيات الجميلات، وأصغى إلى خطبة الأحد معهم»63، يطلقون النار على المتظاهرين فتتساقط أجسادهم على الأرض.

بهذه الطريقة يتبين كيف أغرى الأجنبي (يحيى)، وانتزعه من ذاته ومجتمعه، ولم يكتفِ بذلك بل لم يلبث أن جعله عبداً لمخططاته وغاياته. فيسر له مهنة بصحيفة «يصوغها موظفون إنجليز وهنود وعرب، ويروح هو يترجم بيانات وأوامر إدارة الاحتلال»64. ومعها أدرك أنه يتنازل عن هويته ووطنيته، فأخذ يحدث نفسه مستنكراً: «أي تقارير غريبة عليه أن يتقيأها بلغة ناصعة (…) كانت الكلمات تغصّ في حلقه مثل عظام السمك»65. وبما أن المستعمَر في عقلية الأجنبي الإقطاعية ليس سوى موضوع استغلال، وأداة تقوم بوظيفة ما؛ فإن الطريقة الأمثل في التعامل معه إفراغُه من أبعاده النفسية والاجتماعية، وإشباعه بقناعاته هو وثقافته وتوجهاته فهي بالنسبة إليه حقيقة مطلقة ينغلق عليها، ويجعلها شارة للتميّز؛ ولذا رفض الأجنبى مقالات (يحيى) التى يدعو فيها إلى الحوار والتعايش، وردها ساخراً منها. يتجلى ذلك فيما ذكره الراوي عن يحيى: «يود أن يقيم جسراً بين النخيل والغابات. يجمع الصحراء والمحبة. أن يكون لعائشة ابنته فرصة العيش والحلم الجميل. لكن المدير يهزأ من خطبته ويشير إلى الباب والشارع»66.

إن يحيى، في منطق السيد الأجنبي، ليس إلا أجيراً؛ ولذا أرغمه على تحقيق غاياته بــ«كتابة أسطر الزيف، وخداع االحمام؛ وبالسخريات من الثياب والعُقُل والعباءات والمساجد».67 وتجنيده للسخرية من هذه الأشياء يأتي لكونها رمز هويته وموروثه الثقافي؛ وأمارة انتمائه الديني والحضاري وفي امتهانها تغريب للذات؛ وقبولٌ لهوية الآخر، وطمس هوية الأنا وتشويشها.

لقد أطلعت هذه المهنة يحيى على ما كان خافياً عنه من حقيقة الآخر؛ وأغنت وعيه برؤى جديدة أجّجت في نفسه دعوات الالتفاف على قوى القهر المتجسدة في المستعمِر؛ لذا ترقب ذلك المكان المؤمل أن تشتعل فيه الثورة، وهو الشارع رمز الحرية والكرامة؛ وذوبان الفوارق والالتحام، للدفاع عن قضية واحدة تشمل المجتمع هي القضية الوطنية.

وما إن هبت الثورة في الشارع حتى سكنت قلب يحيى فرحة عارمة. يقول الراوي في تأكيد ذلك: «كان ينصت إلى الدويّ العميق الذي يهزّ الأبنية والشوارع، فيشعر بالفرح الغريب والقلق الممَضّ»68.

وعلى إثر مشاركته في الثورة يجرجر إلى السجن؛ وهناك وقف بين يدي «ضابط إنجليزى يحدّق فيه. هذا الوجه سبق أن رآه (…) اسم مألوف مدوّ. ظنه قد اكتنز بحكمة الغرب: عصارة لقطاراته ومكانته وكتبه. لكنه فوجئ بسوقيته، وبهت من يده وهي تجره من قميصه وتصفعه».69 هكذا يظهر الأجنبي على حقيقته؛ فاقداً بذلك أي حسّ إنساني  في سبيل تحقيق غايته؛ منصّباً السجن فضاء أبوياً قمعياً، يُخضع من خرج عنه إلى قانونه الخاص الذي يقوم على حق القوة، لا قوة الحق. فالسجن فضاء اضطرار ينهض في كليته على الأوامر والمحظورات، ولا متسع فيه للحديث عن مساحة للتسامح والتساوي والاختلاف والحوار؛ إذ إن «العلاقات الآلية وحدها هي التي تفتقر إلى الطبيعة الحوارية»70. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة، أن تختل صلة يحيى بالآخر، وتنكمش علاقته معه. وهو ما يدل عليه هذا الشاهد: «يحاول أن يتجرد وينسحب من كل هذا العالم المجلوب، الذي بعثر أهله وضميره في شقوقه وألقه»71.

إن كل هذه الفضاءات بما تنطوي عليه من معطيات ايديولوجية وما تطرحه من تجاذبات ومواقف وردود أفعال، قادت يحيى إلى مراجعة موقفه، ومواجهة المستعمِر بتغيير جهة الصراع من الداخل إلى الخارج، بدل الصراع الذاتي الذي استولى عليه في المحورين السابقين. وقد اتخذ يحيى من الكتابة أداة نضال وصمود للانتصار لمقام العمال والكادحين، ومقاومة الغريب، والدفاع عن قضية الشعب المصيرية بامتلاك الأرض التي هي أهم محامل الهوية الوطنية. ولتحقيق ذلك «كان عليه أن ينتقم من جريدته. أن يكشف عن حزوز الأرض وأسنان العلل التي تقضم المجهولين المقبورين في زواياهم وحظائرهم وأسياخ الحديد والمشارط المهترئة والأسرة القذرة والقلاع الجهنمية تطحن عظامهم»72.

يُصِرّ يحيى على تمسكه بالأسلوب الحضاري في مواجهة المستعمِر، فهو لا يريد أن يكافح الشر بالشر، كما فعل صديقه القديم إسحاق الذي عكس مسار الثورة الصحيح ليأخذ حقه بالقتل73. وهذا المقصد النبيل الذي يسلكه يحيى في مقاومة المستعمِر يدلل بصورة واضحة على أن الإنسانية لا تتحقق ولا تسمو إلا بمجافاة العنف والاستبداد ذلك «أن الوجود الإنساني هو ما يوجد فقط في حالة حوار؛ في الوجود يجد المرء الآخر»74. وهذا ما لا ينتهجه المستعمِر الذي يتأبى على حذف المسافة الحضارية بينه وبين الآخرين، ويستهويه داء الاستعباد والاستبداد؛ لاقتناعه التام بجدواه في فرض هيبته وهيمنته.

لذا أسفرت آلة الحرب وعقلية العنف اللتان يمتطيهما عن مقتل زوجته ميري حرقاً جراء ألسنة النيران التي التهمت العمارة التي تقطنها75. وسلب منه ابنته (عائشة) التي كُتِبَتْ لها النجاة. ينقل الراوي هواجس يحيى إزاء حدث انتزاع ابنته منه فيقول: «من سيراها في علبة كاتونية ملقاة عند أحد الأزقة، أو في سرير ملجأ؟ ستصرخ من أجل معرفته وتلعن خطيئته!» 76. على هذا النحو الرمزي يبقى سؤال الهوية قائماً بلا جواب؛ لأنه منفتح أبداً على الواقع في إشكالاته المعقدة؛ وصيغه الشائكة؛ ومظاهر اضطرابه، وتقاطعات الذات وتداخلاتها مع الآخر؛ ما يجعل القبض على ملامح علاقة الأنا مع الآخر أمراً يكاد يكون مستحيلاً.

وأخيراً ينتهي المطاف بيحيى ليكون فداء للوطن. وتأتي هذه التضحية شهادة على أن الوطن أعلى وأعز من أن يتحكم فيه الأجنبي؛ فهو الضامن للكيان؛ والحرية، والكرامة، والكافل للسيادة، وعن طريقه يصنع الإنسان تاريخه ومصيره، ويترجم كفاحه من أجل الوجود.

تلك هي المسألة التي أصرّ عليها (يحيى) في كل الرواية، وناضل من أجلها؛ وحاول اختيار المواقف العارضة والأصيلة في سبيل تبينها.

فالوطن هو الهوية هو يحيى نفسه الذي ضحى بكل ما فيه من أجله، فشارك في المظاهرات ضد الأجنبي الغريب، وكتب المقالات الوطنية إخلاصاً ووفاءٍ لأرضه، وقاوم المستعمِر بعد أن أدرك غاياته، فنقض خططه، وحرض عليه، ودعا إلى الاحتجاج ضده. ولئن كان كذلك فلأنه عنوان الرفض القوي المتشبث بالجماعة، المتأبّي على محاولات المسخ والطمس والتشويه. ومما يبرز هذه المعاني بجلاء خاتمة الرواية التى تصور لحظة درامية مكثفة من فصول حياة (يحيى) الأخيرة:

«فتح عينيه بقوة ليرى شيئاً يشبه المشنقة، أو الصليب، وجسماً ما يُقاد إليها.. سمع صرخة باسم الوطن، ثم تأرجح الجسد في المطر»77.

بهذا الشكل تبدّت علاقة الأنا مع الآخر في الرواية، وقد استجلى الكاتب صيغ تفاعلها، ودلالاتها المتعددة، بالوقوف على العوامل المسؤولة عنها، والنظر في معطياتها الإيديولوجية والفكرية، واستنباط المفاهيم والرؤى التي تعيننا على ترجمة شخصيتنا، ومزاولة تجربتنا الحياتية. ومؤدى القضية عنده أن الذات لا تستطيع فهم كيانها الشخصي وعمقها الإنساني، ولا تستطيع تقديم رؤية للعالم تضبط بها موقفها وموقعها، وتبلور من خلالها وعيها وشروطها إلا بفهم الآخر؛ ذلك أننا «نقيم أنفسنا من منظور الآخرين (…) بصورة ثابتة تماما يمكن القول إننا نتفحص تأملاتنا وتفكراتنا بحياتنا الخاصة ونتفهمها عبر وعي الأشخاص الآخرين»78. إن هذا الاتجاه لمما يمنح مسالك الوعي وجاهتها، ويجعل التعامل مع الهوية التي هي معادل ذهني مجرد للواقع تعاملاً يستند إلى العلمي الموضوعي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1 ــ تزفيتان تودوروف: ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/ عمّان، ط ٢، ١٩٩٦،ص ١٧٥.

 2ــ ينظر: عبدالله خليفة: الأقلف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط ١ ، ٢٠٠٢ ، ص،٥٤،٢٦،١١.

3 ــ ينظر: المصدر السابق، ص٦٩، ٢٨، ٦٩، ١٥٢.

 4ــ المصدر السابق، ص ٥.    

 5ــ المصدر السابق، الصفحة نفسها.

6 ــ ينظر: المصدر السابق؛ ص٩.

7 ــ المصدر السابق؛ ص٦.

8 ــ المصدر السابق،ص٩-١٠.

 9ــ المصدر السابق، ص١٣ .

 10ــ  ينظر: المصدر السابق، الصفحة نفسها.

11ــ المصدر السابق، ص١٣ -١٤ .

12ــ المصدر السابق، ص ١١ .

13ــ المصدر السابق، ص ١٤.

14ــ المصدر السابق، ص ١٤.

15ــ المصدر السابق، ص١٢ .

16ــ المصدر السابق، ص١٣ .

17ــ المصدر السابق، ص٣٧.

18ــ المصدر السابق، ص ١٨.

19ــ المصدر السابق، ص ٢١.

20ــ المصدر السابق، ص٢٨.

21ــ المصدر السابق، ص٣٣.

22ــ المصدر السابق، ص٣5.

23ــ فيصل دراج: نظرية الرواية والرواية العربية، المركز، الثقافي العربي، الدار البيضاء ط١،١٩٩٩، ص١٤.

24ــ عبدالله خليفة: الأقلف، مصدر سابق، ص٤٣.

25ــ المصدر السابق، ص ٥١.

26ــ المصدر السابق، ص ٣٤.

27ــ المصدر السابق، ص٤٣ .

28ــ ينظر: المصدر السابق، ص ٤١.

29ــ ينظر: المصدر السابق، ص٤٣.

30ــ المصدر السابق، ص 50.

31ــ المصدر السابق، ص٨٦-٨٧.

32ــ المصدر السابق، ص 54.

33ــ المصدر السابق، ص١٣ .

34ــ ينظر: المصدر السابق، ص١١٨.

35ــ ينظر: المصدر السابق، ص١٠٨ – ١١٠ .

36ــ ينظر: المصدر السابق، ص ١١٠، ٠١٢٥

37ــ ينظر: المصدر السابق، ص 115.

38ــ المصدر السابق، ص١٢٢.

39ــ المصدر السابق، ص ١١٥.

 40ــ المصدر السابق، ص ٥١.

 41ــ ينظر: المصدر السابق، ص١٠٣-١٠٥.

 42ــ المصدر السابق، ص٥٧.

 43ــ المصدر السابق، ص، ٥٦، ٥٧، ٥٨.

44 ــ المصدر السابق، ص ٩٩.

45 ــ المصدر السابق، ص١٣١.

46 ــ ينظر: المصدر السابق؛ ص ١٣٢.

47 ــ ينظر: المصدر السابق؛ ص١٣٤.

48 ــ المصدر السابق، ص ١٠٠.

49 ــ المصدر السابق، ص ١٤٥.

50 ــ جورج لوكاتش: الرواية التاريخية، ترجمة: صالح جواد الكاظم، دار الشؤون

الثقافية العامة بغداد، ط٢، ١٩٨٦، ص٧.

51 ــ عبدالله خليفة: الأقلف، مصدر سابق، ص 5.

52 ــ المصدر السابق، الصفحة نفسها.

53 ــ ينظر: المصدر السابق، ص ٨ -٩.

54 ــ ينظر: المصدر نفسه، ص٢٣-٢٤.

55 ــ المصدر نفسه، ص٣٣.

56 ــ المصدر السابق، ص ١٤٧.

57 ــ المصدر نفسه، ص ٤٢ .

58 ــ المصدر السابق، ص57-٧٦.

59 ــ المصدر السابق، ص٧5.

60 ــ المصدر السابق، ص١٢٤-125.

61 ــ المصدر السابق، ص٧٦.

62 ــ المصدر السابق، ص٧٦.

63 ــ المصدر السابق، ص١٢٦ .

64 ــ المصدر السابق، ص١٤٣.

65 ــ المصدر السابق، الصفحة نفسها.

66 ــ المصدر السابق، ص 158.

67 ــ المصدر السابق، ص ٠ 5 ١.

68 ــ المصدر السابق، ص ١٦٠.

69 ــ المصدر ال  سابق، ص ١٣٦.

70 ــ ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط١، ١٩٨٦. ص٥٩.

71 ــ عبدالله خليفة: الأقلف، مصدر سابق، ص ١٥٠.

72 ــ المصدر السابق، ص ١٥٤.

73 ــ ينظر: المصدر السابق، ص ١٥٢.

74 ــ تزفيتان تودوروف: ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، مرجع سابق، ص١٧.

75 ــ عبدالله خليفة؛ الأقلف مصدر سابق، ص١٦٣.

76 ــ المصدر السابق، ص ١٦٨.

77 ــ المصدر السابق، ص ١٦٩.

78 ــ تزفيتان تودوروف: ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، مرجع سابق. ص ١٧٥-

١٧٦.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: جدل الأنا والآخر وقلق الهويّة

د. انيسة السعدون في دراسة عن رواية الاقلف عبـــــــدالله خلــــــــيفة 𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆 – YouTube

أضف تعليق